بين الشعراء والنقاد المغاربة هناك ما يشبه إجماعاً على عدم الاتفاق حول تعريف قصيدة النثر. ذروة هذا الاختلاف ظهرت من خلال الجلسة النقدية التي نظمها اتحاد كتاب المغرب في إطار أنشطة مهرجان الرباط الدولي. وكان لابدمن مواصلة هذا السجال الذي ما زال قائماً. وكانت مداخلات النقاد الثلاثة كلها تحاول الاقتراب بحذر من هذا الجسم الغريب المسمى قصيدة نثر والذي يبدو وكأنه أربك عتادهم المعرفي فراح كل واحد منهم يقاربه من وجهة نظره الشخصية وبحسب قراءاته الخاصة للمنتوج الشعري المغربي خلال العشرية الأخيرة على وجه الخصوص. بدأ حسن مخافي مداخلته النقدية بطرح سؤال إشكالي وهو هل يمكن الادعاء أننا نملك معرفة دقيقة وشاملة بالشعر المغربي الحديث؟ الجواب على هذا السؤال بنظر الناقد يترتب عنه من دون شك حذر كبير أثناء كل حديث عن الحساسيات الشعرية التي وجهت القصيدة المغربية الحديثة ومنها طبعاً قصيدة النثر منذ أربعين سنة... وهو العمر المفترض للقصيدة المغربية الحديثة. لكن أسئلة الناقد الضرورية لتسليط الضوء حول مسار قصيدة النثر في المغرب تتوالى كالتالي: - هل تمثل قصيدة النثر بالمغرب طيلة السنوات التي قطعتها امتداداً مغربياً. بما يعني ذلك من تفاعل بين النصوص الشعرية المغربية عبر الحساسيات والأسماء؟ وبعبارة أخرى هل نعثر على ظلال شعراء مغاربة اختاروا هذا النمط من الكتابة الشعرية منذ الثمانينات لدى شعراء بدأوا الكتابة مع بداية القرن الحالي؟ - هل يعتبر تطور قصيدة النثر المغربية خطياً. بالمعنى الذي يجعل إنجازات شاعر سابق تطويراً وإضافة لشاعر لاحق؟ أم إن القصيدة المغربية تفاعلت مع تجارب عربية وعالمية أكثر مما نظرت إلى نفسها؟ وبصيغة أخرى هل شكلت النماذج الأولى لقصيدة النثر بالمغرب إطاراً مرجعياً للنماذج التي تلتها أم إن مرجعيات عربية وعالمية هي التي وجهت عمل الشعراء المغاربة. وبحسب حسن مخافي فان المتتبع لمسارات القصيدة المغربية الحديثة يلاحظ أن قصيدة النثر بالمغرب لم تعبر عن نفسها كحركة واعية وناضجة إلا مع بداية ثمانينات القرن الماضي. وهذه الفترة التاريخية تحيل على انتهاء تجربة عملت في إطار تنويع القصيدة الحديثة الموزونة تتجلى في تجربة الكاليغرافية التي استنفذت أبعادها التشكيلية في مدة قصيرة ولم تعد تقنع جيلاً آخر من الشعراء معظمهم كان على اطلاع واسع على الشعر العالمي بلغاته الأصيلة. الشعراء المغاربة لم يمارسوا كتابة قصيدة النثر في شكل واع وبركائز هذا النمط من الكتابة الشعرية إلا مع بداية الثمانينات. على رغم أن بعض الشعراء العرب كتبوا هذا النمط من الشعر مع بداية الخمسينات. ويتساءل الناقد هل يمكن رد هذا التأخر للطابع المحافظ للثقافة المغربية كما يرى ذلك الشاعر محمد السرغيني في أحد حواراته المنشورة بجريدة الاتحاد الاشتراكي. لكن على رغم كون قصيدة النثر في المغرب قامت على أنقاض القصيدة الكاليغرافية إلا أنها على عكس ما حدث في المشرق العربي لم تثر نقاشاً ساخناً بين المهتمين بالشعر المغربي. إذا استثنينا موقف الراحل عبد الله راجع الذي كاد يخرج قصيدة النثر من مملكة الشعر. ولعل سبب إحجام النقاد والشعراء عن الدخول في نزاعات نظرية حول قصيدة النثر هو أنهم كانوا على اطلاع كامل على جوهر السجال الذي أثارته هذه القصيدة في لبنان والعراق ومصر. ومن هنا استقبلت هذه القصيدة بالمغرب بطريقة توحي بأن الساحة الشعرية المغربية كانت تنتظرها، وكأنها قدر القصيدة المغربية. ومع هذا فان الغموض النظري الذي رافق قصيدة النثر