تتألف مقدمة عبدالرحمن بن خلدون من ابواب ستة. هناك الباب الثاني علم العمران وما بعده. وهناك مقدمات صغيرة احتلت الباب الاول وهي تشرح الاصول النظرية لعلمه الجديد وتعتمد على قواعد ثابتة ومتحولة وتتألف من مداخل يصل منها الى فصل بعنوان "تفسير حقيقة النبوة" ويعتبر الفصل المذكور اخطر وأهم ما كتبه ابن خلدون في شرح نظرية النشوء والارتقاء واتصال العوالم الثلاثة ببعضها. وهي النظرية ما تزال محط خلاف وأحياناً تجاهل بسبب لجوء ابن خلدون الى اسلوب التكثيف والتركيز والاختصار خوفاً من الانزلاق في عصر كان لا يتقبل مجرد البحث في تلك المواضيع. اعتمد ابن خلدون في مقدمته على مداخل ثلاثة لعلم العمران وهي: الاجتماع، الجغرافيا، والدين. بعد ان ينتهي من وضع ترتيبه للاجتماع البشري يقسم العمران الى قسمين منه "ما يكون بدوياً" ومنه "ما يكون حضرياً". ويرى العمران البدوي سابقاً على الجميع، والمُلك سابقاً على نشوء البلدان والامصار، والمعاش مقدماً على غيره لأنه ضروري وطبيعي، اما تعلّم العِلم "كمالي وحاجي". ولأن الطبيعي عند ابن خلدون اقدم من الكمالي وضع الصنائع مع الكسب "لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران" ص43. وفي نظر الباحث الالماني فون فيسندنك قرأ ابن خلدون التاريخ وفق مجرى زمني اذ "كل شيء يتبع مجراه الابدي، فمن البداوة والتجول الترحال تتحول الجماعات الى الثبوت الاستقرار، ثم تأتي الحضارة والرفاهية ويعقبهما الانحلال" ابن خلدون، ترجمة محمد عبدالله عنان، ملحق لكتاب طه حسين، صفحة 180-181. يكتفي ابن خلدون بهذا القدر من الاختصار في شرح مقدمة "الاجتماع البشري" في الباب الاول، لأنه سيعود اليها في الباب الثاني وما بعده، وينتقل مباشرة الى مقدمة الجغرافيا ويشرحها بتفصيل واسع في الباب الاول لأنه لن يراجعها في الابواب اللاحقة، بينما قام بايجاز موقفه من الدين في المقدمة لأنه سيعود الى المسألة كلما تطلب الامر ذلك. لا يشرح ابن خلدون كثيراً المقدمة السادسة الدين في الباب الأول كما فعل في نظرية الجغرافيا التي افرد لها، اربع مقدمات من أصل ست. والسبب انه يعتبر الدين الشريعة من الثوابت الانسانية، كالاجتماع البشري، في منهجية تفكيره وتحليله للعمران والعصبية. لذلك يختصر أفكاره في الباب الأول لأنه سيعود ويفصّل رأيه في دور الدين وتأثيره على الدولة وعلاقته بالعصبية في فصول الباب الثاني وما بعده. فهو شدد على نوعين من الاختلاف: اختلاف العمران واختلاف البشر. ويضيف في مقدمته السادسة الدين اختلاف الأفراد. فالله سبحانه "اصطفى من البشر اشخاصاً فضلهم بخطابه، وفطرهم على معرفته"ص99. ومن علامات الأنبياء الكثيرة واحدة هي "ان يكونوا ذوي حسب في قومهم ... ومعناه ان تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم مراد الله من اكمال دينه وملته"ص101. فابن خلدون يربط النبوة بالعصبية ومهمة التبليغ بالشوكة إذ لا بد، الى جانب الاصطفاء، من قوة بشرية اجتماعية تحمي المكلف من أذى الكفار حتى تصل الرسالة مسيّجة ومحصنة بقوى قادرة على حملها والدفاع عنها. ويتحدث في سياق شرحه لخلافات المسلمين في خطابهم على علامات إثبات النبوة فيذكر الفارق بين المتكلمين والمعتزلة في فهم الأفعال. المتكلمون يقولون عن الفاعل المختار "انها واقعة بقدرة الله". والمعتزلة يقولون انها صادرة عن الأنبياء "الا ان المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم" لأن المعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي. "لذلك كان التحدي جزءاً منها" أي صفة نفسها وهو واحدص101. ويقرأ اختلاف آراء المتكلمة والمعتزلة في مسائل الخوارق والكرامة. واختلاف آراء الأشعرية عن الحكماء والمعتزلة والمتصوفة في التصديق والهداية والتحديص102. وبرأي ابن خلدون ان القرآن الكريم هو المعجز لأنه "هو بنفسه الوحي المُدعى وهو الخارق المعجز ... فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه"ص102 و103. فابن خلدون قرآني المنهج وتاريخه يستند الى الكتاب كمصدر رئيسي لشرح حقائق التاريخ وشخصية العالم وتفسيرها. فالعالم برأيه منظم على "هيئة