يخطئ الأميركيون القليلو المعرفة بالإسلام فيظنون أن حركة "طالبان" التي تسيطر على معظم أفغانستان، وتدعو نفسها إمارة أفغانستان الإسلامية، عيِّنة مما ستكون عليه الحكومات ذات الطابع الإسلامي. ينجم سوء تمثيل حكومة "طالبان" للإسلام عن العوامل التالية: إنَّ كلمة "إسلامية" تظهر في تسميتها الرسمية، ومعظم الأفغان يُنسبون إلى الإسلام، بمن فيهم قادة هذه الحركة" وقلَّما انتقدها زعماء المسلمين في الولاياتالمتحدة علناً لإساءتها استخدام كلمة "الإسلام"" او لأي سبب آخر، قبل تدمير تمثالي بوذا، فضلاً عن أن تعليقات المحتجّين لم تُغَطِّها وسائل الإعلام الرئيسية. كل هذه العوامل ساهمت في تعزيز الفهم الخاطئ أن حكومة "طالبان" هي النوع الذي يود المسلمون إنشاءه في أماكن أخرى من العالم. وهذا يزعج الأميركيين الذين يقلقهم كيف يمكن لمسلمي الولاياتالمتحدة أن يغيروا وجه أميركا إذا ما سيطروا سياسياً. يصف زعماء "طالبان" أنفسهم بأنهم مسلمون، بيد أن انتهاكاتهم حقوق الإنسان، لا سيما حقوق المرأة، انتهاكات صريحة لتعاليم الإسلام يعمِّقها تقصيرهم في وقف الاتجار بالهيرويين. واتهمهم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في تقرير له في 1999، "بخرق منظَّم لحقوق الإنسان: إعدام النساء والأطفال السريع". لكن هذا التقرير لم يحظ باهتمام يُذكر1. إن تقديم زعماء "طالبان" أنفسهم أنهم حكومة دولة إسلامية يُرخي بظلاله على سمعة مسلمي الولاياتالمتحدة، فأخبار هذا النظام تتصدّر النشرات الإخبارية والعناوين الرئيسية للصحف. كان حتمياً أن تتماهى لدى غير المسلمين ممارساتُ حكومة "طالبان" مع الإسلام، بغضِّ النظر عن مدى تأثير العوامل غير الدينية، مثل العادات الثقافية والواقع الناشئ في منطقة تعيش حالة حرب، في تشكيل هذه السياسات. كتب مراسل هيئة الإذاعة البريطانية في باكستان رحيم الله يوسافزاي: "لا توجد اليوم دولة واحدة إسلامية تماماً. فالكل "يجرب": "طالبان" والإيرانيون والسودانيون والباكستانيون .. إلخ". ويستبعد اتخاذ نظام "طالبان" نموذجاً يقلِّده المسلمون حيثما كانوا في العالم". بيد أن تأكيده لا يبدد قلق غير المسلمين في الولاياتالمتحدة2. فقلّة من الأميركيين تستمع بانتظام إلى نشرات أخبار الإذاعة البريطانية، وكثيرون منهم باتوا قلقين متخوفين من نمو عدد السكان المسلمين في أميركا. أعتقد أن معظم الأميركيين لا يدركون الروابط المشتركة بين الحكم بالشورى المنصوص عليه في القرآن الكريم وبين النظام الدستوري الأميركي. ولا يعرفون أن النظامين يتوافقان ويتكاملان من حيث البنى الديموقراطية. من هنا، ينقادون إلى استنتاج خاطئ مفاده أن أفغانستان التي تحكمها "طالبان" هي فعلاً دولة إسلامية…. لم أزر أفغانستان ومعلوماتي وفهمي للأوضاع فيها، تستند إلى آخرين. وكوّنت نظرة متوازنة لعامل "طالبان" عبر دراسات وقراءات واسعة، كما تكلَّمت مراراً ومباشرة مع مسلمين ومسلمات يعرفون المجتمع الأفغاني، واستشرت ناساً قابلتهم في أوقات مختلفة خلال مسيرتي الطويلة مع الإسلام. هناك خمسة رجال كانوا مصادري الرئيسية أحدهم أندرو باترسون، الذي أنهى لتوِّه دراسة عن أفغانستان وتاريخها" وثانيهما محمد بشار دوست، وهو طبيب لاجئ من أفغانستان، وجارنا الأقرب خلال سنواتي الأخيرة في الكونغرس. وفي كانون الثاني يناير عام 2000، أرسلت لهذا الأخير رداً على بطاقة تهنئة بالعطلة كانت قد وصلتني منه، وأعلمته أنني أؤلف كتاباً عن مسلمي الولاياتالمتحدة سيتضمن فصلاً عن أفغانستان. فبدأ يزوِّدني بالمراجع والمصادر والوثائق. أكَّد لي أن لا علاقة له ب"طالبان" أو غيرها من الحركات السياسية داخل البلاد، لكنه يرغب في مدِّي بفهمٍ صحيحٍ لمعاناة بلده الأم، ولمساعي إعادة البناء الجارية فيه. حتى إنه عرض تمويل رحلة لي إلى أفغانستان، لأتعرَّف مباشرة إلى أوضاع الأفغان، وهي دعوة رفضتها بسبب ضيق وقتي. والمصدر الثالث هو سعيد أحمد بط من لاهور، في باكستان، وهو موظف متقاعد في السلك الخارجي، تعرَّفت إليه