العربية انعكس على الكتابة الشعرية المغربية التي اختارت التعبير بهذا النمط. ومن المعروف أن اتكاء المحاولات التنظيرية الأولى لقصيدة النثر في العالم العربي على كتاب سوزان بيرنار "قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا هذا" جعل تلك المحاولات تعمم معايير كتابية تختلف من لغة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى. وهو ما أدى إلى غربة التنظير وعزز الموقف من قصيدة النثر باعتبارها فناً إبداعياً، كما أنه من جهة أخرى أثار نقاشاً حول أصالة هذه القصيدة وعلاقتها بالتراث الشعري. يحصر حسن مخافي في نهاية مداخلته نزعات ثلاثة تهيمن على مشهد قصيدة النثر الشعري في المغرب. أولاً نزعة وجدت في قصيدة النثر طريقاً مختصراً إلى الشعر وتعيش على وهم الخلط بين الخاطرة والشعر. وساعد على نمو هذه النزعة إمكانات النشر الفردية بفضل تكنولوجيا المعلومات. ثانياً نزعة تقليدية تنطلق من نماذج وتنسج على منوالها. ثم أخيراً نزعة إبداعية تستفيد من التجارب السابقة من دون أن تشكل سلطة شعرية. وعبر هذا الهاجس عن نفسه من خلال ما يسميه الناقد فضاء القصيدة، من طريق حرص الشعراء على ذكر الأمكنة والرجالات والطقوس الصوفية والاجتماعية المحلية. لكن المظهر البارز لخصوصية القصيدة المغربية الحديثة في أيامنا هذه، يكشف عن ملامحه من طريق السير وفق خطين متمفصلين هما: - خط أفقي يقوم على رصد التفاصيل اليومية وعلى قوة المشاهدة والصور التلقائية. وهو طريق رسمه عدد من الشعراء لأنفسهم خارج الشعر والعالم. ولا داعي من وجهة نظر الناقد التذكير ببساطة هذا النوع من الشعر، وهي بنظر هذا الأخير بساطة خادعة. إذ سرعان ما تفصح لغتها السهلة عن عوالم معقدة تروي من معين الفلسفات العالمية الكبرى. - خط عمودي يرقى بالقصيدة إلى ملكوت الرؤيا ويستعمل من أجل ذلك كل التجارب الرؤيوية التي تعتبر الظاهر مدخلاً للباطن. ولا شك في أن هذا النزوع نحو تسجيل تجربة الشاعر" التي تكتسي هنا بعدا وجوديا، سيدفع إلى توظيف التراث والتراث الصوفي بخاصة. وفي ختام مداخلته ألمح حسن مخافي إلى أن النقد المغربي يتحمل قسطاً من المسؤولية إزاء عدم التواصل بين أنماط الكتابة الشعرية بالمغرب. ذلك لأنه في جملته نقد تجريبي بالمعنى القدحي للكلمة. وهو يعمل على منح الأسبقية لوجهة النظر تحت ذرائع منهجية متعددة ويؤجل المعرفة بالنص إلى مرحلة ثانية أو ثالثة. كما أنه عاب على الشعراء المغاربة عدم العمل على التواصل بينهم بطريقة تؤدي إلى تكوين مدرسة أو مدارس شعرية، مما أدى بالقصيدة المغربية الحديثة إلى الاستمرار من دون ذرية من دون أن يعني هذا أنها عقيمة. أما رشيد يحياوي فيرى أن عنوان الندوة يبدو عبثياً إذا ما قورن بعناوين ندوات أخرى كالرواية في المغرب أو المسرح في المغرب. على أساس أن هذه الموضوعات فضفاضة وعامة وصالحة لاحتواء ما لا حصر له من المداخلات. غير أن المقارنة السالفة الذكر غير مقبولة وذلك لسبب رئيسي يتمثل بنظر رشيد يحياوي في كوننا لا نملك معرفة وثوقية مطمئنة بقصيدة النثر هذه. وأضاف أن موضوع هذه الندوة ربما سيمثل في ما بعد محطة في تاريخ الفكر النقدي المغربي، إذ بعد أربعين سنة من ظهور قصيدة النثر في المغرب نعقد نحن هنا ندوة للتفكير في قصيدة النثر في المغرب. وهذا بنظر رشيد يحياوي يدل على ان النقد المغربي حتى هذا التاريخ لم يتجاوز بعد عتبة المفهوم وتحديد المداخل والخطوط الكبرى لما يسمي بقصيدة النثر لتجاوز المآزق النظرية التي يتخبط فيها الشعراء والنقاد