يضيق بعض المقيمين بالمهاجرين ويستخفّون بهم. يخجلون من شعورهم هذا، فيحاولون إخفاؤه: وذلك إما بكلام ضعيف، يأتي وكأنه رد متأخر أو مسبق على عِتاب، او بالقيام بال"واجب" تجاه هؤلاء المهاجرين. لكن لا الكلام و لا ال"واجب" يخفيان تماماً الاستخفاف والضيق. فالاستثقال واضح، وكذلك التقطير في الاستضافة او مجرد اللقاء. والاثنان المعنيان بهما لا يبديان الرغبة بالتصارح حولهما: لا المقيم، لأنه بلطفه ورقته يريد تجنيب المهاجر جرحاً. ولا المهاجر لأنه يعلم أنه في غنى عما يعمّق غربته، و قد حضر الى هنا خصيصاً ليتخفف منها. لكن كلام بعض المقيمين عن المهاجرين أكثر فصاحة من "الواجب" الذي يقومون به تجاههم بلا حماس. والذي يسجلونه كتابةً تنضح بنفسها عن نفسها، وإن صيغت بأناقة ومداراة. يكتب هذا البعض عن المهاجرين وكأنهم نوع واحد من الناس: مصطافون من شهر آب أغسطس، أعادتهم إجازات موطنهم المهجري موقتاً الى أوطانهم الاصلية، يبحثون عن نزهة او سهرة، يتلهون بهما عن سؤال يطرحه الجميع عليهم: "هل سيعودون؟ متى يعودون؟ لماذا لا يعودون؟". و هم، وفق هذه الأقلام، عندهم مشكلة "تكيّف" مع وطنهم الأصلي، لا تُحَل بغير "الوقت". ولديهم ايضا من السذاجة ما يجعلهم يلحون على طرح سؤال واحد تقريبا "ماذا يوجد في لبنان؟" يستأهل العودة، وكأنهم يتوسلون من يقنعهم بحجتها. معذورٌ هو هذا البعض لأنه لا يعرف، أو نسي ما كان يعرف، من ان اللبنانيين شعبان: مهاجر ومقيم. وأن الشعوب تختلف بطبائع وأحوال افرادها. معذورٌ هو هذا البعض ايضاً لأن ليس في لبنان إحصاءات أو معرفة دقيقة بهذين الشعبين. الصحافة تصف قليلا "اوضاع" الشعب الثاني، المهاجر، عندما تتعثر. لكن عدا ذلك، فالميل هو نحو الجهل بهذا الشعب، او تجاهله، هو الذي يعدّ اكثر من المقيم. و اذ تزايد هذا العدد في المدة الاخيرة في موازاة المزيد من إنسداد أبواب الرزق، فالأحرى بالمقيمين ان يتذكروا على الاقل أدب الهجرة من ايام النهضة. ففي غياب الاحصاءات والمعرفة، قد يعينهم هذا الادب على تكوين فكرة، ولو عامة، عن مناخات المهاجرين وحيرتهم، والأهم من كل هذا تنوعهم. فالعائدون من المهجر الى موطنهم الاصلي ليسوا فقط دعاة "نزهة" او "سهرة" او "إجازة" لمدة شهر في قرية ذات هواء نقي. وسواء أسسوا أحياءً، او بلدات بحالها، او اخفقوا او نجحوا، الا ان لكل منهم اسبابه بالعودة والالتقاء. يعودون ليرتاحوا من تعب الهجرة اولا. فجلهم يكد، ليس في المهنة والنجاح فحسب، بل في العلاقة الصعبة التي تقام مع مكان الهجرة واهلها. يحضرون الى وطنهم الاصلي لكي يُعفوا من جهود التكيف والمراعاة وتقديم أوراق الاعتماد عند كل شاردة وواردة. والذي نجح منهم يريد ان تراه عيون الذين لم يقدّروه ايام القحط والشحة. اما الذي فشل فيحضر من اجل الارتماء في أحضان الهواء الذي تنشّقه ايام طفولته ومراهقته: لعله يتنسم بذلك المواساة او الدفء. ومن هؤلاء مَنْ يخشى أوهامه، فيعود الى موطنه، في محاولة دائماً متكررة، لتثبيت هذه الأوهام او تجديدها او تبديدها. فإما ان يبقى في وطنه، بلا اية حاجة لل"إقناع"، و إما أن يسلك درب الهجرة ثانية، بحسب التوفيق، وليس بحسب النقاش السفسطائي. ومن المهاجرين ايضا، وهذه هي الحالة الأكثر كلاسيكية، من يعود بحثاً عن الجذور او في محاولة لتعلم اللغة الام أو التعرف على أعضاء عائلة قريبة، تفرّعت في غيابه، او عن مجرد فضول، لمعرفة هذا المكان الاسطوري الذي نشأ فيه أبواه أو أجداده. والمهاجرون على اختلاف أوطانهم البديلة، نيويوركية او أفريقية، يعصى عليهم زمن بلدهم: فهو يتوقف عند اللحظة التي تركوه فيها. يحفظون عنه تلك اللحظة ويخالونها توقفت. لذلك يعاملون المقيمين بدهشة من ان طبائعهم الماضية لم تَعُد كما كانت، مع ان ايام مهجرهم تكون هي بدورها قد كرّت برفة جفن. وربما لولا تكرار هذه الدهشة، لما عنى لهم موطنهم الاصلي شيئاً كثيراً: يحتاجون اليها ليبقى لهم مكان في ذاكرتهم المهجرية يحلمون به، و يتمنون لو استطاعوا العودة اليه، فيضفون بذلك معنىً على وحشتهم المهجرية. ومن المهاجرين من لا يقيس عمره بعدد سنوات حياته: بل يبحث عن وجوه مألوفة ليرى عبرها أثر الزمن على وجهه وهندامه. فيروح يبحث عن اقدم الاصدقاء، رفاق المراهقة والشباب. او عن ابناء العمومة او الخؤولة الذين شبّوا معه. يتفحص في عيونهم ما بلغه هو من عمر. فلا يلبث أن يقول مهاجر لمقيم، في اللحظة الاولى للقائهما، أنْ ما شاء الله عليه، لا يبدو عليه "الكبَر"!. فيرد عليه المقيم بالاعجاب الكاذب نفسه. واللقاء هذا ضروري للمهاجر: دونه لا يستطيع ان يعرف بالضبط ماذا فعلت به أيام الهجرة ذات الزمان الآخر، الغريب عن زمنه الاصلي. ثمة شعبان في لبنان، فوق طوائفه: مقيم ومهاجر. اسباب تشكل الاخير ومراحل ترحاله ليست واحدة، ولا هي موحدة اسباب عودته من مهجره، او بقاؤه فيه. فهناك من هاجر في صباه، مثل جدتي لأمي، ومات هناك. و هناك من ولد في المهجر، مثل جدي ومات في جنوبلبنان. وهناك من وُلد ايضا فيه، مثل أمي، فعاشَ نصف عمره مهاجراً ونصفه الآخر مقيماً. و لا يتمنى غير نهاية مقيم. وقصة مثل هذه تملأ البيوت اللبنانية وتحرك أفرادها جيئةً وذهاباًَ، دون ان ينكبّ احدٌ على ملابساتهما، وإن كانت اسباب الذهاب اكثر تداولاً بين المقيمين. وقد يعود ذلك الى كون المقيم راضياً عن المعاني التي يصيغها. فهو، مهما ساءت حالته، يسكن داخل بقعة ذات حدود، ولو متصوّرة. اما المهاجر الذي لم ينسَ شرطه كمهاجر، فهو على اطراف كل الحدود: حدود موطنه الاصلي وحدود مهجره، في مكان منزوع المعاني. لذلك يأتي كل مرة ملهوفاً، كأنه يبحث عن عزيز، ولو لمدة شهر. فيخذله المقيم بضيقه واستخفافه، فيعود أدراجه محمّلاً بالأسى والتعب، واعداً نفسه بعدم تكرار المجيء. ومخلاً بالوعد كل مرة، غير عالم أن موطنه الاصلي لبنان خُلقَ ليشتاق اليه... فحسب.