قليلة هي الأفلام التي تشعر بالبهجة بعد الانتهاء من مشاهدتها، ونادراً ما تشعر بالجهد المبذول وراء شاشة فيلم ما. لكن هذا الاحساس يلفك ولا تتخلص منه عقب مشاهدتك فيلم "رشة جريئة" من إخراج سعيد حامد وتأليف ماهر عواد وبطولة أشرف عبدالباقي وياسيمن عبدالعزيز ولطفي لبيب ومجموعة من الوجوه الجديدة، من مثل: أحمد منير ومحمود عبدالغفار وأحمد الحلواني ومحمد علي الدين. يعود ماهر عواد في هذا الفيلم بعد احتجاب دام قرابة عشر سنوات. وهي مناسبة يحق لنا أن نحتفي بها، فهو من كُتّاب السيناريو المجيدين والواعدين، واختفاؤه يعبر في شكل من الاشكال عن الأزمة الطويلة التي تمر بها السينما المصرية، وإن كانت عودته لا تعبر، في أي حال، عن انقشاع ضبابها. ويُعد "رشة جريئة" كذلك بمثابة عودة لأشرف عبدالباقي بعد أكثر من كبوة تسبب فيها سوء الاختيار. لكنه بصفته فناناً حقيقياً ومثابراً لم ييأس من البحث، ووجد السيناريو المناسب ليعيد تقديم نفسه. بل تحمل مسؤولية إنتاج الفيلم أيضاً بالتعاون مع "الشركة العربية للإنتاج والتوزيع". محور الفيلم هو الأحلام البسيطة، الأحلام المجهضة. فبطله سلماوي أشرف عبدالباقي الآتي من مدينة طنطا الصغيرة في دلتا مصر يحلم بالتمثيل، حلماً يشترك فيه الآلاف، لكنه يصر على تحقيقه. نراه في المشهد الأول يستعد لامتحان القبول في معهد التمثيل معهد الفنون المسرحية، وهو يستذكر مشهداً من "عطيل" لشكسبير. أما صديقه جواني محمود عبدالغفار مساعد المخرج المسرحي، فهو يشفق عليه من تكرار تجربة اختبارات المعهد للمرة السادسة، بينما يراقب عم سعد محمد يوسف المشهد من شباكه الذي يطل على "السطوح" الذي يقطنه الصديقان، ويتدخل احياناً ناصحاً. ودور المراقب هو الدور الذي سيؤديه عم سعد طوال الفيلم. ومن خلال الدعاء الذي يتوجه به سلماوي الى السماء، نرصد بساطة أحلامه ورغبته في النجاح المقترن برفع أحوال اسرته والإعلاء من شأنها. وننتقل الى اختبارات القبول في المعهد فيرسم ماهر عواد صورة كاريكاتورية لاذعة للجنة التحكيم والطلبة الممتحنين على السواء، اذ تتدخل الوساطة في قبول الطلاب، وكذلك الاسئلة والفرضيات الغريبة التي يطلبها المحكمون من الطلاب. وهذا الواقع الفني بسلبياته يدركه ماهر جيداً لأنه عايشه، وكذلك سعيد حامد، لذا فالتعبير عنه يأتي صادقاً ومفجراً للضحكات من فرط مأساته، وهو ما يولد خلفية من الكوميديا ومساحة من الفانتازيا يسير عليهما الفيلم في بقية أحداثه. في اختبارات القبول يلتقي سلماوي ميما ياسمين عبدالعزيز، وصبيح أحمد منير، بعد رسوبه في الاختبارات، يصحبه صديقه جواني للعمل في المسرح ك "كومبارس" فيلتقي للمرة الثانية صبيح وميما. ولاحقاً نجدهما في كل الأماكن التي يكون فيها سلماوي لطبيعة اشتراكهم في الطموح نفسه والحلم نفسه، ألا وهو التمثيل. ومنطقة المسرح هذه تمنح ماهر الفرصة