على الرغم من عامل الإثارة السياسية التي حملها معه صدور البيان الختامي عن مؤتمر الأممالمتحدة المناهض العنصرية الذي عقد أخيراً في ديربان بجنوب افريقيا، خلوا من أي اشارة صريحة الى الجرائم اليومية التي ترتكبها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ومن أي ربط بين الفكرة الصهيونية وبين العنصرية، فإن البيان الختامي ليس التعبير الأمثل عما حدث في مؤتمر ديربان. فالبيان الختامي الصادر عن أي محفل هو في النهاية وثيقة سياسية، تعطي دعماً معنوياً للجانب الذي انتصر له البيان، وبغض النظر عن المستوى الأرفع الذي تتمتع به مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي بادرت الى عقد المؤتمر، فإن بيانها لا يزيد في أهميته عن بيان المنظمات غير الحكومية الذي صدر عن ثلاثة آلاف منها شاركت في المؤتمر، وأصدرت بياناً دانت فيه سياسات اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني واتهمتها بارتكاب "جرائم عنصرية بما في ذلك الابادة الجماعية وجرائم التطهير العرقي". ولكن بعيداً عن حسابات الأرباح والخسائر السياسية، فإن الأهمية الكبرى لما حدث في مؤتمر ديربان هو تمحور النقاش حول العنصرية في قضيتي العبودية والقضية الفلسطينية. والمهم في أمر هاتين القضيتين هو أن كلاً منهما تعتبر تكثيفاً شديداً لأسوأ ما أنتجته الحضارة الغربية. فعلى الرغم من أن تجارة العبيد عرفت على مر العصور وفي كثير من أنحاء العالم، فإن الغرب حولها الى مأساة مروعة للملايين من السود على وجه الخصوص، تتالت فصولها عبر نحو أكثر من 400 عام. أما القضية الفلسطينية فهي الشاهد الباقي على عصر الاستعمار الكولونيالي بعد أن اختفى من العالم. وعلى الرغم من أن ممارسة هذا النوع من الاستعمار لم تقتصر على الغرب، فإنه كان نبتاً أوروبياً بامتياز. لكن الغرب ليس مستودعاً للشرور فقط، فمفاهيم الحرية والديموقراطية والتعددية والمساواة والتسامح واحترام حقوق الإنسان هي أيضاً جزء أساسي من مكونات الحضارة الغربية التي قدمت للبشرية بعض أعظم الانجازات وبعض أكثرها انحطاطاً في الوقت نفسه. وما حدث في ديربان أخيراً كان حدثاً فريداً جاء فيه مضطهدو العالم من أفارقة وعرب وفلسطينيين وأميركيين لاتينيين الى أرقى محفل دولي في العالم، والأممالمتحدة ابتكار غربي في النهاية، يطلبون الانصاف عما لحقهم من أذى تاريخي على أيدي الغرب، مستندين في شكواهم على شعارات المساواة والتسامح واحترام حقوق الانسان وهي من المفاهيم والقيم الأثيرة للحضارة الغربية. وباختصار فما حدث في ديربان الإفريقية كان نقاشاً في محفل غربي الصنع هو الأممالمتحدة، حول جرائم ارتكبها الغرب أبشعها الاستعمار والعنصرية، وهو نقاش احتكم فيه الى معايير الغرب ومفاهيمه، وتم وفق الأساليب الديموقراطية نفسها التي أرساها الغرب. لكن وجه الخطورة في ما حدث هو أن الدول الغربية ممثلة أساساً في الولاياتالمتحدة وكندا ودول الاتحاد الأوروبي هي التي أفشلت محاولات الدول العربية والإسلامية والإفريقية للتوصل الى بيان صريح في اعتذاره عن تلك الحقبة السوداء من تاريخ الغرب، التي عانى خلالها الملايين من أبناء افريقيا في صورة خاصة عندما تم "اصطيادهم" وشحنهم وبيعهم رقيقاً ليعملوا ضمن ظروف غير انسانية في أوروبا والأميركتين جيلاً بعد جيل. وهي نفسها التي افشلت محاولات الدول العربية للتوصل الى ادانة لما تمارسه اسرائيل يومياً وعلى مرأى من العالم الذي أصبح في امكانه مشاهدة ما يجري من قبل واغتيال للمدنيين وتدمير للمنازل وتجويع للسكان وعزل لمناطقهم وتخريب للبيئة الفلسطينية وجرف للأراضي الزراعية وغير ذلك مما تقوم به اسرائيل في اراض احتلتها بقوة السلاح في العام 1967، وهي ممارسات تأتي في اطار الاستعمار الكولونيالي الذي كان نقطة سوداء أخرى في تاريخ الغرب، كما أنه كان أحد الأسس التي قامت عليها الفكرة العنصرية. ان المفارق في موقف الغرب في أميركا وأوروبا ومعهما اسرائيل التي تعتبر نفسها ويعتبرها الغرب كدلك امتداداً له في منطقة الشرق الأوسط كما بدا في ديربان، هو أنه كان الطرف الذي تنكر لمفاهيمه ومبادئه، أعني مفاهيم التسامح والتصالح مع النفس ومع الآخر، والتي على أساسها تمت الاعتذارات التي صدرت من جانب عدد من الدول الأوروبية كان آخرها بولندا، عن المذابح التي عانى منها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وهي سلسلة اعتذارات كانت قد بدأتها المانيا التي زادت بأن دفعت التعويضات لضحايات المحرقة النازية المباشرين، وكذلك غير المباشرين، أعني الدولة الاسرائيلية التي لم تكن ضحية للمحرقة بقدر ما كانت أكبر المستفيدين منها، إذ ان المحرقة كانت سبباً رئيسياً لتسويغ قيام اسرائيل دولة لليهود على جزء من أرض فلسطين في 1948. ومن المفارق أيضاً أنه في الوقت الذي كانت فيه الولاياتالمتحدة تعلن رفضها الاعتذار عن حقبة العبودية التي مارستها مئات السنين، كان وزير الخارجية الأميركي كولن باول يستمع الى اعتذار من نظيرته اليابانية عن المعاملة التي لقيها الأسرى الأميركيون في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، ويرد بأن بعض المتضررين لم يحصلوا على التعويض الكافي عن معاناتهم خلال تلك الفترة. ولا أدري كيف تسوغ الولاياتالمتحدة بين هذين الموقفين المتناقضين في قضية واحدة لكنها كانت في إحداها الطرف الذي وقع عليه الظلم وفي الثانية الطرف الذي ألحق الظلم بالآخرين. ونحن لو احتكمنا الى المنطق نفسه، منطق التسامح والتصالح مع النفس ومع الآخر، فإن اعتذار الغرب عن حقبة العبودية يصبح حقاً للأفارقة، وهو حق وقفت منه الولاياتالمتحدة والبلدان الأوروبية موقفاً رافضاً وان تباينت مستويات هذا الرفض. ووفق هذه المنطق الغربي أيضاً، تصبح ادانة ما تقوم به اسرائيل باعتبارها دولة تحتل أرضاً فلسطينية وتقمع الشعب الفلسطيني وتنكل به يومياً، أمراً واجباً لا يستدعي القيام به أي خلاف. ما حدث في ديربان أمر مثير للتأمل حقاً: عالم قبل بالقيم والمفاهيم الغربية، ورضي بها أساساً لمطالب لا شك في عدالتها، لكن دول الغرب هي نفسها التي وقفت ضد عدالة طلبت وفق معاييرها ومفاهيمها.