ليست بابّو لحّود سعادة مصمّمة عادية. بين مئات المصمّمين الذين تزدحم بهم ساحة الموضة في لبنان تبدو بابّو وكأنّها تغرّد خارج سربها. قلّما تقابل في زمن الإفلاس الفني والإبداعي والثقافي مصمّماً ينطلق من خلفيّة معيّنة أو من دراسة أو بحث، إنه يصمّم وحسب، يقيم عروضاً، يدعو بعض شخصيات المجتمع الراقي وسواه، ويبيع. لكنّ بابّو لحود كسرت هذه القاعدة الشاذّة أساساً، وأسبغت على تصاميمها فلسفة تنطلق من الحفاظ على الذاكرة اللبنانية عبر الأزياء التي تشكّل جزءاً من تراث الوطن وناسه. تبدو لحّود في دار أزيائها "ليدي" الواقع في حيّ سرسق أرقى أحياء الأشرفيّة، حقيقيّة في أناقتها الناعمة، وشخصيّتها المازجة بين الشفافية والحزم الذي يظهر في سلوكها وكلامها. عيناها بلونهما المحيّر ترصدان محدّثها وكأنهما تحاولان استباق الأسئلة. لا يمكن وضع بابّو في إطار معيّن في تصميم الأزياء: فهي اشتهرت بالزي التراثي وشاركت منذ عام 1963 بما يفوق ال12 مهرجاناً دولياً في جرش، بعلبكّ، الأرز وجبيل... الى مهرجانات عربية للأغنية في طهران، ليبيا، الأردن، بغداد، باريس، بلجيكا، لندن، أبو ظبي، وفي أعمال فولكلورية عدّة لشقيقها روميو لحود، وللرحابنة، ومخرجين كباراً منهم ريمون جبارة، شكيب خوري، نبيه أبو الحسن وسواهم. ومن التراث انتقلت الى تصميم فساتين الأعراس، ثمّ فساتين السهرة، الى البزّات الرسمية لعدد من المؤسسات منها لشركات الطيران الأردني، اللبناني، العراقي، السوداني، والسيراليوني، وبزّات للعائلة المالكة في سلطنة بروناي، وبزّات الأمن العام اللبناني، الى بزّات النساء في الجيش الأردني وسواها. الطريف أنه بعد هذه المسيرة الحافلة وحين تستعيد سيرة بابّو منذ البداية تفاجأ أنها لم تطمح لأن تكون مصمّمة للأزياء. ولدت أمل في عمشيت قضاء جبيل في عائلة يغلب عليها الطابع السياسي والأدبي، والدها روفايل لحود كان نائباً، ووالدتها فرانسواز الخوري تقرأ الأدب وتتذوق الشعر وتحب الرسم. سافر الوالد الى الأرجنتين وامتدّ غيابه من 3 أشهر الى 18 عاماً، وأصدر في بوينس أيريس مجلّتين بالعربية والإسبانبة، ثمّ عيّن وزيراً للأنباء في حكومة الجنرال بيرون وكان شبه منقطع عن عائلته: "لم ترافقه والدتي بسبب حملها بشقيقي روميو الذي ولد في غياب والدي، ولما طال سفره تخاصم مع والدتي ثم عاد بعدما أصرّت عليه شقيقتي ألين، وبعد مصالحتهما في أقلّ من سنة ولدت أنا وأسميت أمل". أما بابّو فكانت الكلمة الأولى التي لفظتها في طفولتها ورافقتها الى ان طغت على اسمها الحقيقي. تابعت بابّو دراستها الأولى عند راهبات الفرنسيسكان، هناك وضعها ولعها بالرسم خارج المدرسة لثلاثة أيام. "لم أكن أستوعب شيئا من المواد المدرسّية إلا وأنا أرسم، وقلّما تفهّم الأساتذة هذه العادة. وفي إحدى ساعات التعليم الديني، نهرتني الراهبة وأنا أرسم وجهها، عندها أكملت رسمها وألبستها المايوه! فطردت من المدرسة لثلاثة أيام، والطريف أن والدتي التي كانت تحبّ الرسم وقفت الى جانبي واتهمت الراهبات بمحاولة خنق موهبة الرّسم عندي". في سنّ ال15 نشرت بابّو في مجلّة "الحوادث" رسوم فساتين من تصميمها، وفي تلك الفترة اتفق شقيقها روميو مع لجنة مهرجانات بعلبك على تقديم أول عمل له "الشلال" مع المطربة صباح، "طلب مني أن أصمم أزياء العمل ولم تكن عندي أية فكرة عن الزي الفولكلوري أو زيّ المسرح والرقص، فساعدني كثيراً وكانت المرّة الأولى التي يشاهد فيها الجمهور على المسرح الأزياء المخملية المطرّزة، والطنطور". بعدها سافرت بابّو الى باريس حيث درست هندسة الديكور، ونالت الدبلوم من مدرسة "كومّوندو". والى جانب دراستها الهندسية راحت تتابع دروساً ليلية في تصميم الأزياء، وكانت ترسل تصاميم المسرحيات لأخيها بعد أن تقرأ السيناريو. وبعد عودتها الى بيروت افتتحت مكتباً للهندسة سرعان ما تحوّل الى مكتب لتصميم الأزياء بعدما كثرت طلبات المخرجين والمسرحيين عليها. ارتبط اسم بابّو بأزياء الفولكلور اللبناني بحكم بداياتها في مهرجانات بعلبك التي صممت أزياء 6 منها. لذا تراها اليوم تدقّ ناقوس الخطر على التراث اللبناني والأزياء اللبنانية الفولكلورية "التي يمكن نبش تاريخها من