عندما استأذنني بترجمة كتاب "من يجرؤ على الكلام" إلى اللغة الأردِيَّة ونشره، وقد منحته الإذن. وجعلني تعاملي المطوَّل معه أدرك أنه مراقِبٌ مؤهَّل. كما ساعدني في الاتصال بمصدرين باكستانيين خبيرين في الشؤون الأفغانية، وهما: يوسفزاي من الإذاعة البريطانية، وطارق مجيد، وهو كاتب وعميد متقاعد في البحرية الباكستانية. إنَّ مراسلاتي مع هؤلاء، إلى جانب أبحاثي في الموضوع، جعلتني أقتنع بأن نظام "طالبان" غير إسلامي من وجوهٍ عدةٍ مهمةٍ فعلى رغم شجب الإسلام الشديد للمخدِّرات، يعتمد اقتصاد "طالبان" والاقتصاد اعتماداً كبيراً على إنتاج الهيرويين والأفيون محلياً وتسويقهما في الخارج. وتشكل المخدِّرات أكبرَ مصدرِ دخلٍ من صادرات أفغانستان. يمنع النظام تعاطي الهيرويين محلياً، لكنَّه لا يتخذ إلاَّ خطوات شكلية لوقف الإنتاج من أجل التصدير. وطالما كانت النوعية الممتازة للهيرويين الأفغاني ذات شهرة أسطورية، فضلاً عن أنَّ إنتاجه مزدهر. ففي عام 1997، وبعد أن أحكمت "طالبان" قبضتها على معظم البلاد، ازداد إنتاج الخشخاش بمعدَّل 25 في المئة. وتصر "طالبان" على أن إنتاج الخشخاش أساسي لبقاء المزارعين الفقراء على قيد الحياة. وانسجاماً مع ذلك، لم تستخدم قوتها الأمنية الهائلة لوضع حدّ لتجارة المخدرات. ويفنِّد بيتر باترسون في كتابه "طالبان" ذاك التوكيد الحكومي، فيكتب: "ادَّعى "طالبان" في أحدث تصريحاتهم أن المزارعين الأفغان مضطرون بسبب من الفقر إلى زرع الخشخاش". لكن الحقيقة هي أن الفقراء لا ينتفعون إلا عندما يحتاج ملاّكو الأراضي الكبار إلى عمالة يومية لأرضهم، أو عندما يطلبون من المزارعين الصغار مدَّهم بإنتاجهم لتلبية طلبات غير متوقعة في السوق3. فالأغنياء الأفغان هم الذين يتحكمون في معظم إنتاج الخشخاش، وفي تصنيع منتَجاته الجانبية وتصديرها إلى الأسواق الأجنبية. على صعيد آخر، نجد التمييز ضد النساء، ظاهرة متفشية، قديمة العهد، وتشكل انتهاكاً صارخاً لتعاليم الإسلام. ويكتب باترسون أنَّ "طالبان" بدأت تنفذ في أوائل 1999 الأنظمة التالية: ممنوع على النساء مغادرة بيوتهن إلا برفقة رجل، حتى في حال طوارئ تتطلب الاستعانة بطبيب أو الانتقال إلى مستشفى. ممنوع أن يعالج طبيب النساء إلا نادراً، على رغم النقص الحاد في عدد الطبيبات. ممنوع عمل المرأة خارج البيت إلا في عدد من أنواع الأعمال تحدِّدها "طالبان". على المرأة، عندما تكون خارج بيتها، أن تُرخِيَ برقعاً يحجب وجهها. المدارس الحكومية للذكور فقط، فلا وجود لمدارس البنات إلا على الورق. على كلِّ الذكور الالتحاء، وإقامة الصلوات الخمس في المسجد يوميّاً في مواقيتها. أجهزة التلفزة محرّمة بموجب القانون. يشير باترسون إلى أن الإسلام لا يفرض أنظمة كهذه أو يوجبها" بل إن معظمها ينتهك مبادئ حقوق الإنسان التي نص عليها القرآن الكريم. وقد نشأت هذه الانتهاكات، أساساً، من تصميم "طالبان" على استبقاء التقاليد اللادينية، التي ازدهرت في أفغانستان قبل زمن من وصول الحكم الحالي إلى السلطة، والتضييق عليها في آن. في طليعة هذه التقاليد، الهيمنة الذكورية على الحكم والتعليم والتوظيف في القطاع الخاص. وفيما لا يمكن تبرير اشتراك "طالبان" في تجارة المخدرات أو القيود الثقيلة التي فرضتها على النساء، فلا مناص من الإشارة إلى أنها تسيطر على بلاد يُعتبر الجفاف والقسوة الطابع المميز لظروفها الاقتصادية، ولحيّز كبير من تاريخها، ولتضاريسها الجغرافية أيضاً. ويصف باترسون أفغانستان جغرافياً بأنها واحدة من أكثر البلدان انعزالاً وبعداً وجبالاً في العالم: "عانى شعبها الأمرَّين عبر التاريخ، وتحمَّل ظروفاً معيشية صعبة. كما تعرَّض أحياناً للمذابح الوحشية، ومراراً لاعتداءات عسكرية، فيما كانت خريطة البلاد السياسية تتغيَّر. وفي القرن الثالث عشر، أنشأ هولاكو، حفيد جانكيزخان، جيشاً جرَّد معظم المناطق من أهلها، وذبح مئات الآلاف منهم، ودمَّر مدناً ونُظُم ريّ مُتقنة، تدميراً كاملاً". "ولطالما شكَّلت أفغانستان المحاطة