في الولاياتالمتحدة، قاعدة اسرائيل السياسية الرئيسية التي قدمت الىها منذ 1967 مساعدات تجاوزت 92 بليون دولار، ما لبثت ردود الفعل على الخسائر البشرية المريعة في التفجيرين في القدس وحيفا أن اتخذت القالب التفسيري المعهود: ياسر عرفات لم يقم بما يكفي للسيطرة على ارهابييه. الاسلاميون الانتحاريون في كل مكان، يدفعهم حقدهم الأعمى الى الانقضاض علينا وعلى حليفتنا الأقوى. على اسرائيل ان تدافع عن أمنها الخ. أما الأكثر "تعقلا" فقد يضيفون: منذ ألوف السنين وهؤلاء الناس يديمون حروبهم المملة التي يشنونها لأي سبب كان. يجب وقف العنف، فقد عانى الطرفان ما يكفي. لكن دفع الفلسطينيين باطفالهم الى المعركة يبيّن مقدار ما تتحمله اسرائيل. هكذا ترسل اسرائيل، التي نفد صبرها لكن تستمر في ضبط النفس، دباباتها وجراراتها لغزو جنين، المدينة التي بلا تحصين أو حماية، وتدمر هناك مباني الشرطة الفلسطينية وعدداً من المباني الأخرى، ثم تنشر دعاتها في كل مكان ليقولوا انها وجهت رسالة الى ياسر عرفات. خلال ذلك يستمر عرفات وبطانته في استجداء الحماية الأميركية، متناسياً أن اسرائيل هي التي تتمتع بتلك الحماية، وان كل ما سيتلقاه هذه المرة، مثل ستة الآف مرة قبلها، سيكون الأمر بوقف العنف. الواقع ان اسرائيل، الى حد كبير، هي المنتصرة في الحرب الدعائية في اميركا، وانها على وشك استثمار ملايين الدولارات الاضافية هناك في حملة علاقات عامة كبرى مستعملة نجوماً مثل زوبين مهتا واسحق بيرلمان وآموس أوز للمزيد من تحسين صورتها. لكن لننظر الى ما حققته اسرائيل بالفعل في حربها التي لا تعرف الرحمة على الفلسطينيين، الذين لا حامي لهم والمفتقرين جوهرياً الى السلاح والدولة والقيادة الكفؤة. ان التفاوت في ميزان القوى مأسوي في حجمه. فاسرائيل قوة نووية مجهزة اضافة الى ذلك وبالمجان بآخر ما في ترسانة اميركا من أسلحة، مثل الطائرات والمروحيات وعدد لا يحصى من الدبابات والصواريخ وقوة بحرية جبارة اضافة الى اجهزة استخبارات من احدث طراز. وهي تشن عدوانها على شعب يفتقر الى قوات مدرعة أو مدفعية أو سلاح جوي مطاره المسكين الوحيد يسيطر عليه الاسرائيليون أو بحري أو أرضي، كما يفتقر الى مؤسسات دولة حديثة. لكن التاريخ البشع للاحتلال الاسرائيلي المتواصل منذ 34 سنة ثاني أطول احتلال في العالم الحديث للأراضي الفلسطينية تلاشى من ذاكرة الرأي العام في كل مكان تقريباً، تماماً مثلما تلاشى من الذاكرة تدمير المجتمع الفلسطيني في 1948 وطرد نحو 68 في المئة من الشعب الفلسطيني، الذين لا يزال منهم الى اليوم 4.5 مليون لاجيء. مع ذلك نستطيع ان نرى بوضوح صارخ، بالرغم من سيول التمويه الاعلامي، بشاعة وسادية ممارسات اسرائيل اليومية عبر العقود بحق شعب لا ذنب له سوى وجوده في طريقها. وليس من مثيل في تاريخ العزل العنصري والكولونيالية لحصر اكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في