بعد موافقة موسكو في مؤتمر جنيف عام 1988، على سحب قواتها من افغانستان، عقد الجانبان الاميركي والسوفياتي مؤتمراً آخر في كانون الاول (ديسمبر) 1991، اتفقا خلاله على وقف تزويد القوات المتحاربة – افغانية كانت ام متطوعة – بالسلاح والمال. ورأت واشنطن في اعلان توقيت الانسحاب السوفياتي، هزيمة مدوية لموسكو، وانتقاماً تاريخياً عزز ثقتها بدورها عقب عملية الهرب المهين من سايغون! وتوقعت الولاياتالمتحدة أن يغادر اسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأنصارهما في «الجبهة الاسلامية العالمية»، جبال افغانستان لأن مبررات البقاء قد انتفت مع اندحار الغزاة. والثابت ان هزيمة السوفيات شجعت بن لادن على إعادة جمع المجاهدين الذين التحقوا بركبه، خصوصاً بعد انتهاء الحرب وتفكيك الادارات التي أُنشئت من اجلها. وعلى أنقاض الجماعات الاسلامية المسلحة، اطلق اسامة بن لادن وأيمن الظواهري تنظيمهما الجديد تحت اسم «القاعدة» على امل استقطاب جيل آخر من المجاهدين. وذكر يومها ان اسم «القاعدة» مستوحى من ارشادات عبدالله عزام، الفلسطيني الذي كان له الفضل الاكبر في توجيه اسامة بن لادن وإقناعه بأهمية الجهاد ضد السوفيات الكفار في افغانستان. وعندما قتل عزام في بيشاور بواسطة سيارة مفخخة، رثاه تلميذه بحرقة ووعد بحمل رسالته مدى العمر. وكان دائماً يعترف بتأثير تعاليمه في توجهه السياسي، وفي بلورة أفكاره من خلال أحاديثهما عن أمجاد العرب وفتوحات الإسلام. وهكذا ولدت فكرة «القاعدة» كنتيجة طبيعية للإحساس بالنصر وإلحاق الهزيمة بثاني اعظم قوة على الارض، اي قوة الاتحاد السوفياتي. واعتبر بن لادن تلك الخطوة بمثابة بعث لتاريخ الإسلام السابق الذي نجح بفضل صلابة الايمان واندفاع المقاتلين، في دحر اعظم امبراطوريتين في ذلك الزمان، هما الامبراطورية الفارسية والامبراطورية البيزنطية. وبناء على تجارب التاريخ السابق، قرر اسامة بن لادن وأنصاره التصدي للقوة العظمى الاخرى – أي الولاياتالمتحدة – بعد الغلبة على الاتحاد السوفياتي. ولم تكن «القاعدة» سوى التنظيم العالمي الذي تتشكل منه الشبكات الناشطة والخلايا السرية في الدول العربية والإسلامية والآسيوية والأوروبية وكل مكان على الارض تقريباً. باشر اسامة بن لادن وأيمن الظواهري نشاطهما عبر «القاعدة» باستهداف الاميركيين في اي مكان. وقد اتخذا من وجود القوات الاميركية التي طردت صدام حسين من الكويت عام 1991، ذريعة لقتل أبناء العم سام، على اعتبار انها دنّست الاراضي المقدسة. واستندا في ممارسة العنف الدموي الى اجتهادات الدكتور سيد قطب الذي صدر بحقه حكم الإعدام عام 1966 مع شلة من أتباعه. والمعروف ان انصار هذا التيار تعرضوا للرئيس جمال عبدالناصر أثناء زيارته الاسكندرية عام 1954. ومع ان بعض المراقبين في حينه اتهم النظام الناصري بتدبير تلك العملية الفاشلة بهدف زيادة شعبية عبدالناصر مقابل شعبية محمد نجيب، إلا ان ذلك لم يمنع السلطة من التنكيل ب «الإخوان المسلمين» على نحو غير مسبوق. ومن ابرز الإنجازات الفكرية التي قدمها سيد قطب، كان كتابه «الفريضة الغائبة»، اي الكتاب الذي استحق عليه لقب «منظّر المسلمين». وفيه يضيف الى الفرائض الخمس التي يؤديها المسلم، فريضة سادسة هي الجهاد في سبيل الله. وتتلخص نظريته في الدعوة الى استخدام العنف والاغتيال والقوة المسلحة، وسائل شرعية لترويع المعارضين وإسقاط النظام القائم وبناء نظام جديد في مصر والبلدان الاسلامية يستوحي أحكامه من القرآن الكريم. وبما ان اسامة بن لادن كان شغوفاً بقراءة كتاب «الفريضة الغائبة»، فقد عكف على تصوير صفحاته وتوزيعه سراً على اصدقائه في جدة. كما اعتبر ان تطبيق نصوصه يحقق للمجتمع الاسلامي الدولة المثالية. وهكذا ولدت فكرة العنف الدموي من رحم كتاب سيد قطب. وكان من المنطقي ان تؤسس تلك الأفكار لبناء قناعات جديدة لدى عشرات الشبان المهمشين والطامحين الى استعادة الامجاد الغابرة. في كتاب «البروج المشيدة» الذي اصدره لورانس رايت عقب تنفيذ عملية تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك وضرب مبنى البنتاغون في واشنطن (11 أيلول (سبتمبر) 2001) سلسلة من الوقائع المذهلة التي جرى التحضير لها في مواقع مختلفة. وقد اختار المؤلف عنوان كتابه من آية في «سورة النساء» تقول: «اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة». والثابت