منذ أحد عشر يوماً ابتدأت أمس وتستمر حتى 8 أيلول/ سبتمبر المقبل حوّلت السينما جزيرة الليدو، في مدينة البندقية، من مجرد شريط من الأرض الممتدة بجوار بحيرة "لاغونا" الى خيمة عرس كبيرة. إذ هنا تقام الدورة الثامنة والخمسون ل"مهرجان البندقية السينمائي الدولي". قد يصعب على زائر المهرجان وهو في أوج انعقاده أن يدرك معنى هذه التظاهرة بالنسبة الى المكان الذي تقام فيه. وحيث ينطلق المهرجان بدورته الأولى في الألفية الثالثة، في ظل أجواء تتجدد فيها السينما الايطالية وتتمكن السينما الأوروبية وسينما البلدان القصية من العودة الى امتلاك ناصية الإبداع وهل فقدوها يوما؟! وتواجه فقر الأفكار والدوران على النفس القادم من هوليوود، فها هي "الدهشة والمفاجأة" كما يقول الناقد السينمائي لجريدة "إل سولي 24 أوري" الاقتصادية الرصينة الايطالية "لا دهشة أو مفاجأة تأتي من هناك. وإذا كان لنا أن نترقب شيئاً فليس لنا إلا أن نترقبه من المصري شاهين أو من الياباني سوزوكي أو من البرتغالي مانويل دي أوليفيرا"، وهم الفرسان الثلاثة الذين خصص لهم مدير المهرجان البيرتو باربيرا تحية خاصة. هؤلاء، وغيرهم من خارج هوليوود هم المنتظرون على كوكب السينما. وعلى رغم الصخب الاعلامي الذي كان سيثيره بحضوره الى الليدو ستيفن سبيلبرغ، فإن الكثير ممن شاهدوا فيلمه الأخير "الذكاء الاصطناعي" - الذي أنجزه على أساس سيناريو كان الراحل ستانلي كوبريك كتبه ولم يتمكن من إنجازه لأن المنية خطفته قبل الأوان - صاروا يفكرون في أن كوبريك الصارم سيكون بالتأكيد في غاية الغضب لأن تركته صارت ألعوبة في يد من حوّلها الى مجرد مؤثرات خاصة. ذلك ما يقوله الناقد الذي شاهد الفيلم. وسنرى اذا كان على حق أم ان مبدع "امبراطورية الشمس" لا يزال مخرج هذا الفيلم العظيم، والكثير من الأفلام الصغيرة، باهظة الانتاج وذات المداخيل بملايين الدولارات. على أية حال فإن سبيلبيرغ لن يأتي الى الليدو لأنه منشغل في إتمام فيلمه الآخر الذي تأخر انجازه. مضاعفة ذهب الأسود جعبة مدير مهرجان فينيسيا السينمائي ألبيرتو باربيرا اغتنت هذه السنة بذهب اضافي، فبمضاعفة مسابقة المهرجان صار هناك أسدان ذهبيان للكبار وثالث للأعمال الأولى يحمل اسم لويجي دي لاورينتس سيكونان الهدف الذي سيتنافس نحو أربعين فيلماً لتحقيقه. ومهما تكن المواقف التي اتخذت من قرار باربيرا، بزيادة عدد الجوائز ومضاعفة المسابقة، في هذه الدورة، ومهما تكن درجات الاتفاق أو الاختلاف معه، فإن الحجارة التي رماها مدير المهرجان في البركة حرّكت المياه التي كادت تركد بسبب الاعتياد على شكل ثابت لمهرجان يسعى أن يمنح الإبداع السينمائي مساحته الأرحب وألاّ يضحي بذلك لمصلحة الاستعراضية و"فيترينة" النجوم الذين يشكل وجودهم نسغاً وفيراً للثرثرة والفضائح، ويقتنص المساحة الأوسع التي يستحقها الإبداع السينمائي. تلك الثرثرة التي تأتي في غالب الأحيان بآثار سلبية على النجوم أنفسهم، كما يقول باربيرا: "أنا لا أنظم المهرجان حتى تنكب الصحافة لأسبوعين في الحديث عن خلافات نيكول كيدمان وطلاقها من توم كروز، بقدر ما أطمح الى تنظيم مهرجان يكون فيه الحديث عن نيكول كيدمان الممثلة الرائعة ذات المواهب المتعددة والقادرة على شحذ اهتمام النقد السينمائي والتي تحث الخطى عن جدارة لاحتلال ذلك الموقع الذي كانت تحتله غريس كيللي في العقود الماضية". لكن لا تبدو المبادئ التي استند إليها باربيرا لتشكيل برنامجي المسابقتين واضحة المعالم، إذ ان في الامكان نقل فيلم من المسابقة الرسمية الى المسابقة الأخرى وبالعكس. ويؤكد هو نفسه هذا الانطباع بالقول: "لا وجود بالفعل لاختلافات جوهرية بين البرنامجين. فالتقسيم ليس إلا نتاجاً للمساومة بين متطلبات متباينة والبحث عن توازن ما في ما بينهما. الهاجس الأساس الذي حدد مصير الأفلام في هذا البرنامج أو ذاك هو خيط رفيع واهٍ وقابل للنقاش والسجال. بذلت جهدي لأحافظ على طابع المهرجان باعتباره واجهة إبداعية للفن السينمائي من ناحية ومن الناحية الأخرى البحث في مجاهل الإبداع السينمائي لاكتشاف الطاقات الجديدة. وفي امكان مهرجان البندقية أن يفخر بأنه كان على الدوام بمثابة عصا الزانة للكثير من السينمات والمبدعين، ويكفي أن أشير في هذا الصدد الى ما حققه مهرجان البندقية من انفتاح في الخمسينات على السينما اليابانية وحمل الى المسرح العالمي في الثمانينات السينما الصينية ومبدعيها الكبار". وفيما تتمكن أصوات السينما في تلك المجاهل القصيّة من الوصول إلى ليدو البندقية يصر الغرب على الغياب المزمن بسبب قلة الإنتاج وتناسي أهمية هذا المهرجان، ويحاول مدير المهرجان التخفيف من هول هذا الغياب "صدّقني كنت اطمح في الحصول على فيلم، أو حتى أكثر من فيلم عربي، وسعيت الى ذلك، لكنني وللسنة الثانية على التوالي لم أتمكن من الحصول على شيء جدير بالعرض، في سنتي الأولى قبل سنتين كان هناك فيلم "متحضرات" للمخرجة اللبنانية رندة الشهال الصبّاغ، وفي العام الماضي تمكنّا من تجاوز الغياب المطلق للسينما العربية بفيلم من إنتاج فرنسي، لكن مخرجه تونسي الأصل وعدداً من أبطاله أصولهم عربية، وتمكن هذا الفيلم "غلطة فولتير" لعبداللطيف قشّيش من الفوز بالأسد الذهبي للعمل الأول". ويضيف: "على أية حال، على رغم غياب الفيلم العربي في المسابقتين فإنني أحتفي بالسينما العربية بشكل كبير وذلك من خلال الاحتفال بمعلم سينما كبير هو يوسف شاهين، الذي أعتبره ليس مجرد معلم في تاريخ السينما العربية بل أحد المبدعين الذين احتلوا مكاناً خاصاً بهم في خريطة السينما العالمية، وسيكون الاحتفاء به إلى جانب اثنين من معلمي السينما العالمية وهما البرتغالي مانويل دي أوليفيرا والياباني سيجون سوزوكي، وسنعرض فيلمه الأخير الجميل "سكوت ح نصوَّر" من بطولة لطيفة التونسية وأحمد بدير وأحمد وفيق". وفيما يصف باربيرا فيلم شاهين بكونه "شهادة عصر ووصية موسيقية"، فإن المخرج التونسي محمود بن محمود الذي سيشارك في المهرجان بفيلم "مئة صوت وصوت - موسيقى الإسلام"، يقول: "زرت شاهين في باريس. أعتقد أن هذا الفيلم كلّفه عناءً كبيراً. فقد أنهاه وهو تحت الرقابة والعناية المتواصلة لثلاثة أطباء، وفي ما بعد اضطر هؤلاء إلى إدخاله المستشفى في باريس على عجل بسبب تعرضه إلى متاعب في القلب". فيلم محمود بن محمود الذي سيعرض في المهرجان ضمن برنامج "أراضٍ جديدة"، ويقول عنه بن محمود: "إنه فيلم عن واقع الصوفية وطقوسهم في العالم الإسلامي. إذ صوّرت في الهند وتركيا