بالبرّ، وبجيران يختلفون عنها حضارةً وديانةً، تقاطع طرق لغزوات عسكرية دموية متكرِّرة. لقد ظلَّت سنين طويلة تحت الحكم الفارسي، ثم غزاها البريطانيون. وخلال السبعينات تعاظم فيها النفوذ السوفياتي". وعماد حركة "طالبان" شبان ملتزمون، عددهم عشرون ألفاً على الأكثر، قضى معظمهم فترة الصبا لاجئاً في شمال باكستان، خلال سنوات احتلال القوات السوفياتية معظم أفغانستان. ودرسوا في مدارس دينية أنشأها البريطانيون في بيشاور قبل أن تصبح باكستان دولة مستقلة" وهناك كانوا يقضون السنوات الستَّ الأولى من دراستهم في التعليم الأساسي، تعقبها سنتان من التأهيل الذي كان يشمل التلقين الإيديولوجي، المسؤول عن تنمية التعصّب حيال كل من يدين بديانات أو قوميات مختلفة، ما يشكّل انحرافاً عن المعايير الإسلامية. أما السنتان الأخيرتان في تلك المدارس، فكانتا مخصّصتين للتدريب العسكري". كانت الفكرة التربوية الرئيسية، في تلك الفترة، فكرة أملتها سياسة "فرِّقْ تَسُدْ". وعرض لها باترسون بقوله: "قصد البريطانيون من وراء إنشاء هذه المدارس تنمية العداوات الطائفية بين أتباع الديانات المختلفة وتغذيتها. كانت غايتهم إيجاد نزاع يساعدهم على تبرير الهيمنة البريطانية الكلية على الهند، التي كانت تشمل آنذاك باكستان. ومن أهدافهم الرئيسية تغذية العداوة وانعدام الثقة بين المسلمين والهندوس. وأنشأوا المدارس في المنطقة التي أصبحت في ما بعد باكستان، حيث كان يلقّن الطلبة المسلمون ما ينمّي تعصّبهم حيال الهندوس، كما أنشأوا مدارس في مناطق أخرى حيث كان يتلقّن الطلبة الهندوس ما ينمّي عدم ثقتهم بالمسلمين". وأشار باترسون إلى التغيُّر الذي حصل في التوجُّه إثر غزو السوفيات أفغانستان، حين أصبح الشبان اللاجئون الأفغان الفئة الغالبة في مدارس بيشاور، فقال: "لقد أُسقِط محور المعاداة للهندوس من روزنامة التلقين العقائدي، واستبدلت به تعاليم العداء للغزاة السوفيات وللمتعاملين معهم من الأفغان"4. أتى التغيير في محله تماماً. فقد قامت القوات السوفياتية باعتداءات وحشية في طول البلاد وعرضها، بما فيها المناطق الريفية، خصوصاً ضد الزعماء المسلمين والمؤسسات الإسلامية. ولا يدرك الغرب مدى الخراب الهائل والتدمير اللذين لحقا بالممتلكات، مما يعود جزئياً إلى الحظر الذي فرضته وكالة الاستخبارت الأميركية على وجود وسائل الإعلام الرئيسية، وتغطية الأخبار من مواقعها. لقد كانت المذابح التي ارتكبت في أفغانستان ضد شعبها أكبر بكثير من المذابح، التي حصلت في أوائل التسعينات وأواخرها، على أيدي القوات الصربية ضد مسلمي كوسوفو والبوسنة في يوغوسلافيا، وحظيت بتغطية إعلامية جيدة. يقدَِّر الصحافي بروس ريتشاردسون أن مليوني أفغاني، معظمهم مدنيون من المناطق الريفية، قتلوا على أيدي السوفيات خلال العقد الذي احتلوا فيه البلاد، وأصبح 750000 مدني معوقين، إذ كانوا ضحية انفجارات الألغام الأرضية" وسوِّي بالأرض مليون بيت ريفي وأحد عشر ألف قرية، مع عدد مماثل من المساجد، وزهاء ثلاثة آلاف مدرسة ابتدائية" كما نفق أكثر من 170 ألف جواد و15 مليون رأس من الغنم والماعز، وزهاء مليوني رأس من الأبقار. اتبع السوفيات طريقتين لتدمير قريةٍ ما وقتل سكانها: إما أن تُشَنَّ غارة جوية عنيفة، ثم تحوم الطوافات فوق المكان وتستعمل رشاشاتها لقتل الهاربين من بين الركام" أو تقصف المدفعية وقاذفات الصواريخ كل الأبنية وتدميرها، ثم تجتاح المنطقة القوات السوفياتية وقوات جمهورية أفغانستان الديموقراطية _نظام الحكم الذي يديره السوفيات- وتقتل كل من بقي حياً من القرويين بين الخرائب" ثم تُسَمِّم الآبار، وتُفَخِّخ الجثث، وتزرع الألغام في الأهراء، لتضمن قتل أو جرح كل من يحاول دفن الموتى أو الحصول على شيء من المحاصيل النادر وجودها5. من جهته، يعتقد سعيد أحمد بط أن العقيدة الدينية اضطلعت بدور رئيسي في المقاومة الأفغانية، إذ يقول: "من المحتمل أن يرد الشعب الأميركي الفضل كله الى المعدات العسكرية التي وفّرتها حكومته للمقاومة. لكنه