من مراجعة تسجيل فيديو عثرت عليه السلطات الالمانية في شقة محمد عطا في مدينة هامبورغ، ان اسامة بن لادن ردد هذه الآية ثلاث مرات بهدف اقناع رمزي بن الشيبة وزياد الجراح ومروان الشحي ومحمد عطا، بأن عملهم سيكون تنفيداً لمشيئة إلهية. ومع ان الاربعة قضوا مع 15 آخرين من دون ان يعلموا بضحاياهم الثلاثة آلاف، إلا ان اندفاعهم الاعمى كان بتخطيط وتشجيع من اسامة بن لادن. عقب تدشين نشاطات «القاعدة» باستهداف سلسلة مواقع في نيويورك (1993) قرر الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة السعودية، الانتقال الى كابول للاجتماع بالملا محمد عمر وإقناعه بضرورة عودة اسامة بن لادن الى المملكة لأن الحرب في افغانستان قد انتهت. ورحب الملا عمر بالفكرة بعدما شكر السعودية على دورها الرائد في دعم المجاهدين. وقرر الاثنان انشاء لجنة تحقيق ومتابعة تتولى مراجعة المرحلة السابقة والاتفاق على تأسيس مرحلة جديدة تستفيد منها «طالبان». والثابت ان الملا عمر بدأ يتضايق من ممارسات «القاعدة» في الخارج، خصوصاً بعدما فرضت الاممالمتحدة على «طالبان» عقوبات شديدة بسبب إيوائها بن لادن. وكان ذلك عقب انفجار سيارتين مفخختين في نيروبي ودار السلام اسفرتا عن مقتل 224 شخصاً بينهم 12 اميركياً ومئات الجرحى. وقد اعترف الأمير تركي الفيصل اثناء الحوار التلفزيوني الذي اجراه معه الزميل جمال خاشقجي، بأن الزيارة الثانية كانت سيئة جداً. ذلك ان الملا عمر بدا متعاطفاً مع ضيفه بن لادن، ومؤيداً لكل العمليات التي قام بها ضد المصالح الاميركية وسواها من الدول. ثم انهى حديثه الجاف برفض كل تعاون يؤدي الى السماح بعودة اسامة بن لادن الى المملكة. وفي تفسير قدمه في حينه مراقب ديبلوماسي باكستاني رافق تلك المرحلة، اختصر دوافع التغيير الذي اظهره الملا عمر بسببين: الاول شخصي، على اعتبار ان بن لادن وعد عمر باغتيال منافسه على الرئاسة القائد الشمالي احمد شاه مسعود. وبالفعل نفذ وعده بإرسال انتحاريين قتلوه قبل يومين من تفجيرات برجي نيويورك كأنه بذلك يدفع رشوة لمضيفه وحاميه. السبب الثاني، كما اورده الديبلوماسي، يشير الى دور الاستخبارات الباكستانية في اقناع الملا عمر بأهمية استبقاء اسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأنصارهما في افغانستان. وتذكر ملفات المعتقلين في غوانتانامو ان بن لادن انسحب مع المقاتلين العرب من شمال كابول باتجاه الشرق بمساعدة قائد باكستاني يدعى محمد نور مولوي. واللافت ان هذا القائد قدم للمنسحبين خمسين جندياً تولوا عملية تسهيل ترحيلهم الى مغاور تورا بورا. وقد جرب الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف وقف الدعم العسكري الذي يقدمه جهاز الاستخبارات الباكستاني (اي اس أي) ل «طالبان» فلم يفلح، خصوصاً بعدما أطلعه نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني على صور التقطتها الاقمار الاصطناعية تظهر فيها مواقع التدريب لجماعة بن لادن غرب باكستان. بعد اعتراف الزوجة الاخيرة لبن لادن بأنها امضت في المجمع الذي قتل فيه، نحواً من خمس سنوات، وجدت الاستخبارات الباكستانية انها في ورطة حقيقية. وكان من الطبيعي ان تكبر هذه الورطة لأن جهاز الامن وفر الملاذ الآمن لزعيم «القاعدة» على مقربة من اكاديمية عسكرية بهدف إبعاد الشكوك. والنتيجة ان واشنطن ستوقف دعمها الاقتصادي ومخصصاتها المقدرة بعشرين بليون دولار، لدولة تبين انها تخفي اخطر رجل في العالم. السؤال المطروح بعد اغتيال اسامة بن لادن، يتعلق بمستقبل «القاعدة»، وما اذا كانت ستستمر من بعده كتنظيم مسلح يطارد اميركا وحلفاءها، ام انها ستنتهي بموت زعيمها؟ اكد زعيم «قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» اليمني ناصر الوحيشي، في رسالة بثها على شبكة «الانترنت»، ان قتل بن لادن لا يعني قتل منهجه ودعوته. وتوعد الاميركيين بأيام مظلمة يترحمون فيها على بن لادن، بينما قال سفير الولاياتالمتحدة في لندن لويس سوسمان، ان مهمة بلاده في افغانستان تهدف الى تدمير «القاعدة» وتفكيك بنيتها التحتية. وقد ظهرت هذه الاولوية في الاجتماع الطارئ الذي دعت اليه الحكومة البريطانية وحضره 120 سفيراً وسفيرة. ويتلخص الموضوع الطاغي على الاجتماع، في البحث عن كيفية مواجهة الأعمال الارهابية التي ستستأنف بعد موت اسامة بن لادن! * كاتب وصحافي لبناني