كلما التقوا لتجاذب قصيدة النثر من أطرافها المختلفة كما حدث في المهرجان الوطني بشفشاون حيث نادى مشاركون كثيرون لعقد ندوة وطنية حول هذا الموضوع. بل إن اتحاد كتاب المغرب أصدر بلاغاً بالمناسبة أكد فيه "ان قصيدة النثر لا تحتاج منا في اتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر وجمعية المعتمد ابن عباد إلى الاهتمام أكثر على مستوى المقاربة والتحليل والدراسة بقدر حاجتها إلى الانصات واكتشاف شعرياتها المتمفصلة بين الشعر والنثر كما تبين لنا في اتحاد كتاب المغرب". وهكذا يقترح رشيد يحياوي لقصيدة النثر التعريف التالي "قصيدة النثر نوع ملتبس ومتحرك يقوم على تعدد الأشكال الشعرية وانشطارها لا على وحدتها". وتأسيساً على هذا يقترح الناقد مفهومه لقصيدة النثر في المغرب ليخلص إلى الشعراء المغاربة إذا سألتهم عما تعنيه قصيدة النثر بالنسبة إليهم أجابوك، أنها عموماً ما يكتبه بول شاوول وعبده وازن وسركون بولس وأمجد ناصر وسيف الرحبي وقاسم حداد ومن جرى في مجراهم وسار في مسارهم أو بمحاذاته. يلاحظ رشيد يحياوي أن الشعراء المغاربة الذين يكتبون قصيدة النثر لا يصرحون بهذا النوع الشعري على أغلفة دواوينهم بل يذهبون إلى التأكيد على أغلفة مجاميعهم على كلمة شعر، وأن الاشكال في الموضوع كله من اختراع النقاد الذين يتطاولون ويحرفون نيات الشاعر ويخرقون ميثاقه بتصنيفه في خانة قصيدة النثر. يبدو العمى النظري واضحاً أيضاً عندما يحاول النقاد الجمع بين نصوص كل من وفاء العمراني والزهرة المنصوري وحسن نجمي وعزيز أزغاي ومبارك وساط تحت مسمى واحد اسمه قصيدة النثر. ويبدو الحل النظري بنظر رشيد يحياوي هو أن النقد المغربي مطالب بالإشتغال على الدراسات النصية التي تتعدى الأعمال المقروءة إلى البحث والإستقصاء في المتشاكل المشترك بين الأعمال التي بينها قرابات في الرؤى والأشكال والتيمات المهيمبنة، وإذا ما حدث تراكم في هذا النوع من الدراسات وقتها فقط نستطيع تبين الأطرالنصية والبنيات الأنواعية التي تمكننا من نمذجة الوقائع النصية. ويبدو النقد الموجه لقصيدة النثر في المغرب من وجهة نظر رشيد يحياوي نقداً سلبياً يعتمد في الغالب على اعتبارها تفتقر إلى الأوزان وتعتمد على بساطة اللغة وتركز على اليومي... مع أن هذه الخصائص بحسب الناقد تعد مبرراً كافياً لوجود قصيدة النثر. لكن يبدو أن الشعراء الذين حضروا الندوة لم تعجبهم محاولات النقاد الاقتراب من مملكتهم النثرية. فمحمود عبد الغني مثلاً الذي صدر له ديوان عن دار توبقال للنشر تحت عنوان "حجرة وراء الأرض" يرى أن شعراء قصيدة النثر في غير حاجة إلى إرشادات النقاد لأنهم أدرى بما يكتبون من قصائد. كما أنه شدد على كون النقاد المغاربة لم يحاولوا يوماً أن يواكبوا حقاً هذا الجنس الشعري الملتبس لكون أدواتهم المعرفية قاصرة عن هذه المهمة. ياسين عدنان الذي نال جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب عن ديوانه "مانكان" أصر هو الآخر على أن للشاعر أولوياته الخاصة وهو حل من الإنصات لدراسات النقاد... ببساطة لأنهم يتحدثون حول شيء يجهلون عنه كل شيء تماماً. وأضاف أن شعراء قصيدة النثر المغاربة يكتبون وينصتون في آن واحد لمشاغلهم الوجودية اليومية والتي هي مادتهم الأولية في الكتابة. أما عبد العزيز أزغاي الذي صدر له ديوان واحد تحت عنوان "لا أحد في النافذة"، فأشار إلى كون الشعراء في المغرب عملة نادرة إذ أن هناك شاعراً لكل مليون مواطن... وهذا بنظره سبب جد كاف لترك الناس يكتبون بحرية.