بين مؤتمر الأممالمتحدة لمكافحة العنصرية، المعروف باسم مؤتمر «ديربان 1»، الذي عقد في مطلع شهر أيلول (سبتمبر) 2001، ومؤتمر «ديربان 2» الذي يفتتح اليوم في قصر الأممالمتحدةبجنيف، مرت ثماني سنوات، وقد يكون من الصعب العثور في التاريخ الإنساني على فترة أشد عنصرية من هذه الفترة! ذلك أنه ما إن انفضَّ مؤتمر «ديربان 1» في جنوب أفريقيا بتوصياته الحازمة ضد «ممارسات العنصرية»، حتى انشغل العالم بتبعات أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، التي أنست ما قبلها من أحداث بما في ذلك توصيات مؤتمر ديربان 1! وكنتيجة مباشرة لتلك الأحداث، تجاوزت «جرائم العنصرية» في الولاياتالمتحدة مستويات غير معهودة، وحدثت جرائم اعتداء على المسلمين المقيمين في الولاياتالمتحدة وعلى المراكز الإسلامية من مواطنين أميركيين، لم يكن اكتشاف «الدافع العنصري» فيها يحتاج إلى كثير عبقرية! بعد ذلك أذكت الولاياتالمتحدة هذا الشعور، حين قامت بغزو دولة ذات سيادة من غير تفويض دولي، لم يخل من تصريحات رسمية مليئة ب «عنصرية ضد الإسلام» كإعلان الرئيس السابق جورج بوش «حرباً صليبية»، وهو أمر لم يُثِر كوامن الدفاع عند من نصبوا أنفسهم أوصياء عن مكافحة العنصرية! إضافةً إلى ذلك، شمل العدوان الأميركي تدمير البنية التحتية المتواضعة لدولة تعيش تحت خط الفقر، كما شمل أيضاً قتل أكثر من مليون شخص، وتهجير أكثر من مليونين من المدنيين الأبرياء، بزعم «الحرب ضد الإرهاب»! وبمنطق «الحرب ضد الإرهاب» نفسه، جاء الغزو الأميركي - البريطاني ضد دولة أخرى ذات سيادة، نتج منه خرق القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان بكل أشكالهما، بما في ذلك قتل وتهجير أكثر من خمسة ملايين من المدنيين الأبرياء، غالبيتهم من النساء والأطفال. وبين حربي أفغانستان والعراق، شيدت إدارة الرئيس السابق جورج بوش معسكرات الاعتقال، في غوانتانمو وباغرام وأبوغريب، واستخدمت سجوناً سريةً في أوروبا، وحصلت في هذه المعتقلات انتهاكات للقوانين الدولية بمختلف أشكالها، وحُرِم فيها المعتقلون من الحصول على حقوقهم الطبيعية، وغني عن القول إن معرفة الدين الذي ينتمي إليه المعتقلون في هذه السجون لا يدع كثير شك حول حقيقة «عنصرية» هذه الانتهاكات، خصوصاً أن هؤلاء المعتقلين - وبحسب تصريحات من أفرج عنهم - كانوا تعرضوا لشتم دينهم ونبيهم وإهانة القرآن الكريم بالتبول عليه وإلقائه في المراحيض! وفي خطوة لاحقة تجلت فيها «العنصرية»، صدرت تصريحات من قادة سياسيين وعسكريين في الولاياتالمتحدة وبعض الدول الغربية، حول «فاشية الإسلام» و «الإرهاب الإسلامي»، في الوقت الذي صدرت فيه الإساءة البابوية للاسلام، والتي تبعتها إهانات عدة في مختلف وسائل الإعلام الغربية، كان أكثرها إيلاماً الرسوم المسيئة، التي أحدثت رد فعل غاضباً في مختلف أقطار العالم الإسلامي، إلا أن هذا النوع من «العنصرية» لم يلق استهجاناً في نظر العالم الغربي «المتحضر»، كونه نوعاً