قطاع غزةوالضفة الغربية وحشرهم كالسردين. اذ لم تستعمل جنوب افريقيا العنصرية طائرات "أف 16" لقصف مواطن السود مثلما تفعل اسرائيل ضد مدن وقرى الفلسطينيين. كما تسيطر اسرائيل على كل مداخل ومخارج الأراضي الفلسطينية غزة بكاملها محاطة بجدار من الأسلاك الشائكة، وتستحوذ على الموارد المائية كافة. وقسّمت الأرض المحتلة الى مناطق متناثرة من 65 كانتوناً كلها تحت الحصار العسكري، وزرعت فيما بينها 140 مستوطنة اُقيم الكثير منها أثناء حكم ايهود باراك تربطها ببعضها شبكة طرق محرمة على "غير اليهود" - التعبير المستعمل للعرب، الموصوفين أيضا ب"اللصوص" و"الصراصير" و"الثعابين" و"الجنادب". أما من الناحية المعيشية فقد وصلت نسبة البطالة تحت الاحتلال الاسرائيلي الى 60 في المئة ونسبة الفقر الى 50 في المئة دخل نصف سكان غزةوالضفة الغربية لا يزيد على دولارين في اليوم. وليس للفلسطينيين حرية التنقل في أراضيهم، وعليهم اذا أرادوا ذلك المرور بنقاط التفتيش الاسرائيلية الكثيرة حيث يتعرض المسنون والمرضى والطلبة ورجال الدين للاحتجاز ساعات طويلة ويعانون صنوف المهانة والاذلال. وجرف الاسرائيليون 150 ألف شجرة زيتون ودمروا الفي مسكن وخربوا الوف الهكتارات من الأراضي الزراعية. وقتل من الفلسطينيين منذ بداية انتفاضة الأقصى في أيلول سبتمبر الماضي 609، أي أربعة أضعاف قتلى الاسرائيليين، وجرح 15 ألف فلسطيني، أي عشرة أضعاف جرحى الطرف المقابل. وتقتل فرق الاغتيال الاسرائيلية من تشاء ممن تسميهم "الارهابيين"، دون أي اهتمام بسقوط العديد من الضحايا الأبرياء في العمليات نفسها. من ذلك الهجوم بالصواريخ والمروحيات على نابلس الأسبوع الماضي الذي أدى الى مقتل 14 شخصاً، وذلك بحجة "منعهم" من القيام بعمليات ضد اسرائيل. وأدى الهجوم نفسه الى قتل طفلين وخمسة غيرهم من المدنيين، ناهيك عن الكثير من الجرحى والمباني المدمرة وغير ذلك من "الخسائر الجانبية" كما يسمونها التي تبدو مقبولة للجميع. هكذا يومياً يحصد الطغيان الاسرائيلي ضحاياه من الفلسطينيين الذين لا تكاد ان تذكرهم نشرات الأخبار الأميركية - وبالرغم من ذلك يستمر عرفات وجماعته، لأسباب لا أفهمها، في الأمل بتدخل الأميركيين لانقاذ نظامه المتداعي. لكن هذا ليس كل شيء. فخطة اسرائيل تتجاوز الاستمرار في السيطرة على الأرض وملئها بالمستوطنين القتلة المتمتعين بحماية الجيش الاسرائيلي، الذين يخربون بساتين الفلسطينيين ويروعون أطفالهم ويدمرون مساكنهم. وتهدف الخطة كما وصفتها الباحثة الأميركية ساره روي الى ارجاع المجتمع الفلسطيني الى حضيض التأخر لجعل الحياة مستحيلة علىهم لكي يغادروا أو يستسلموا أو يندفعوا الى اعمال مجنونة مثل تفجير انفسهم. وواصلت سلطة الاحتلال الاسرائيلية منذ 1967 سجن وطرد القياديين، فيما تقصدت من خلال المصادرات والتدمير افلاس المشاريع الزراعية والصناعية