القرن الثامن عشر، وقليل من أواخر القرن السابع عشر لأنه قبل هذه الفترة لا وجود لمراجع عن الأزياء اللبنانية باستثناء بعض الرسوم التي وضعها مستشرقون" وتضيف: "لدينا داء اسمه التطوّر وهو لا يكتمل في نظرنا إلا بالتخلّي التام عمّا ورثناه عن أجدادنا". وتتذكّر: "أول ما قررت أن أخوض تصميم الأزياء الفولكلورية أخذني شقيقي لزيارة متحف قصر بيت الدين والتفرّج على الأمير بشير وعائلته والحاشية والعسكر التي تعود الى القرن ال19. وساعدتني كثيراً رسومات المستشرقين الأجانب من ألمان وإنكليز وفرنسيين، فهم خلّدوا في اعمالهم الناس والمناظر التي كانت اختفت الى الأبد لولاهم". وتأسف لحود للتراجع الكبير في المسرح الفولكلوري والتاريخي اللبناني "الذي لم يعد على الموضة"، وتنحو باللائمة على "مهرجانات بعلبك الدولية"، تقول: "عندما أسست السيدة زلفا شمعون هذه المهرجانات أرادت عبرها إحياء التراث اللبناني وتشجيع الفنانين اللبنانيين وحضّهم على ابتكار الجميل من تراثهم. لم يعد احد يفكّر في هذا الأمر وجلّ ما تهتمّ به اللجنة هو إحياء التراث العربي فقط مع استبعاد التراث اللبناني وكأنّه أمر معيب". وتشرح: "الأزياء التراثية مرتبطة بالمسرح التراثي، واذكر حين صممت شروالاً مطرّزاً للسيدات أنه لاقى نجاحاً ورواجاً لدى كثيرات ورحن يلبسنه الى السهرات ومن تلك النساء لميا فرنجية ابنة الرئيس اللبناني الراحل سليمان فرنجية وكذلك الكوفية النسائية التي لبستها أيضاً أثناء تصوير بعض حلقات "ستديو الفن". بعدما اكتشفت بابّو أن التراث محدود انتقلت مصادفة الى تصميم فساتين الأعراس بعدما أصرّت عليها إحدى السيدات الدكتورة ماري تيريز خير بدوي على أن تصمّم لها فستاناً مميزاً فكان لها ما أرادت عبر ثوب من قماش "الكريب جورجيت" المطرّز والمدقوق بالفضّة في بعلبك... بعدها انتقلت الى تصميم "الهوت كوتور". عام 1998 نظّمت بابّو معرضاً استعادياً لأعمالها من الفساتين التراثية ومنها ارتدتها السيدة فيروز والشحرورة صباح، الى الفساتين المعاصرة وعرضتها في واشنطنولندن وأبو ظبي حيت نالت جائزة تكريمية يقدّمها المغتربون لمبدع لبناني. وهي انتخبت هذه السنة "إمرأة العام" في تصميم الأزياء. تحمل بابّو لحّود سعادة عتباً على المرأة اللبنانية وهي بعكس النساء العربيّات الأخريات بعيدة من التراث، "لا يمكنني تحليل نفسيّة المرأة اللبنانية، لديها مرض التطوّر الى درجة أنها تنظر الى التراث كما الى شيء غريب. أنا لا أدعو الى ارتداء ازياء الماضي كما هي لكن لمسة منها تضفي جمالاً كبيراً على المرأة". ما من شيء معين تستوحيه بابو، شخصيّة المرأة تؤثر كثيراً على تصميمها، فضلا عن القماش، وتميل الى الصرعات البعيدة من الجرأة الوقحة أو "الاسفاف" كما تسمّيها، تفضلّ أن يحمل الفستان فكرة واحدة فقط. فساتين سهراتها تخضع ل"قوانينها" الخاصة وفيها شيء من الفانتازيا. تفضل القماش الشفاف وتحب الأسود والأبيض والفيروزي. وسط زحمة المصممين في لبنان اين تحدّد بابو لحود سعادة موقعها؟ تجيب: "ارى نفسي متفرّجة. هناك مصممون موهوبون لكنهم غير معروفين ربما لأنهم لا يحسنون الدعاية لأنفسهم في شكل كاف، وثمة آخرون يصرفون على الدعاية ولديهم إمكانات مادية وعلاقات، لكن لا ابتكار لديهم". وتلخّص المشكلة الأكثر انتشاراً لدى مصممي اليوم بتقليد الناجح، "على المصمم أن يتقن الخياطة قبل كلّ شيء وأن يتمتّع بالموهبة، فالتصميم هو فنّ تماماً كالرسم والنحت وهندسة الديكور، والأهم أن يعثر المصمّم على هويّته الخاصّة". ولدى سؤالها عن المصمّم اللبناني الذي يجمع هذه المواصفات وتعتبره الأنجح تجيب: "إنّه إيلي صعب الذي نجح وحده في إيجاد هويّة خاصّة به، ثمّ راح الباقون يقلّدونه، المطلوب من كلّ مصمّم ان يجد هويّته الخاصة لا أن ينجح في هويّة سواه". بابّو، المصمّمة المثقّفة المنطلقة من العلم والبحث والتراث الأصيل فضّلت يوماً التخلّي عن انطلاقتها العالمية لتؤسس اسرتها، فارتبطت بالبروفسور بشير سعادة، وهي اليوم أمّ ليارا وبشير، وتنكبّ على العمل في تصميم الأزياء في نطاق لبنان والبلاد العربية ، مراقبة بمرارة الفوضى العارمة السائدة حولها لا سيما في مجال تصميم الأزياء.