يحلم الطفل نادر عدلي السرياؤوسي بالعمل الاعلامي، ينضم الى فريق الاذاعة المدرسية ليعيش تفاصيل حلمه أمام جمهوره الصغير من الطلبة في طابور الصباح. وكما يحدث في عالم الكبار يحدث في عالم الصغار، "صغار المذيعين" الذين عليهم الانصياع للإرادة العليا ممثلة في إدارة المدرسة، وبعبارة أدق - ناظر المدرسة والذي يقوم بدور حارس البوابة الاعلامية في ظل نظام سلطوي أبوي يتحكم في كل شيء حوله تماماً كما يحدث في وسائل الاعلام المقروءة والمرئية، بدافع من الأبوة المزعومة وصلاحيتها التي تمتد الى المنع وأحياناً الى البتر. نرى الناظر في بداية الفيلم يحرر الاخبار التي يثق في رد فعلها وصداها الطيب لدى الطلبة، ويحجب ما عداها. تماماً كما يحدث في الواقع مع عوالم الكبار على رغم شعارات الحرية والجرأة والموضوعية. يقرب الناظر أيضاً بعض الطلاب من دون غيرهم وقد اختبر فيهم الاستسلام والانصياع الكامل - طواعية ومن دون إلزام - للتعليمات العليا بعد تجرعهم كميات كبيرة من الآراء المعلبة، دفعة واحدة من دون تردد أو تفكير. أما نادر السرياؤوسي فكان منذ صغره مصدراً للمتاعب والجدل لذلك استحق الازاحة من طابور الصباح ليفسح بدوره الطريق للطلبة المسيسين والطيعين الذين لا يعصون للناظر أمراً ولا يخيبون له رجاءً. الحلم يكبر تمر الأيام ويكبر الطفل نادر ويظهر محمد هنيدي بهيئته الحالية، اذ ساعدته ملامحه وحجمه الصغير على تجسيد دور الطفل من دون الحاجة الى الاستعانة بطفل قريب الشبه من ملامحه. ومع تدرجه وتقدمه في المراحل العمرية والدراسية كان الحلم يكبر حتى لازمه في جميع مراحله الى أن تحول البيت بيت نادر الى ثكنة إعلامية تضافرت فيها جهود الجميع: الأب معلم اللغة العربية ومربي الاجيال، والأم الطموح التي تحلم بابنها إعلامياً ناجحاً يتجاوز عيوبه الوراثية المتمثلة في قصر القامة وضعف البنيان تماماً مثل أبيه الذي كان جندياً مجهولاً وسط ابنائه وتلامذته ممن صاروا وزراء ومسؤولين كباراً. حتى البائعة الفقيرة سعدية منحة زيتون أرادت تحقيق حلمها بعلاج ابنتها على نفقة الدولة على طريقة "موت يا حمار"، من خلال شخص نادر الذي صار حلماً لتلك الاسرة الكبيرة بل رمزاً لأحلام الطبقة الوسطى البورجوازية وطموحاتها في الوصول، وتحقيق مآربها البسيطة المشروعة. يسعى نادر محمد هنيدي الى البحث عن "واسطة" تزكيه للعمل الاعلامي بعد أن استوعب الدرس خلال مراحل عمره المختلفة، وادرك بشكل يقيني استحالة تحقيق الحلم اعتماداً على الموهبة والدراسة وحدهما، وكي لا تتحطم آماله على أول عتبات الطريق. وبالفعل تخيب كل آمال نادر ويفاجأ بنفسه واحداً من آلاف غيره يعملون في الظل داخل صالة تحرير الاخبار حيث يكتفون بالنظر والتطلع الى كرسي المذيع من دون محاولة الوصول اليه بالجهد والعرق وحدهما، ومن ثم متابعة العمل الاعلامي عن بُعد، ومن دون أن تسول له نفسه مجرد الحلم به واستجابة لنصيحة الأب بضرورة التحلي بالصبر والمثابرة والطموح. والطموح هنا يعني اشياء أخرى لا علاقة لها بالطموح من قريب أو بعيد. ويعمد نادر الى سلوك "أقصر الطرق" لترويض الحواجز، ليقترب ولو قليلاً من كرسي استديو الهواء. وأقصر الطرق هنا نعني بها "الهدايا": تقديم الهدايا الى الرؤساء المعروفين في الحقل الاعلامي بشغفهم بالتفاهة والاطراء الرخيص المعسول. تنجح الحيلة، وتبلع فئران الاعلام طعم المتملّق نادر على رغم سخفه وفجاجته. وإذا به يتدرب مع زميلته عفت حنان ترك على العمل مراسلاً. وهنا وجد مخرج العمل سعيد حامد فرصة سانحة لعرض مواهبه في تكوين الاسكتشات الضاحكة، واستعراض قدراته كمخرج مستعيناً بالغرافيك والانتاج السخي للفيلم في صنع مشاهد للنيران وقذائف المدافع في حرب الشيشان ولا مانع ايضاً من الذهاب الى الشيشان. وبالطبع لم يفت حامد على نفسه الحديث للمرة الثانية بل والثالثة باسم "فلسطين العزيزة" بعرض مشاهد للانتفاضة. وجاء المشهد في هذا الفيلم موظفاً الى حد كبير، ولأن الفرص