يتناسى حقيقة مهمة، وهي أن الولاياتالمتحدة ظلت على مدى سنتين ونصف السنة تمتنع تماماً عن إرسال الأسلحة، بل لم تعلن أي التزام بالمساعدة فاستولى الأفغان على الدبابات وبطاريات المدافع السوفياتية، وعلى ملايين من الألغام، إلى جانب انتصارهم على قوات حكومة كابول الشيوعية، مستندين في ذلك إلى إيمانهم القوي بالله، وإلى عقيدتهم السامية فقط. "ويكاد يكون من المستحيل على الصحافيين الغربيين أن يفهموا الروحية التي تسيِّر المقاتلين الأفغان. لو كانت لدى الشعب الأفغاني القيم الاجتماعية نفسها والسلوك الجماعي الذي يعتبره المراقبون الغربيون طبيعياً، لما نجحوا في تحمل الغزو السوفياتي على مدى عشر سنواتٍ طوالٍ، ولما استطاعوا، في النهاية، إجبار القوات السوفياتية على الانسحاب. إن هناك ما غذَّاهم، ودعم صمودهم خلال تلك المعاناة الفظيعة"6. وبعد أن وقفت حكومة الولاياتالمتحدة حوالى ثلاث سنوات على الحياد، قرَّرت أن تساعد في القتال ضد الاحتلال السوفياتي، بتقديم المال والذخيرة وتأمين التدريب العسكري. كان أسامة بن لادن اتخذ لنفسه، آنذاك، دوراً بارزاً، سواء كمهندس إنشاءات مدنية او كمقاتل. وما ان طُرِد السوفيات من أفغانستان حتى حمل معداته الثقيلة وفريق عمله إلى السودان، حيث نال الثناء على بنائه طريقاً سريعاً من 800 ميل يربط الخرطوم ببور سودان وعطبرة. وبعد مغادرته السودان، حوَّل نيرانه السياسية الى إسرائيل وحليفها الأقرب حكومة الولاياتالمتحدة. … وعارض استمرار الوجود العسكري للقوات الأميركية في منطقة الخليج العربي، ووجود القوات البريطانية، التي كانت القوة الإمبريالية المهيمنة بالأمس على المنطقة …. وأتت ردة الفعل من الرسميين الأميركيين عبر اتهامه باستخدام المخيمات في أفغانستان لتدريب الإرهابيين لشن عمليات حول العالم. وأكَّدوا أنه هو وبعض الذين درَّبهم متورطون في عملية تفجير سفارتي الولاياتالمتحدة في تنزانيا وكينيا عام 1998. وفي ضوء المساعدة المهمة التي قدَّمها ابن لادن في إخراج الغزاة السوفيات، منحته "طالبان" الملاذ. والأرجح أنه سيظل يعتبر بطلاً في أفغانستان. ويؤكد رحيم الله يوسفزاي ذلك: "إن الولاياتالمتحدة جعلت من أسامة بن لادن بطلاً في عالم المسلمين، وكلَّما ركَّزت الضوء عليه كبُر حجماً وأهمية"7. يبدو أن ابن لادن لم يقم بدور بارز خلال الفترة العاصفة التي أعقبت طرد الغزاة السوفيات. فالبلاد التي ساعد على إنقاذها غرقت في الفوضى. وتحوَّلت عصابات من المجاهدين المسلمين، الذين نجحوا في طرد الغزاة، إلى أمراء حرب مستقلين" وانخرطوا في قتال داخلي بينهم من أجل السلطة. وبمساندة من باكستان والولاياتالمتحدة، تشكَّل ائتلاف من خمسة فصائل، لكنه سرعان ما تداعى. كان المؤلف بروس ريتشاردسون يجوب أنحاء أفغانستان آنذاك، حيث لقي "فساداً هائلاً". وخلال هذه الفترة العاصفة من تاريخ البلاد، دعمت الولاياتالمتحدة وباكستان "طالبان" لتحكم سيطرتها السياسية على مناطق المدن وعلى قسم كبير من الريف. وما ان تسلَّمت سُدَّة الحكم حتى فرضت النظام عبر مصادرة كل الأسلحة الفردية، وعبر تطبيق نظام متشدَّد. هنا تختلف آراء الصحافيين الغربيين حول نتائج ما حصل. لقد جاب ريتشاردسون البلاد طولاً وعرضاً، ولاحظ "غياب الفساد والجريمة في المدن" أما في الأرياف، فليس هناك إساءة معاملة للسكان بمن فيهم النساء"8. إلاَّ أنَّ صحافياً بريطانياً هو بيتر _ باترسون، قام بجولة خلال الشهور الأولى من حكم "طالبان"، فوجد مشاعر الأفغانيين منقسمة حيال سلوك الحكم الجديد" ذلك أن الحركة ظهرت على الساحة كمجاهدين، واستولت على معظم البلاد عبر اندفاع شبان مستعدين للاستشهاد في سبيل القضية. لكنهم، من وجهة نظر غربية، ومن وجهة نظر معظم المسلمين، سلكوا مسلكاً متطرفاً مضطهداً للنساء بإجبارهن على الانعزال عن المجتمع". وعبَّر باترسون عن "درجة من التعاطف والتفهم" عندما عزا ذلك إلى "إرهاق الأفغان من استمرار القتال وخيبة أملهم في قادة المقاومة الذين فشلوا في أن يتحدوا ليؤلفوا