من الترتيب والأحكام". وحوادثه مترابطة ارتبطت فيها "الأسباب بالمسببات" والكون متصل من حيث "اتصال الأكوان بالأكوان". والتطور دائم والموجودات متحولة نظراً لاستحالة "بعض الموجودات الى بعض". وليس هناك من غاية نهائية للعالم إذ "لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته"ص104. انطلاقاً من هذا المدخل العام الذي هو أشبه بالقانون في نظرية التطور يبدأ صاحب المقدمة في تقسيم العالم الى مراتب ودرجات فيقسمه الى عالم الحس وعالم التكوين وعالم الملائكة. ويبدأ بالعالم "المحسوس الجثماني" في قراءة مراتب التطور ودرجاته من المادي الى اللامادي ويكتب أهم ورقات المقدمة، فهو كتبها كمدخل نظري يكثف رأيه في مسائل النبوة وتفسيرها، الكهانة والمخيلة، الرؤيا ومطالعة النفس، الأحلام والأخبار بالمغيبات، والولاية والعبادة. وقبل أن يبدأ بتفسير الوحي وتحليل الكهانة والرؤيا والأخبار بالمغيبات وشرح مصدر الأحلام وتفسيرها يلجأ الى تصنيف البشر الى ثلاثة: الصنف الأول "عاجز بالطبع عن الوصول الى الادراك الروحاني". والثاني عاقل يتسع "نطاق ادراكه عن الأوليات التي هي نطاق الادراك الأول البشري، ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية". والثالث هو صنف مفطور "على الإنسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها الى الملائكة من الأفق الأعلى". وهؤلاء هم "الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، وهي حالة الوحي..."ص106107. بعد ان ينتهي من قراءة وتحليل مختلف وجهات نظر العلماء والمتكلمة والحكماء والفلاسفة والملاحدة حول الموضوع ينتقل مباشرة لتوضيح رأيه والرد على الكهانة. فنفس الكاهن مفطورة على النقص و"إدراكها في الجزئيات اكثر من الكليات"ص109. اما الرؤيا فهي "مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات"ص111. ويفسر الأحلام وأسبابها ولا تختلف شروحه المختصرة كثيراً عن تلك التي توصلت اليها نظريات تفسير الأحلام الحديثة. فابن خلدون يرتب "النفس الناطقة" ويوزع ادراكها على مستويين ظاهري وباطني. فالنوع الأول "ادراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس". والثاني "ادراك بالباطن" وهو "بالقوى الدماغية". ولأنه يرى ان "الذات المدركة واحدة" يفسر الحلم بأنه نتاج الحواس الظاهرة ورجوعها الى القوى الباطنة الدماغ. فالرؤيا قريبة من الحلم النوم وهي خواص للنفس الانسانية "موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم"ص113. وهنا يصل الى تفسير الأحلام بالقول "كل واحد من الاناسي رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة، وحصل له على القطع ان النفس مدركة للغيب في النوم، ولا بدّ"ص113. ويشير الى كتاب "الغاية" لمسلمة حول الاحلام الذي يفسر فيه حالومة سماها "حالومة الطباع التام" إذ عندما تحدث هذه الحالومات "تُحدِث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا". لكن "القُدْرَة على الاستعداد غير القُدْرَةِ على الشيء"ص114. ويسمي ابن خلدون الأمر بمفارقة اليقظة التي تصدر عن بعض الناس وتلتبس "بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوفُ إليه"ص117. فالاستعداد برأيه يساعد على التخيل وإذا قوي الاستعداد "كان أقرب الى حصول ما يستعدُّ له"ص114. ويقرأ كتب أهل الرياضيات ويصنفهم من أهل الكشف ومن المتصوفة لأن لهم "مدارك في الغيب" وأساسها ان النفس الانسانية ذات موجودة بالقوة و"تخرج من القوة الى الفعل بالبدن وأحواله ... وكل ما بالقوة فله مادة وصورة. وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الادراك والتعقل"ص115. وعلى أساس هذا التحليل يرد على كلام العرافين والكهانة والزجر و"إدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل ... وهذه الادراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر"ص117. ويهاجم المسعودي على ما أورده من كلام هؤلاء في "مروج الذهب" ويظهر "من كلام الرجل انه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف، فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله"ص117. وينتقل