السانحة غالباً ما تستدعي مثيلاتها، لم ينس سعيد حامد شغفه - وهو للحق شغف قريب العهد لم نعهده في بداياته مع ماهر عواد أو في فيلمه الاول "الحب في الثلاجة" - ونعني به الشغف بالسينما الاميركية ومغازلتها في أكثر من موضع ظهر في الشريط، وبدأ بغزل غير عفيف لستيفن سبيلبرغ ومشهد الأحشاء المتفجرة لأحد الجنود في اسكتش الشيشان، وهو مشهد مقزز ظهر مثله في فيلم "انقاذ المجند رايان"، وحرص سعيد حامد على تضمينه في العمل على رغم فجاجته. كذلك مشهد مغارة اللص وهو مأخوذ - بحذافيره - من فيلم "البحث عن المتاعب". ليالي الأنس وباستكمال سريع لأحداث الفيلم ينتقل هنيدي الى العمل مراسلاً داخلياً يشارك في تغطية مهرجانات السينما وليالي الأنس و"رأس السنة" فيتأكد لرئيسه لطفي لبيب، انه لا أمل في إصلاح او إيقاف جرأة هذا المراسل وطموحه، فيطرده من العمل نهائياً ومعه حنان ترك. يتكاتف الاثنان من أجل استعادة مواقعهما، والتفكير في تفجير سبق إعلامي آملين من خلاله الوصول الى الكرسي المبتغى. وهنا تجيء فرصة أخرى لعمل اسكتش جديد جاء ايضاً موفقاً الى حد بعيد، بمعنى انه أتى قادراً على الإضحاك. وبعد جهد مضنٍ عديم الجدوى ومن دون فائدة تذكر، يقرر هنيدي التخلي عن مبادئه - بعبارة أدق - "بيع ضميره" - على حد تعبير "محمد أمين" - كاتب هذا الحوار الموفق. فنراه يزيف الحقائق، حقائق البسطاء، وقضاياهم أولاً، ثم يعمل لحساب احدى الشركات الكبرى في برنامج إعلاني سافر يستبيح الاتجار بحاجات البسطاء ونشر عوراتهم امام أبصار العالم من خلال القنوات والشاشات الكثيرة والسموات المفتوحة. ويدفع هؤلاء الى التغني بكرم الشركات غير المسبوق، والتسبيح بحمدها والتذكير الدائم بأفضالها مع كل كلمة وإعادة، وبالطبع التذكير بأفضال المذيع والمنتج الذي يعلن عنه وهو حليب "باور فاميلي" والذي نعته الكاتب محمد أمين بعبارة بديعة سيقت على لسان الام الفقيرة: وهي "حليب باور فاميلي ربنا يخليه لأمه" وتقصد بذلك المنتج المعلن عنه. وهكذا يدخل نادر سيف الدين حلبة الصراع الدموي الانساني ويصل به الانحطاط الاخلاقي الى الاتجار بجراح مصابي الحادث جاعلاً الناس يقرون بفضل حليب "باور فاميلي" - ربنا يخليه لامه - والذي يكتشف نادر من خلال أحد العاملين في الشركة - أنه مسموم ومملوء بالفيروسات القاتلة، فيقرر في صحوة مع النفس - عززتها وفاة ابنة سعدية - وقف تلك المهزلة الانسانية التي زُج بها في لحظة ضعف بشري تمكنت منه. يسعى بحدسه الصحافي الى كشف الحقيقة بمعاونة زميلته. وتبدأ رحلة البحث عن المتاعب، التي تتخللها مشاهد كثيرة موفقة تعتمد على الإضحاك، وإن كان فيها بعض المبالغات الساذجة كالرصاص الذي يُطلق على الثنائي الباحث عن المتاعب من دون أن يصيب أحداً. كما بدا فيها ايضاً الحنين الى أفلام الابيض والاسود وتحديداً فيلم "ياسمين" الذي اكتشفنا أن له شعبية كبيرة لدى صانعي أفلام هذا الموسم السينمائي ومشهد "معانا الديسك... معانا الديسك" على طريقة "معانا ريال... معانا ريال" في فيلم "ياسمين" كاف لاثبات ذلك تماماً كما حدث في "ابن عز". وبعد صراع طويل مع الشر مجسداً في السلطة ورأس المال، تظهرالحقيقة ويتحقق حلم الثنائي نادر وعفت في الوصول الى استديو الهواء ليصورا بياناً غاية في الذكاء يحاول مغازلة العقول الجامدة لتفتح النوافذ والأبواب للهواء النقي. وللخروج من مأزق "عدم واقعية الحدث" واستحالة حدوثه في اعلامنا العربي، ساق المخرج نهاية أكثر ذكاء ومكراً، وصف فيه ما حدث بأنه "أول سبق إعلامي عربي" من شأنه تغيير آليات الاعلام ونظمه في المستقبل - غير القريب - والذي تحقق بالفعل على يد الجيل الثاني من الاعلاميين، ليعطي نفحة ضوء او بصيصاً من التفاؤل يعد بارقة أمل للجميع ونهاية سعيدة لكن ذكية لأحداث الفيلم. والفيلم ينتهي على مشهد طه نادر سيف الدين وهو يحقق حلم ابيه وجده بل حلم سعدية. حلم كل البسطاء وحلم ابناء الطبقة البورجوازية ايضاً والمتطلعة الى غد أفضل.