حكومة مستقرة"9. وجابت باميلا كونستابل، مراسلة صحيفة "واشنطن بوست"، أفغانستان، فوجدت أن "طالبان" "أحدثت تغييرات إيجابية.. فبعد سنين من الاضطرابات، تولّد اليوم إحساس بالأمان في المنطقة التي اعتمد مصيرها يوماً على ما يتكرَّم به أمراء الحرب وعلى قوَّتهم وتحالفاتهم المتذبذبة…"10. وسجَّل باترسون أن حماس الأفغان حيال "طالبان" لم يستمر طويلاً. "ففي البداية رحَّب بهم الأفغان الذين استهلكتهم الحرب، لكن الانفعالات ثارت عندما فرضت قيوداً قاسية تنمّ عن التعصّب، وكانت انعكاساً لما تلقّنه قادتها في بيشاور. لقد أقاموا حكماً أوتوقراطياً لا هوادة فيه، ولم يتَّبعوا المبادئ الديموقراطية التي نصَّ عليها القرآن الكريم" كما هضموا حقوق النساء التي تضمَنُها الشريعة الإسلامية". لم تُلْقِِ وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية بالاً إلى انتقادات المسلمين ل"طالبان"، لكن هذا النقص في ما نشر أو بثّ من احتجاجات ليس دليلاً أبداً على موافقة المسلمين الأميركيين على تصرفاتها، أو على عدم اهتمامهم بها. إن بعض الشخصيات القيادية المسلمة الأميركية دانت قوانين "طالبان" القمعية، وشجبت خرقها حقوق الإنسان، والصورة التي يقدمها نظامها عن نفسه على أنه دولة إسلامية حقَّة. أدلت ليلى المرياطي بتصريح في كانون الأول ديسمبر 1998، وزَّعته "وكالة الأنباء الدينية" دانت فيه "طالبان" "بسبب فرضها الفصل بين الجنسين على حساب حاجات النساء" ومنعها "معاينة الأطباء لأفغانيات، خصوصاً في ظل قلة عدد الطبيبات". واتهمت "طالبان" بمخالفة القرآن بمنعها النساء من العمل في الأماكن العامة. وكتبت: "على كل حكم يدّعي تطبيق الشريعة أن يدرك أن غايتها الأساسية هي ضمان خمسة حقوق واسعة لكل مواطن تشمل كل نواحي السعي الإنساني، ألاَ وهي: حقوق الحياة والفكر والعائلة والملكية والدين. وعندما منعت قيادة "طالبان" المرأة الأفغانية من التمتُّع بهذه الحقوق فضحت جهلها بالإسلام… إن سياساتها القمعية ستستمر طالما أنها لا تدرك ما في القرآن من تسامح ومساواة". ودانت المرياطي سياسات "طالبان" لأنها "انتهاك صريح لأسس العقيدة الإسلامية… لقد فرضت إجراءات قاسية على الأفغان بعامة، وعلى الأفغانيات بخاصةً، باسم الإسلام". وشجبت تطبيق "طالبان" العقوبات الجسدية من دون محاكمة قانونية، مناشدةً القادة الأفغان وغيرهم من قادة المسلمين أن "ينظروا في عمق الإسلام نفسه"، بدلاً من أن يروه عبر منظار مشوِّه دنيويٍّ، لاديني. أما الطبيب حسان حتحوت، زعيم "المركز الإسلامي لجنوب كاليفورنيا" ICSC فيشك في ما تدَّعيه "طالبان" من تطابق حكمها مع الإسلام. يقول: "من الواضح أن براعتها العسكرية تفوق معرفتها الإسلام. وعندما حاربت الروس تربَّعت في قلوبنا، وعلَّقنا عليها آمالاً كبيرة. لكن أحلامنا تبدَّدت حينما بدأ الاقتتال بُعَيْد الانتصار. والآن، "طالبان" منتصرة، لكن الإسلام قطعاً لم ينتصر …". ويضيف حتحوت الذي ألَّف كتاباً عنوانه "قراءة في تفكير المسلم" Reading the Muslim Mind ان قمع النساء خرق صريح لتعاليم القرآن الكريم ولسنَّة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وللسلف الصالح… والآن نشهد ]في أفغانستان[ ]حملة[ الهراوات بعباءات رجال الدين، يكمّون الفتاة الطفلة… ونشعر أن من واجبنا الدفاع عن ديننا، وعن سمعته التي غالباً ما يُلطِّخها الإعلام الغربي" بيد أننا هنا، للأسف، ندافع عنهما ضد مسلمين لم يجدوا من ينصحهم ويوجِّههم توجيهاً صحيحاً. ففي بعض الأماكن من العالم الإسلامي، تتعرَّض النساء للقمع، ]كما يتعرَّض الرجال أيضاً[، ويحرمن الحقوق الإسلامية الأساسية، لكن أيَّاً منها لا يوازي القرارات الأخيرة التي اتخذتها "طالبان" على مشارف القرن الحادي والعشرين". ويضيف بمرارة: "لقد قللوا، الآن، من شأن تضحية مليون أفغاني استُشهدوا في مجابهة العدوان السوفياتي. فقد تراجعت قصة تضحياتهم، وحلت محلها نيران الحرب بين الإخوة، والإذلال الذي يمارسه البوليس الديني"11. وفي