للحديث عن المتصوفة وما يشار الى مسألة الكرامة عندهم فيذكر ان رياضتهم "دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة" التي يلجأ الىها البعض لمعرفة المدرك الغيبي. ويميز بين رياضة الكهانة في الهند ورياضة المتصوفة فهم "يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد، ويزيدون في رياضتهم الى الجمع والجوع التغذية بالذكر، فيها تتم وجهتهم في هذه الرياضة". لكنه يحذر من الشطط والجنوح والتطرف لأنه يوقع في الشركص118. ويتحدث أيضاً عن ظاهرة المريدين والمهابيل والمجانين والمشعوذين ويصل الى مسألة مقامات الولاية ويورد كلام الفقهاء الذين يرون "ان الولاية لا تحصل الا بالعبادة" اي انها قد تحصل بالاكتساب والتمرين والتدريب الممارسة. ويعارضهم في الأمر لأن "فضل الله يؤتيه من يشاء"ص120. فابن خلدون يتمسك بأن النفس الانسانية ثابتة الوجود والعقل صفة خاصة للنفس والاستعداد شرط سابق والله يكلف من يشاء. ويدخل صاحب المقدمة في مساجلات ضد المنجمين والقائلين بالدلالات النجومية ويشرح وسائلهم ويناقش قراء الخط والرمل ويرد على مزاعمهم خصوصاً تلك الطوائف التي استندت في فنون التنجيم على كتاب ارسطو و"هذه كلها مدارك للغيب غير مستندة الى برهان ولا تحقيق"ص124. فابن خلدون متمسك بنظرية التطور من عالم المحسوس الى عالم اللامحسوس، لذلك فإن الغيب عنده لا يعرفه الا الخواص "من البشر المفطورين على الرجوع من عالم الحس الى عالم الروح"ص122. فالفطرة سابقة على الاكتساب. والغيب "لا يدرك بأمر صناعي" ولا الظن "بمعرفة المجهول". وكل من يعتقد في ذلك فهو قاصر وعنده قصور في "فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات، والتفاوت بين المدارك والعقول" ومن "شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه ادراكه"ص126 و127. ويميز بين العلم والغيب ويرى انه بالامكان معرفة "الواقعات الحاصلة في الوجود او العلم" اما في الكائنات المستقبَلَة فإذا "لم تعلم أسباب وقوعها ولا يَثبُتْ لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته"ص128. تُظهر كل هذه المحاججات حرص ابن خلدون على كشف أوهام المشعوذين التي كثرت في عصره وتم نقلها من عصور سابقة وأراد منها تعرية جهاتهم وتحصين الدين من تلك الخرافات والتشويهات. فصاحب المقدمة يعتبر النبوة اصطفاء من الله سبحانه فهو فطر الأنبياء على معرفته وأعطاهم القدرة على الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة. و"الوحي في اللغة الاسراع" ويأتي في حالين: الأول الدوي والثاني التمثل. وأسلوبه تلقي كلام النفس ويحدث عنه "مفارقة الذات ذاتها"ص107108. ونظراً لأهمية الدين في نظرية التطور الخلدونية يفرد له الكثير من الكلام ويأتي على تأثيره في اكثر من فصل في أبواب المقدمة. وبرأيه ان الأمة اذا "أقبلت على الله اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقلّ الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة... والسبب في ذلك كما قدمناه ان الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة الى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه..."ص167. فهو على رغم تأكيده على ضرورة العصبية لقيام الدولة وحاجة النبوة الى شوكة لحمايتها الا انه يعود فيؤكد على دور الدين عند قيامه في تعزيز الدولة وزيادة قوتها بإضافة قوة الدين على قوة العصبية. فالدين يجمع العصبيات ويخفف من تناقضات رجال الدولة ويوحد تباين اغراضهم ويعزز من مناعة العصبية وقوتها ويعطي من قوته قوة للدولة. ويقدم أمثلة على ذلك كما وقع للعرب في الفتوحات وصدر الاسلام و"دولة الموحدين في المغرب" إذ "ان الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة... فلم يقف لهم شيء"ص168. فالاجتماع الديني هو قوة يصهر العصبيات ويقوي الاجتماع البشري ويزيد من لحمة الدولة ويقلص من تناقضاتها ويجمعها في وجهة واحدة وهدف مشترك. لذلك اعتبر الدين الاجتماع الديني من أسس نظرية التطور الى جانب الاجتماع البشري العمران والجغرافي البيئة والمناخ والغذاء والتكوين. * كاتب من أسرة "الحياة".