والقاهرة والسنغال". ويضيف: "إن الفيلم عبارة عن قصة والدي الذي كان ضمن حلقة الذكر الشاذلية في تونس". اختار بن محمود لفيلمه فرق القوّالين في الهند وباكستان واعتمد كثيراً على احتفالية المولد النبوي الشريف في القاهرة. موريتي رئيساً للجنة التحكيم منهاج المهرجان يتضمن 142 فيلماً، 78 منها أفلام طويلة و52 قصيرة، ويترأس لجنة التحكيم الدولية المخرج الإيطالي الكبير نانّي موريتّي الفائز بسعفة مهرجان كان السابق عن فيلمه "غرفة الابن" والمرشح الإيطالي لجوائز الأوسكار المقبلة. كأي مهرجان يحاول اقتناص أكبر مساحة في الإعلام سيعرض المهرجان فيلماً يعتبره النقد السينمائي والصحافة "فضيحة حقيقية" وهو فيلمBully الذي أنجزه منتجو فيلم American Psyco وأخرجه الأميركي لاري كلارك الذي سبق وأنجز في عام 1995 الفيلم العنيف Kids. ويروي الفيلم قصة شابين بوبي ومارتي يعيشان على هامش المجتمع يتناولان المخدرات ويرتادان ملاهي الشذوذ الجنسي ويبيعان أشرطة الفيديو الفاضحة. أي بتحصيل الحاصل هما تركيز مكثّف لكل الخراب الاجتماعي الذي تعانيه المدن الكبرى في الغرب. بوبي سادي عنيف يهيمن على مارتي ويحرّكه كما لو كان دمية بين يديه وعندما يلتقيان بشابين آخرين يعيشان في ظروفهما نفسها ويغرقان في سلسلة من الجرائم والكثير من عمليات الاغتصاب. غير أن فيلم Bully لن يكون الفيلم الوحيد الذي سيتناول حياة المراهقين والشباب ومشكلاتهم ضمن مسابقة مهرجان البندقية السينمائي، فمن الأفلام المعروضة في هذا البرنامج الشريط الأخير الذي أنجزه المخرج اليساري الفرنسي فيليب غارّيل بعنوان "البراءة العنيفة"، ويروي قصة الفتاة لوسي التي تعشق مخرجاً مشغولاً بإنجاز فيلم ضد تهريب المخدرات بتمويل من عصابات التهريب نفسها. ومن بين ممثلي فيلم فيليب غارّيل نقرأ اسم ممثل فرنسي عربي الأصل هو مدني بلحاج كليم. ومن البرازيل سيعرض المهرجان فيلماً أنجزه والتر سالّيس بعنوان "ما وراء الشمس" ويروي قصة شاب ينتقم لمقتل شقيقه. وإذا كان ممثلا فيلم "أمك أيضاً" للمكسيكي آلفونسو كوارون في مقتبل العمر، فإن الشخصية الأساسية لفيلم "من أنت"، ماريا نورونها، للبرتغالي جواو بوتيلهو، لم تتجاوز ال13 سنة. جائزة الأسد الذهبي للحياة الفنية في الدورة ال58 ستمنح يوم السابع من ايلول إلى المخرج الفرنسي إيريك رومير. ورومير الذي سبق وفاز فيلمه الشعاع الأخضر في الثمانيات بجائزة الأسد الذهبي للمهرجان، معروف عنه أنه لا يحب الظهور ويفضّل الابتعاد من المظاهر الاحتفالية إلى الدرجة التي لم يحضر فيها لتسلم جائزته عن "الشعاع الأخضر" وأوكل الى بطلة الفيلم تسلّمها. إلاّ أن إدارة المهرجان تؤكد انه سيكون حاضراً في الحفلة الخاصة التي ستقام لتسليمه الجائزة وعرض فيلمه "الانكليزية والدوق" الذي سيعرض خارج المسابقة. "الأسد الذهبي للحياة الفنية والممنوح لإيريك رومير هذه السنة"، كما يقول مدير المهرجان، "يسعى إلى تأكيد أهمية مبدع تمكن من البقاء أميناً لما يؤمن به وانتظر اللحظة التي تمكن فيها الجمهور من استيعاب خصوصيته". سيكون هذا الدرس جلياً يوم السابع من ايلول بعد حفلة تسليم رومير جائزة الأسد الذهبي للحياة الفنية وعرض فيلمه الأخير الذي أنجزه بأكمله بالتقنيات الرقمية.