خطبة ألقاها الإمام موسى قطب رئيس "مركز المعلومات الإسلامي" في أميركا، ومقرّه شيكاغو، نَعَتَ زعماء "طالبان" بأنهم "ينحرفون عن التيار الإسلامي العام"12. أدَّت القيود التي فرضتها "طالبان" إلى إطلاق سلسلة احتجاجات في الغرب. وعندما ظهر تقرير جاء فيه أن قادتها أمروا كل الرجال بإطلاق لحاهم، وهو تقرير يتشكك محمد بشار دوست في صحته، وغضب الدكتور إسلام عبدالله، رئيس تحرير مجلة "Minaret" الشهرية المخصصة لجماعة المسلمين، إلى درجة أنه عمَدَ إلى حلق لحيته المشذَّبة بعناية احتجاجاً. وبعد أسابيع، غيَّر رأيه، حين حصل عدوان وحشي على مسلمي كوسوفو، فأطلق لحيته تعبيراً عن التعاطف مع شعبها. ويعتبر باترسون ممارسات "طالبان" إحراجاً للدين الإسلامي. فيقول: "أنا منزعج للغاية من تفسيرها الإسلام، وأتَّجه إلى إنهاء أحد كتبي بالعبارة التالية، المستقاة من فيلم قديم: "الله يستخدم الطيبين، أما الأشرار فيستغلُّون اسم الله". ولفتت أنظار الرأي العام الاحتجاجات التي أطلقتها حركة "الغالبية النسائية"، بمساعدة الصحافية ابيغال فان بورين، محررة باب "عزيزتي آبي"، الشهير. فعندما نشرت رسالة عن قمع "طالبان" للنساء في 26 شباط فبراير 1999، انهمرت ردود من 45000 شخص. وترأست مافيس نيكولسون لينو، زوجة مضيف برنامج "Tonight Show" الذي تبثّه شبكة "NBC"ي، حملة ضد "التمييز الجنسي في أفغانستان"، وساهمت بمبلغ مئة الف دولار للقضية. وفي باب "عزيزتي آبي"، نشرت لينو في الثاني عشر من تموز يوليو 1999 نتائج تجاوزت، في أهميتها، سيل المكالمات الهاتفية، إذْ تلقّت تأييداً للحملة من الرئيس كلينتون، ودعماً من الحزبين في الكونغرس، ورُتِّبت لها لقاءات مع كبار موظفي الأممالمتحدة. وفي الباب نفسه، نقلت، عن رسالة من امرأة في كابول، قولها: "كم أتمنى لو أستطيع غمرَك بالأزهار لأعبِّر لك عن مدى امتناني لكِ، لكني لا أستطيع أن أهديك من سجني هذا سوى قطراتٍ من دموعي". وفي العاشر من أيلول سبتمبر، نشرت في هذا الباب رسالة مُغفَلة من مسلم يقيم في نيوجيرسي جاء فيها: "من الزّيف بمكان أن نردَّ قمع المرأة في أفغانستان أو في غيرها من البلدان الإسلامية إلى تعاليم الإسلام. والحق أن القرارات التحريرية التي صدرت عن النبي محمد ص أعطت النساء مكانة مشرّفة ومحترمة في بلاد العرب في القرن السابع الميلادي. فمثلاً، خلال المعارك التي جرت في صدر الإسلام، عملت النساء في ميدان المعركة في مداواة الجرحى ومؤاساتهم" أي أنهنَّ لم يُعزَلن ولم يُنبذن". أما المراقبون للساحة الأفغانية، عن كثب، فيقدِّمون تقويمات متناقضة. يقول العميد طارق مجيد: إن "إيلاء النساء حمايةً وتكريماً خاصَّين، ومرافقتهنَّ عندما يخرجن من بيوتهنَّ، وخصوصاً في الليل، وتشجيعهنَّ على أن يتطبَّبن لدى طبيبات، وفصلهُنَّ عن الرجال في المؤسسات الأكاديمية: كل هذه ممارساتٌ معروفة في المجتمع الإسلامي، وكانت البلدان الغربية تتَّبعها قبل الحرب العالمية الأولى، بما فيها الولاياتالمتحدة الأميركية. فهل بمقدور أحدٍ وصف مجتمع الدول الغربية، آنذاك، بأنه كان متخلفاً وبدائياً؟". إلاَّ أنه ينتقد النظام الأفغاني بحدَّة، ف"طالبان" تحطُّ من قدْر المفاهيم والقيم والممارسات الإسلامية وتسَخِّفها. ويضرب مثلاً على ذلك قرارها "الخبيث" بتسمية إذاعتها الحكومية "راديو الشريعة"، إذ يرى في ذلك تحقيراً للشريعة، وهي صلب القانون الإسلامي. كما يحتجُّ على تسمية زعيمهم نفسه ب"أمير المؤمنين"، وهو لقب اختص به تاريخياً رأس الأمة الإسلامية جمعاء"13. ويلحظ يوسفزاي أنَّ "الإعلام الغربي نادراً ما ينقل إنجازات "طالبان" كنزع سلاح السكان في بلاد لا قانون فيها، غارقةٍ في الأسلحة والذخائر" وإزالة الحواجز ونقاط التفتيش، وحماية الناس وكراماتهم في المناطق الواقعة تحت سيطرتها" وأخيراً إعادة توحيد 90 في المئة تقريباً من الأراضي الأفغانية تحت سلطة واحدة، بعد أن كانت تتنازع السلطة عليها جماعات مسلَّحة متعدِّدة من الميليشيات التي أقامت إقطاعيات خاصة، ونشرت