مجدداً ليكشف ما يدور داخل كواليس المسرح من صراع بين ممثلي الأدوار الثانوية من أجل إضافة جملة أو "ايفيه كوميدي" ليحصل على تصفيق الجمهور، أو صورة مع سائح، وهو ما يؤدي بصبيح الى ضرب سلماوي، بينما يفوز هو بتعاطف ميما معه. حين يخرج سلماوي ببزة العسكري التي يمثل بها في العرض المسرحي الى الشارع، محاولاً انقاذ ميما من الاختطاف، يقبض عليه الضابط لطفي لبيب الذي يتهمه بانتحال صفة العسكري ويجعله يخلع الزي عنه. وهو الضابط نفسه الذي سنقابله في كل المواقف اللاحقة. وهو تراث كثيراً ما ظهر في الافلام المصرية، اذ نراه نفسه يعمل في كل الاختصاصات والمناطق ما حدا بماهر وسعيد الى استخدام اسلوب المحاكاة الساخرة وبحب لالتقاط هذه الفصيلة وبل التعليق عليها، كاسرين الايهام حين يقول سلماوي للضابط في احد المشاهد: "هو مفيش ضابط غيرك في الفيلم ده". وهذا الاسلوب تكرر ليس فقط في تكرار ظهور الضابط نفسه، ولكن ايضاً في استخدام جزء كامل من فيلم "غزل البنات" حين يدخل نجيب الريحاني وليلى مراد فيلا يوسف بك وهبي الذي ظهر بشخصيته الحقيقة في الفيلم، وهناك يلتقيان المطرب محمد عبدالوهاب. الموقف نفسه يتكرر في "رشة جريئة" حين يختبئ سلماوي وميما في احدى الفيلات، ثم يكتشفان انها فيلا سامي العدل الذي يظهر بشخصيته الحقيقة ايضاً، ثم يلتقيان المطرب الشعبي شعبان عبدالرحيم الذي يغني "ليه يا عين الدمع سال" على طريقته الخاصة، لا على طريقة عبدالوهاب. تنتهي محاولة سلماوي في التمثيل المسرحي باحراق متطرفين دينيين المسرح، وهو ما مهد له ماهر عواد عندما وقف أحد المشاهدين اثناء العرض ينتقد ارتداء سلماوي زي امرأة صارخاً "تشبه الرجال بالنساء حرام". فبراعة سعيد التقنية في تنفيذ مشهد الحريق تبدو واضحة. وزاد من تأثيرها الدرامي ان المشهد يلي مشهد الاستعراض، حيث الأحلام والألوان يعقبها تدمير وحريق. تستمر أحلام سلماوي وكذلك ميما وصبيح. لكنها هذه المرة تتجه الى أحد استوديوهات السينما حيث يعملون ككومبارس في أحد الأفلام. ويعاود ماهر رسم صورة كاريكاتورية أخرى اذ نرى مساعد المخرج يمسك السوط للكومبارس يؤدي الدور المخرج الشاب علي ادريس ويقسمهم وطنيين وانكليزاً بحسب ملامح الوجوه. انه مشهد يصور تظاهرات ثورة 1919. ثم يمنح سلماوي قصاصة عليها بعض الهتافات، ويرفعه الرجال فوق الاكتاف ليقود التظاهرة، بينما ميما تقود تظاهرة النساء. يردد سلماوي الشعارات في حماسة، لكن القصاصة التي تضم الشعارات تسقط فيؤلف غيرها. وبينما تخرج التظاهرة من الاستوديو، تتحول الشعارات الحماسية كلمات عبثية "حابطل سجاير وأكون انسان جديد، من أول يناير خلاص حاشيل حديد ..."