أسدلت الحكومة اليمنية أخيراً الستار على الجدل الدائر في شأن قضية المعاهد الدينية العلمية التي كان يسيطر عليها حزب التجمع اليمني للإصلاح المعارض نحو 25 عاماً، إذ باشرت وزارة التربية والتعليم خطوات لدمج المعاهد ضمن كيانها الإداري والمالي متجاهلة صيحات الإعتراض والرفض. وبات واضحاً أن طلاب المعاهد سيواجهون هذا العام الدراسي الذي بدأ الأسبوع الماضي ظروفاً جديدة ومتغيرات لم يألفوها في التدريس والكتب والمعلمين. ويقول مدير عام دمج الهياكل المالية والإدارية والفنية بوزارة التربية والتعليم اليمنية يحيى حمود المأخذي أنه تم قطع شوطاً كبيراً في مجال توحيد التعليم، اذ تم إنجاز المرحلة الأولى من الدمج المالي وأصبحت اسماء العاملين، في ما كان يسمى المعاهد العلمية، ضمن الكشوفات التابعة لوزارة التربية والتعليم. ويضيف المأخذي أن الخطوة الأخرى تتمثل في وضع اللمسات الأخيرة للدمج الإداري والفني اذ صدر تعميم للمحافظين ومدراء مكاتب التربية بالمحافظات بتشكيل لجنة لجرد وحصر المنشآت ومحتوياتها والأصول الثابتة للمعاهد العلمية وضمها إلى مكاتب التربية في موعد أقصاه نهاية الشهر الجاري. ويؤكد المأخدي أن أي موظف أو مدرس في المعاهد السابقة سيتم استيعابه ضمن وزارة التربية والتعليم وسينطبق عليه قانون المعلم والقوانين ذات الصلة بالتعليم، كما سيتم توزيع القوى الفائضة على الميدان. ويعتبر المأخذي أن نسبة إنجاز دمج المعاهد العلمية بلغت 60 في المئة وستكون مكتملة في نهاية أيار مايو 2002. لكن ما هي المعاهد العلمية الدينية في اليمن؟ وما حقيقة الصراع السياسي في شأنها؟ ولماذا كل هذا الجدل في الشارع اليمني على رغم الإجراءات الحاسمة التي نفذتها الحكومة اليمنية؟ نشأت المعاهد منتصف السبعينات تقريباً على غرار الأزهر الشريف في مصر، وكانت في بدايتها نوعين، الأولى تتبع هيئة علماء اليمن وتسمى معاهد الهيئة العلمية وإنحصرت في المدن الكبيرة فقط، بهدف إيجاد جيل من الدعاة والعلماء والمرشدين، والثانية المعاهد العلمية وقد أسسها القاضي يحيى لطف الفسيل وأصبحت لها موازنة خاصة وإدارة منفصلة، وتوسعت في شكل كبير في الريف اليمني ومن ثم تم دمج النوعين في إدارة واحدة. وتأسس أول معهد علمي بمنطقة مسور خولان عام 1970 على نفقة الشيخ الصلاحي. وتوالى بعد ذلك إنشاء المعاهد وتقرر رسمياً منحها إستقلالية مالية وإدارية، والأهم من ذلك منحها صلاحيات في وضع مناهجها التعليمية، خصوصاً في التاريخ والتربية الوطنية والإسلامية واللغة العربية. وتركز مناهج المعاهد العلمية على دراسة فقه السنة والسيرة النبوية، إضافة إلى باقي العلوم الشرعية والدينية فضلاً عن إضافة المناهج الحديثة والتي شكلت عبئاً على الطلاب مما تسبب في تسربهم في شكل واسع في المرحلة الثانوية بالذات. وتشير تقارير ميدانية إلى وجود تضخم في عدد المعلمين في المرحلة الأساسية يصل في بعض المعاهد إلى 100 في المئة، كما أن بعضها عبارة عن أماكن غير مهيأة للتعلم وأكثر أبنيتها مساكن مؤجرة أو مرفقات بالمساجد. وتفيد التقارير أن المعاهد العلمية توسعت خلال الفترة من 1987 إلى 1997 بنسبة 500 في المئة كما أن موازنتها مستقلة من وزارة المال. وتتهم بعض الجهات الرسمية القائمين على المعاهد بأنها كانت مكاناً لتلقي التدريبات العسكرية وفنون الحرب والقتال إلى أن قامت الوحدة اليمنية عام 1990 وصدر قانون التعليم عام 1992 والذي شكل أول تهديد جدي للمعاهد العلمية، وعارضه حزب الإصلاح بقوة داخل البرلمان. وتشير خلاصة إجمالية للمعاهد العلمية للعام الدراسي 1999/2000 إلى أن عدد المعاهد الأساسية والثانوية ومعاهد تحفيظ القرآن بلغ 3047، ويبلغ عدد الطلاب الذكور في التعليم الأساسي نحو 240 ألفاً، وعدد الطالبات في التعليم الأساسي 138 ألفاً، فيما يبلغ عدد الطلاب الذكور في التعليم الثانوي 43 ألفاً والطالبات 15 ألفاً تقريباً، أي يقترب العدد الإجمالي من 400 ألف طالب وطالبة. وبحسب الإحصاءات الرسمية وصلت موازنة المعاهد الدينية 14 بليون و813 مليون ريال يمني، وبلغ عدد المدرسين والموظفين 27639 شخصاً. بدأت معركة المعاهد حين أعلنت حكومة عبد القادر باجمال رئيس الوزراء الحالي، في برنامجها الذي قدمته إلى البرلمان قبل نحو أربعة شهور، عزمها