الرعب في كل مكان، جماعات حكمت بالقوة وحدها" أما دعوى "طالبان"، فلا ترتكز الى القوة وحدها". ويشرح صعود "طالبان" السريع إلى سدَّة الحكم قائلاً: "فشل المجاهدون الأفغان الذين سبقوها في إحلال السلام أو في تطبيق الشريعة الإسلامية، بعد نجاحهم في محاربة الاحتلال السوفياتي ونظام كابول المدعوم من موسكو. ورحَّبت بها الجماهير التي لم تعد تطيق المجاهدين وتريد التخلُّص منهم. هذا يفسر سبب تحقيق "طالبان" معظم انتصاراتها من دون قتال فعلي". وفي أيلول سبتمبر 1999، أعلن الناطق الرسمي باسم "طالبان" وكيل أحمد متوكل أن الإنفاق على التسلَّح لم يترك شيئاً تقريباً، للصحة والتعليم. واستشرف المستقبل قائلاً: "ننوي وضع برنامج تعليمي للجنسين"، لكنه أكَّد أنَّ أيَّاً من المؤسسات المزمَع إنشاؤها لن تكون مختلطة15. وفي كانون الأول ديسمبر 1999، حصلت حركة "طالبان" على ثناء العالم لتعاملها مع أزمة قتل كشميريين احد المسافرين، والاحتفاظ ب150 آخرين رهائن على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الهندية، طوال ثمانية أيام في مطار أفغاني. في بادئ الأمر، طالب المسلَّحون الهندَ بدفع فدية مقدارها 200 مليون دولار، وإطلاق سراح 36 من رفاقهم المسجونين لديها، ونبش جثة آخر وإعادتها إلى الكشميريين. وعندما لفت مفاوض "طالبان" نظر الخاطفين إلى أن "مجمل عملية الخطف والاحتفاظ برهائن من أجل الفدية ونبش الجثث ضد تعاليم الإسلام"، أسقط هؤلاء مطالبهم الخاصة بالفدية ونبش الجثة16. وبعد المزيد من المفاوضات مع زعماء الحركة، أنهى الخاطفون العملية، بعد أن وافقت الحكومة الهندية على إطلاق سراح زعيم مسلم واحد. وكجزءٍ من الصفقة، شيَّعَ رسمِيَّو "طالبان" الخاطفين إلى منطقة جبلية من أفغانستان لم يُكشف النقاب عنها، حيث أطلق سراحهم. وفي كانون الثاني يناير 2000، اتخذ نظام "طالبان" خطوة أخرى لتحسين صورته العالمية، حين وجَّه دعوة الى محطة "CNN" التلفزيونية لإقامة مكتب ثابت لها في كابول، كما منح "BBC" حق تغطية إعلامية أوسع لمنطقة الأرياف. ويعبِّر محمد بشاردوست عن تفاؤله بالمستقبل: "فبعد عقود من الحرب وسفك الدماء والخطف والسلب والنهب، أضحى رجال أفغانستان ونساؤها متعطشين الى شخصية أو الى مجموعة أو مؤسسة تسترجع لهم السلام والأمن والاستقرار. فهم يقدِّرون أهمية الوحدة والأمن والسلام ونزع السلاح. ويُكبِرون "طالبان" التي حققت هذه المنجزات، لكنهم كانوا سيهلِّلون لأيِّ مجموعة أو أمة أو مؤسسة دولية تقوم بذلك. فهم يعرفون أنه لا يمكن إعادة بناء أمة مزَّقتها الحرب، وإعادتها إلى التيار العام العالمي بين ليلة وضحاها". ويأمل بشاردوست أن تأخذ الولاياتالمتحدة زمام المبادرة إلى إقامة "حوارٍ بنَّاء" مع "طالبان"، وتحضّ على إنهاء العقوبات ضد أفغانستان. ويدافع عن الحماية التقليدية للنساء كما هي في الثقافة الأفغانية. فكلمة "الناموس" كلمةٌ عزيزة على الأفغانيين، وتمثِّل منتهى الاحترام والتكريم اللذين يقدمهما الرجل الأفغاني الى المرأة17. وكتب لي سعيد أحمد بط من باكستان، يقول: "فلتتذكرْ أن الأفغان فقدوا أكثر من مليون نسمة، خلال ذلك الصراع الملحمي غير المتكافئ مع الاتحاد السوفياتي. واضطر أكثر من خمسة ملايين للجوء إلى الدول المجاورة، والعيش في ظروف مزرية أكثر من عشر سنوات"22. وهناك من يقدِّر عدد القتلى بأكثر من مليونين. ويشير أحمد بط إلى الفصل بين الجنسين في المدارس والمستشفيات والعيادات، وإلى وضع الحجاب القناع على وجوه النساء، وفرض إطلاق اللِّحى، ومرافقة الرجال للنساء عند خروجهنَّ من بيوتهنَّ على أنها تقاليد" وقد جرى التواضع عليها قبل وقت طويل من وصول "طالبان" إلى السلطة، بل انَّ بعضها يعود إلى ما قبل ظهور الإسلام23. بيْد أن هذه الممارسات مفروضة من الحكومة، بغضِّ النظر عن كونها نابعةً من الدين أو من العادات والتقاليد، أو من الصراع الأهلي" أي لا خيار فيها للفرد أو للعائلة. ولا أثرَ لما نصَّ عليه الإسلام من الحكومة الفضلى التي تحكم