من أنواع «الحرية» التي يتحلى بها الغرب، في حين أن حرية التعبير الغربية يجب ألا تنال مجرد طرح التساؤلات حول حقيقة المحرقة النازية! وكما استطاع العالم الغربي أن يغض بصره عن التجاوزات العنصرية الغربية تلك، فقد تمكن كذلك من كتم غيظه حول الجريمة التي قامت بها جمعية «آرش دو زوي» في اختطاف أطفال دارفور وبيعهم كالعبيد، في الوقت الذي أُخبِر فيه ذووهم أنهم أُخِذُوا لتعليم القرآن الكريم! ولعل «الجانب العنصري» في هذه المسألة، التي تسامح فيها العالم الغربي، لا يخفى على الفطناء! إذ لو كان هذا الاختطاف لغربيين على يد إسلاميين، لكانت الحال غير الحال! وفي إسرائيل وحدها استمرت «العنصرية اليهودية» منذ انعقاد ديربان 1، وحتى اليوم في ما يمكن أن يعتبر «أسوأ جرائم العنصرية» في التاريخ الإنساني، حيث شملت أنواع العنصرية الإسرائيلية خلال هذه الفترة فقط، اعتداءات إسرائيلية متواصلة على الفلسطينيين، والاعتداء على أراض فلسطينية وبناء الجدار العازل، والتطهير العرقي المتواصل، والذي كان آخره طرد جميع السكان من قرية أبوجرول في صحراء النقب، كخطوة أولى للاستيلاء على 45 قرية فلسطينية، وما قامت به إسرائيل من جرائم عنصرية أثناء عدوانها السافر على لبنان صيف عام 2006، وما قامت به من جرائم عنصرية كذلك أثناء عدوانها الأخير على غزة، إلا أن ذلك كله سيتم تجاوزه في مؤتمر ديربان المنعقد اليوم لمكافحة العنصرية! واقع الأمر أن العنصرية الإنسانية لم تبد واضحة من قبل كما بدت خلال الثماني سنوات الماضية في تصرفات الدول الغربية ضد الدول والشعوب المسلمة، ولكن المثير في الأمر أن أياً من هذه لن يكون محل اهتمام المؤتمر المنعقد في جنيف اليوم! المثير للسخرية هو أن أعضاء الدول في اجتماعهم التحضيري لهذا المؤتمر وافقوا على حذف كل ما يتعلق بإدانة إسرائيل ووصفها ب «العنصرية»، وأضافوا نصاً جديداً يطالب بالتذكير بالمحرقة اليهودية «الهولوكوست» ويطالب في هذا الخصوص، جميع الدول بتطبيق قراري الجمعية العامة 60/7 و 61/255! بل إن المضحك في الأمر، أن الدول الغربية كانت طالبت بإدراج مسألة «الحرية الجنسية» ضمن جدول أعمال المؤتمر، حيث طالبت الدول الغربية بإضافة فقرة «تدين كل أشكال التمييز القائم على أساس التوجه الجنسي»، في إشارة إلى اعتبار الشذوذ الجنسي حقاً مكفولاً في القانون، وهو الأمر الذي تم حذفه بعد أن اتفقت الدول الإسلامية والفاتيكان على معارضته، ولكنه يعكس إلى حد بعيد الفرق في التفكير بين الدول الإسلامية والدول الغربية حول أولويات هذا المؤتمر! خاتمة القول إن «العنصرية» الحقيقية للعالم الغربي ضد العالم الإسلامي، تتجلى في أنصع صورها في مؤتمر ديربان 2 المنعقد في جنيف اليوم، حين رفضت الدول الغربية إدانة «عنصريتها»، واقتصرت في تطبيق القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان على الآخر، ولكن المؤسف هو أن هذه العنصرية الغربية ليست بأياد غربية فحسب، بل بتعاون عربي أيضاً! * حقوقي دولي