دمج المعاهد العلمية وتوحيد التعليم. واستندت الحكومة في قرارها إلى إنهاء الإزدواجية في المؤسسة التعليمية وخلق جيل وطني من الشباب يتسم بالوعي وواحدية المشاعر. وتوالت القرارات الجمهورية وقرارات مجلس الوزراء بعزل قيادات المعاهد العلمية السابقة المنتمين إلى الإصلاح وتعيينهم في وظائف مستشارين، وتأسيس قطاع انتقالي في وزارة التربية والتعليم مدته عام لدمج المعاهد. ويقول مراقبون أن قرار الرئيس علي عبد الله صالح بحسم موضوع المعاهد يرجع إلى أنها استنفذت أهدافها التي شجعتها الدولة من أجلها في نهاية السبعينات، والتي تركزت في مواجهة المد الشيوعي والماركسي في جنوب اليمن. وأن الظروف الحالية التي يحكم فيها حزب المؤتمر الشعبي العام لا تسمح بوجود مراكز قوى دينية تشكل خطراً قادماً يدعم المعارضة في الانتخابات التشريعية والرئاسية والمحلية. وعقب تنفيذ قرارات الدمج خرجت تظاهرات من جماعات تنتمي إلى حزب الإصلاح وطلاب المعاهد الدينية تندد بالقرار وتطالب الرئيس اليمني بإلغائه في الوقت الذي شكلت لجنة من مجلس آباء طلاب المعاهد لمقابلة الرئيس وشرح وجهة نظرهم بخطورة مثل هذه الخطوة. كما أبدى الشيخ عبدالمجيد الزنداني، رئيس مجلس الشورى في التجمع اليمني للإصلاح ورئيس جامعة الإيمان، إعتراضه على إلغاء المعاهد الدينية. من جانبها رأت قيادات حزب الإصلاح في إجراءات توحيد التعليم مجرد كذبة يراد من ورائها مسخ هوية المجتمع اليمني. وينظر البعض إلى إلغاء المعاهد كثأر شخصي لكسر شوكة التجمع اليمني للإصلاح. ويقول رئيس دائرة التعليم بالتجمع اليمني للإصلاح زيد الشامي أن ما يتردد عن استغلال الإصلاح لموازنة المعاهد محض إفتراء وكذب. ويعتبر الشامي أن كل ما يقال عن توحيد التعليم والتباكي على الأجيال انحسر في هدف حزبي ضيق. وتركزت دعوات الهدم على أن الإصلاح يستغل موازنة المعاهد العلمية وهي دعوة باطلة جملة وتفصيلاً. وتشير مرجعيات مقربة من حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم إلى أن المعاهد العلمية عبارة عن مدارس حزبية وفكرية خاصة أسستها جماعة الاخوان المسلمين بغرض بناء قاعدة حزبية كبيرة من الشباب تحول غالبيتهم إلى أعضاء نشطين في حزب التجمع اليمني للإصلاح. وتؤكد هذه المرجعيات أن المعاهد شكلت ازدواجية خطيرة في العملية التربوية والتعليمية وسببت أضراراً فادحة بالنظام التعليمي برمته على مدى ثلاثة قرون. وتشير وثائق ليست بعيدة عن الحزب الحاكم في اليمن إلى أن المعاهد العلمية كانت إمبراطورية بذاتها ومارست ضغطاً منظماً على وزارة التربية والتعليم كما استعانت بمدرسين من مصر والسودان وسورية وفلسطين ممن يرتبطون بجماعة الإخوان المسلمين وفقاً لتزكية من أحد المشائخ المعروفين بغض النظر عن المؤهل التربوي أو العلمي. ويقول تقرير حديث أعده المركز العام للدراسات والبحوث والإصدار، ضمن تقريره الاستراتيجي السنوي، أن المعاهد العلمية في اليمن تأسست بهدف تربوي في ظاهر الأمر يجمع بين العلوم الشرعية والعربية والعلوم الحديثة، أما من حيث المضمون فقد ارتبطت بمضمون سياسي أيديولوجي. وبرز دورها خلال أشد مراحل الصراع الشطري بين نظامي الحكم في شمال اليمن وجنوبه قبل الوحدة، وأدت وظيفتها وفقاً لسياسات وبرامج عمل الاخوان المسلمين إحدى القوى السياسية التي عملت في ظروف سرية قبل عام 1990 وغدت الجناح الفاعل في بنية حزب التجمع اليمني للإصلاح. ويؤكد التقرير في معرض انتقاده لوجود المعاهد العلمية أن جزءاً أساسياً من أهدافها الثقافية والسياسية تختلف إختلافاً جوهرياً مع ثقافة المجتمع اليمني وفلسفة النظام السياسي القائمة على نبذ العنف والتعدد الفكري والثقافي والديمقراطية. كما أن المعاهد الدينية أسهمت في اضعاف التعليم لأنها تشكل سبباً في إهدار كفايته وزيادة كلفته الاقتصادية، ذلك لأن المعاهد لا تنطلق من التكامل مع التعليم العام بل من مبدأ المنافسة معه. ويخلص التقرير إلى أن حزب الإصلاح يحرص على الاستفادة القصوى من هذه المعاهد ليحقق مكاسب سياسية مستخدماً في ذلك شتى الضغوط. ومع أن أطرافاً سياسية في حزب الإصلاح تتحدث عن اتفاق مع الرئيس اليمني في شأن إعادة دراسة فكرة دمج المعاهد إلا أن الحكومة ماضية في خطوات عملية وحاسمة للتوحيد مهما كانت النتائج.