، وهي كلمات أغنية لشعبان عبدالرحيم الذي اعتبر أهم ظاهرة فنية أثارت جدلاً في الساحة الفنية هذا العام. تأتي بعد ذلك مشاهد عدة تعيق الايقاع قبض الشرطة على المتظاهرين، اطلاقهم بعد مكافأتهم بعشرة جنيهات، ميما تشتري مناديل ورقية وتحاول اقناع سلماوي ببيعها، مطاردة الرجل الضخم. كأن هذه المشاهد أقحمت من أجل أن تصل بنا الاحداث الى فيلا سامي العدل. ويصلان بالفعل وينصحهما سامي بالتوجه الى المخرج شوكت حلبي لأنه سيقدم مسرحية "عطيل"، ويبحث عن وجوه جديدة لدعم شخصيات المسرحية عطيل/ ديدمونة. هل تتذكرون المشاهد الاولى حيث عطيل هو حلم سلماوي منذ البداية؟ يذهب سلماوي برفقة جواني بعدما صبغ الأول وجهه بالأسود ليتقمص شخصية عطيل، بينما تذهب ميما برفقة صبيح. في المسرح المكشوف الضخم، نجد عشرات الشباب وقد ارتدوا ملابس عطيل وديمونة، وفي استعراض موجز صمم الاستعراضات عاطف عوض، يجري المخرج شوكت علي حسنين غربلة للمتقدمين حتى يقع الاختيار على ميما لتؤدي دور ديدمونة. أما دور عطيل فيكون محصوراً بين سلماوي وصبيح، ويطلب منهما المخرج أن يتبارزا بالسيف على أن يحصل الفائز في المبارزة على الدور. وهنا تبرز قيمة مجازية أخرى اجتاحت الاوساط الفنية، وأراد ماهر أن يلفت اليها، ظاهرة الصراع الى حد الاقتتال بين زملاء المهنة الواحدة من أجل الفوز بفرصة، وإن كان المخرج هو الذي يحض على المعركة هنا في الفرضية المطروحة في الفيلم. فثمة حوادث حقيقية اخرى تتضخم فيها المعارك بفضل اذكاء أطراف متعددين نارها من منتجين وموزعين ووسائل إعلام. يفوز سلماوي في المبارزة من دون أن يقتل زميله، ويظفر بالدور في الوقت نفسه، ويذهب وميما الى فيلا شوكت ليحتفلا باختيارهما. وهناك يكتشف سلماوي أن شوكت شاذ جنسياً، فيأخذ ميما وينصرف غاضباً، لأن اخلاقه لا تسمح له بالتنازل من أجل الحصول على فرصة عمره. والتعرض لشخصية المخرج الشاذ جرأة يحسد عليها ماهر، وكذلك سعيد وأشرف. فالكثير من المحظورات يقف دوماً في المرصاد أمام صناع الأفلام، خصوصاً بعدما ساد مصطلح اخترعه بعض المنتجين والموزعين هو "السينما النظيفة". وهذه بالطبع ليست السينما التي غسلت بمنظف قوي لكنها تلك الخالية من القبلات ومشاهد غرف النوم .... في اليوم نفسه تكتشف الشرطة مقتل شوكت، وبالطبع يتهم سلماوي وميما بالجريمة. وتبدأ مطاردة طويلة بين الشرطة من ناحية والمتهمين البريئين من ناحية أخرى. مشاهد طويلة، أولها أتى في شكل فوتومونتاج/ كليب على أغنية غناها حسن الأسمر آه من اللي حرموا الزمن، تتعدد ما يؤثر في الفيلم ايقاعياً في ربعه الأخير، وإن احتوت لقطات فيها الكثير من الجماليات من حيث الاضاءة والتكوين. وهنا يثبت مدير التصوير طارق التلمساني ان صنع جو خاص لا يقتصر على نوعية من الأفلام، بل يطاول حتى الأفلام الكوميدية، ثم ان الدراما الانسانية ينبغي الاهتمام بها بتقديم صورة جميلة ومتقنة. يتم القبض عليهما، لكنهما يتزوجان في القطار على مأذون وُجد فيه مصادفة، ثم يهربان مرة أخرى ويتوجهان الى استوديو الاخبار والضابط خلفهما. هناك يعلن سلماوي قصتهما امام عدسة الاخبار على الهواء، بينما يأتي خبر اعتراف صبيح القاتل الحقيقي. وبعد مرور سنوات عدة نرى سلماوي وميما بعدما تحولا ممثلين كبيرين يؤديان عطيل وديدمونة في موقع المسرح السابق نفسه حيث اجري الاختبار. لا أعرف سبب اختيار سعيد الموقع نفسه. هل هو سبب درامي أم مجرد مصادفة؟ نرى في المسرح جميع شخصيات الفيلم وأيضاً نجوماً كثيرين يظهرون ضيوف شرف: محمد هنيدي، احمد السقا، المخرج خيري بشارة، الموزع محمد حسن رمزي، ما اضفى على المشهد صدقية، فضلاً عن أن النهاية تمنح مساحة من الأمل من دون اغراق في الخيال. فقد فاز سلماوي أخيراً بشخصية عطيل من دون أن يلتحق بالمعهد، او أن يُضرب بسوط مساعد المخرج، او أن يتنازل اخلاقياً. صحيح أنه عانى الكثير، لكنه استطاع الوصول في النهاية. هناك ملاحظة على المشهد ما قبل الأخير: مشهد اقتحام استوديو التلفزيون، فهو سهل درامياً ويصل الى حد المجانية. واعتقد أن ماهر عواد كان يستطيع العثور على حل آخر أكثر ابتكاراً وأصالة من هذا السهل المكرر. وهناك ملاحظة أخرى تتعلق بعدم توافر سوى نزر يسير من المعلومات عن الشخصيات، فإن كنا نعرف القليل عن سلماوي، فنحن لا نعرف أي شيء عن ميما أو صبيح على رغم انهما شخصيتان رئيسيتان. اجمالاً يثبت الفيلم أن الكوميديا لا تعني بالضرورة الاستسهال أو الاستخفاف بالعقول، وأن لكل شيء منطقاً حتى الفانتازيا ذات المنطق الخاص الذي ينبع من داخل الفيلم. قدم الفيلم وجهين جديدين هما احمد منير في دور صبيح، الشاب الواعد الموهوب على ألا يحاول المخرجون سجنه في أدوار الشاب الشرير، ومحمود عبدالغفار في دور جواني الذي تتبدى موهبته خصوصاً في مشهد محاولة التغرير بميما. ياسمين عبدالعزيز خرجت من إطار الفتاة اللامبالية، وتعاملت مع انفعالات الشخصية صعوداً وهبوطاً. واستطاع سعيد حامد أن يسيطر على أدائها. أما أشرف عبدالباقي فلجأ الى السهل الممتنع. فسلماوي يجمع بين اليأس والإصرار، والكرامة والانكسار، وقد عبّر أشرف عن كل هذه التناقضات بسلاسة، حتى العبارات الكوميدية حاول قدر الإمكان أن تحكمها العفوية ويمليها الموقف من دون لي ذراع الأشياء، فخرجت اكثر قدرة على الإضحاك. فاز أشرف عبدالباقي في اضطلاعه بدور البطولة في هذا الشريط، انطلاقاً من اختيار سيناريو ممتع لماهر عواد، ومخرج يعي طبيعة الموضوع الذي يقدمه. لذا أصبح سعيد حامد أحد أهم مخرجي السينما التجارية في مصر، وهو توصيف ايجابي لا يعني، في أي حال، التقليل من شأنه. نتاج "رشة جريئة" الطبيعي هو زيادة اسهم أشرف عبدالباقي لدى الجمهور والنقاد معاً بعدما قطع على نفسه وعداً بأن يختار وألا يجامل أحداً على حساب فنه، خصوصاً بعد فشل فيلم "أشيك واد في روكسي". وجاء الفيلم بمثابة ترجمة عملية لاستيعابه الدرس السابق، وما أجمل أن يستمر الفنان في التعلم وصنع الأفلام.