بالشورى والإجماع اللذين يحميان حقوق الناس وكرامتهم على حدٍّ سواء. يستحق المقاتلون الأفغان في سبيل الحرية الثناء المطلق على بسالتهم الاستثنائية، التي قلَّ نظيرها في طرد الغزاة السوفيات وعملائهم من الأفغان" كما يستحق الأفغان، جميعاً، العطف الدولي لأنهم يدأبون على مجابهة مختلف التحديات في الفوضى، التي نجمت عن ذلك الصراع المستمر منذ عشر سنوات. وصل الكفاح إلى ذروته أواخر عام 2000، مع انتشار المجاعة على نطاق واسع. وفي آذار مارس عام 2001، حذَّرت الأممالمتحدة من أن أكثر من مليون أفغاني يواجهون مجاعة وشيكة إثر ثلاث سنوات متتالية من الجفاف. ومن سخرية الأمور أن المنظمة نفسها، أي الأممالمتحدة، زادت المعاناة عذاباً بفرضها، في الوقت نفسه، عقوبات اقتصادية قاسية على الأمة الأفغانية جمعاء، نزولاً عند رغبة الولاياتالمتحدة. لأن "طالبان" رفضت تسليم أسامة بن لادن. وعلَّق أحد قادة "طالبان" في "مدينة هراة"، على ذلك قائلاً: "لا نفهم لماذا يقتل الأميركيون الشعب الأفغاني بهذه العقوبات، لمجرد القبض على رجل واحد: أسامة بن لادن"24. يبدو أن الغرباء لا يدركون أن بن لادن هو أحد أَجَلِّ أبطال الأفغان، وكان له دور شبيه بدور المركيز لافاييت الفرنسي الذي قاتل إلى جانب الثوار خلال الحرب الثورية الأميركية. لقد انخرط بن لادن في معركة لطرد السوفيات قبل وقت طويل من تحرّك الولاياتالمتحدة. وازداد المشهد غرابة في شباط فبراير عام 2001. فقد عمّ الاستياء معظم البلدان، عندما أمرت "طالبان" بتدمير تمثالي بوذا العملاقين المحفورين في الصخر قبل زمن طويل من ظهور الإسلام. وتُعَدُّ أفغانستان أحد المواقع الأولى للديانة البوذية. وللتمثالين قيمة تاريخية لا تُضاهى في علم الآثار. واندلعت الاحتجاجات في كل مكان، وأسف القادة المسلمون في البلدان الأخرى لقرار "طالبان"، مؤكدِّين أنه، وإن كان الإسلام يعارض تصوير شخصياته الدينية ويعارض عبادة الأصنام، ولكنَّه لا يصفح أبداً عن تدمير رموز الديانات الأخرى. تُثبتُ الجلبة التي حصلت بشأن التمثالين، مرةً ثانية، أن لا حقََّّ ل"طالبان" في تسمية حكمها بالدولة الإسلامية. لكن الحسم بشأن العقوبات الدولية يبرهن، هو الآخر، عن مدى جهل المجموعة الدولية ونفاقها وقسوتها. فتدمير تمثالين لبوذا استثار لمدة طويلة احتجاجاً دوليّاً عظيماً، يفوق، إلى حدّ بعيد، الاحتجاج على العملية الوشيكة التي ستمحو الآثار التي لا تقدَّر بثمن في الكرمة على ضفاف النيل في السودان، وهي آخر ما تبقَّى من الحضارة النُّوبِيَّة القديمة. من المحتمَل أن قرار "طالبان" بتدمير التمثالين كان، إلى حدٍّ بعيد، عملاً سياسياً، ينطوي على تحدٍّ، جاء ضد عقوبات الأممالمتحدة" وهذا لا ينفي كونه خطأً فادحاً. قال لي مواطن سوداني: إن "إنقاذ الناس ليس أقل أهمية من إنقاذ تراثهم. فلا فصل بينهما: فكلٌّ منهما انعكاس للآخر. ويبدو لي أن تصرُّف "طالبان" أتى نتيجةً للعزلة واللامبالاة التي أبداها المجتمع العالمي". هوامش الفصل الرابع 1 USA Today, 12-29-1999. 2 Letter, 9-30-1999. 3 Peter Marsden, The Taliban, p. 141. 4 Interview, 8-7-2000. 5 Ibid. 6 Saeed Ahmed Butt, letter, 8-31-1999. 7 Letter, 10-30-1999. 8 Interview, 7-6-1999. 9 Peter Marsden, The Taliban,War, Religion and the New Order in Afghanistan pp. 57, 148. 10 Washington Post, 5-21-1999, p. A23. 11 News release, Muslim Public Affairs Council, 7-99. 12 Letter, 10-8-1999. 13 Letter, 9-24-1999. 14 Letter, 10-30-1999. 15 AFP News Agency, 9-14-1999. 16 Amir Zia, Kandahar, Afghanistan, AP dispatch, 12-30-1999. 17 Letter, 4-16-1999. 18 USA Today, 7-13-2000, p. 8A. 19 Letter, 8-1-99; and Afghanistan in Pictures Lerner Publications, 1990, p. 47. 20 Letter, 8-15-2000. 21 Journal Courier, 2-16-2000, Jacksonville, IL, AP dispatch, p. 10. 22 Letter, 8-31-1999. 23 Ibid. 24 Times, 3-7-2001, p. 47-48.