الصغيرة، وحرمت الطلبة من التعليم في أواسط الثمانينات أغلقت اسرائيل جامعات الضفة الغربية أربع سنوات. ولا يستطيع المزارع أو صاحب الاعمال الفلسطيني المتاجرة مباشرة مع أي بلد عربي، بل على ذلك ان يتم من خلال اسرائيل. كما تدفع الضرائب الى اسرائيل. ولم يكن تأثير اتفاق أوسلو في 1993 سوى اعادة صياغة الاحتلال، اذ لم تتسلم سلطة ياسر عرفات، الشبيهة بحكومة فيشي، والتي يبدو ان صلاحياتها لا تتجاوز ضبط الفلسطينيين أمنياً وفرض الضرائب عليهم لصالح اسرائيل، سوى 18 في المئة من الأرض. وبعد ثماني سنوات عقيمة من المفاوضات بقيادة فريق أميركي من مسؤولين سابقين في اللوبي الاسرائيلي مثل مارتن انديك ودنيس روس لا تزال السيطرة بيد اسرائيل، بعدما اعطي الاحتلال صيغة اكثر فاعلية، واكتسب تعبير "عملية السلام" هالة من القدسية تسمح بالمزيد من الانتهاكات والمزيد من المستوطنات، والمزيد من السجن والمزيد من المعاناة الفلسطينية، فيما بلغ عدد المستوطنين الذين زرعتهم اسرائيل في الأراضي المحتلة، من ضمنها في القدسالشرقية حيث يستمر "التهويد"، نحو 400 ألف نسمة، ولا مغالاة في وصفهم بأنهم من البلطجية والمجرمين. وشهدنا اخيراً احتلال "بيت الشرق" ونهب أرشيفاته الثمينة من ضمنها وثائق وخرائط ملكية الأراضي وغيرها من السجلات، في عملية تذكر بسرقة اسرائيل لأرشيفات منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت في 1982 . من المفيد ان نتذكر أن مجلس الأمن أدان اسرائيل بالاجماع بعد بضعة أسابيع على الزيارة الاستفزازية التي قام بها ارييل شارون الى الحرم الشريف في 28 أيلول سبتمبر بحراسة ألف جندي وعنصر أمني. وأشعلت الزيارة، كما كان لأي طفل ان يتنبأ، الانتفاضة الحالية على الكولونيالية، بدءاً بمقتل ثمانية من الفلسطينيين. ثم جاء شارون الى السلطة بغالبية كبيرة، وكان هدفه الرئيسي "اخضاع" الفلسطينيين أو تلقينهم درساً، أو التخلص منهم في شكل من الأشكال. ولشارون سجل في قتل العرب يعود الى ثلاثة عقود قبل مجزرة صبرا وشاتيلا التي أشرفت عليها قواته في بيروت في 1982، ويواجه الآن احتمال توجيه الاتهام عليها في محكمة بلجيكية. مع ذلك لا يزال عرفات راغباً في التفاوض معه أملاً بالوصول الى ترتيبات مريحة تمكّن من المحافظة على السلطة الفلسطينية - السلطة نفسها التي يقوم شارون حالياً بتدميرها التدريجي المنظم. لكن شارون ليس أحمق. فقواته تصعّد ضغوطها مع كل عملية مقاومة من الفلسطينيين، وتشدد الحصار اكثر وتستولي على المزيد من الأرض، وتقوم باختراقاتها المتزايدة الشدة والعمق لمدن فلسطينية مثل جنين ورام الله، لتصبح هذه وكأنها اعمال روتينية، وتمعن في قطع الامدادات، وتغتال القادة الفلسطينيين في وضح النهار، وتحيل الحياة الى جحيم لا يطاق، فيما يعيد تعريف خطوات حكومته ليقلب الحقائق على رأسها، مثل القول ان اسرائيل قدمت "تنازلات سخية"، وانها "تدافع" عن نفسها وتحاول "منع"الارهاب، وانها "تؤمن" المناطق و"تستعيد" السيطرة الخ. أثناء ذلك يستمر مع اعوانه في مهاجمة عرفات ونزع صفة الانسانية عنه، وحتى القول انه "الارهابي الاعظم" رغم انه فعلياً لا يستطيع التحرك من دون اذن منهم، وانهم ليسوا في حال حرب مع الشعب الفلسطيني. يا لها من نعمة لذلك الشعب! لكن اذا كان هذا هو الحال، واذا كانت اسرائيل تمارس كل هذا المقدار من "ضبط النفس"، ما هي ضرورة هذه الهجمة المصممة بعناية لارهاب الفلسطينيين في شكل أكثر سادية مما سبق؟ اسرائيل تعرف ان بامكانها استعادة مكاتبهم متى شاءت كما حصل عندما سرقت بيت الشرق وتسعة مبانٍ ومكاتب ومكتبات وأرشيفات اخرى هناك وفي أبو ديس، تماما مثلما تكاد ان تقضي تماماً على الفلسطينيين كشعب. هذه هي الحقيقة وراء ادعاء اسرائيل انها "الضحية"، الادعاء الذي تلفقه وتنشره بعناية منذ شهور لتغطي نواياها الشريرة. انها بذلك تفصل اللغة عن الحقيقة. فالذي يستحق الشفقة هو ليس الحكومات العربية المتعثرة الفاشلة التي لا تستطيع أو تريد أن تعمل شيئاً لوقف اسرائيل بل الشعب الذي يتحمل الجراح في جسمه والاجسام الهزيلة لأطفاله الذين يعتقد بعضهم ان الشهادة هي سبيل الخلاص الوحيد بالنسبة اليه. وماذا بشأن اسرائيل، المنهمكة في حملة لا مستقبل لها، وهي تضرب بشكل اهوج وبلا رحمة؟ كما قال جيمس كوزنس الشاعر والناقد الارلندي في 1925 فان المستعمر "منهمك بانشغالات زائفة وانانية تحول دون ان يولي انتباهه للتطور الطبيعي لروحه الوطنية المميزة ذاتها وتجرّه عن درب الاستقامة الى المسالك الفرعية لفكر وخطاب وفعل مضلل، دفاعاً عن موقف خاطيء". كل المستعمرين تصرفوا بهذه الطريقة، دون ان يتعلموا شيئاً او يحدّهم شيء، حتى يرحلوا اخيراً عن الاراضي التي احتلوها، كما فعلت اسرائيل عندما فرّت من لبنان بعد احتلال دام 22 عاماً، مخلّفين وراءهم شعباً منهكاً ومشلولاً. اذا كان يُفترض ان يلبي هذا طموحات اليهود، لماذا اقتضى ذلك مثل هذا العدد الكبير من الضحايا الجدد من شعب آخر لم يكن مسؤولاً اطلاقاً عن نفي اليهود واضطهادهم في المقام الأول؟ لا أمل اطلاقاً مع وجود عرفات وشركائه في القيادة. ما الذي يفعله هذا الرجل، اذ يصل على نحو منفر الى الفاتيكان ولاغوس واماكن شتى اخرى، مطالباً بمراقبين متخيلين ومساعدات عربية ودعم دولي، بدلاً من ان يبقى مع شعبه ويحاول ان يساعده بمعدات طبية واجراءات لرفع المعنويات وقيادة حقيقية؟ يجب ان يرحل. ما نحتاج اليه هو قيادة موحدة من اشخاص موجودين على الارض، يشاركون فعلاً في المقاومة، ويقفون حقاً مع شعبهم، وليس اولئك البيروقراطيين السمان الذين يمضغون السيكار ويريدون الحفاظ على صفقاتهم التجارية وتجديد اجازات المرور الخاصة ب "الشخصيات المهمة جداً"، قيادة موحدة تتخذ مواقف وتخطط تحركات جماهيرية ليست مصممة للعودة الى اوسلو هل يمكن ان تتصوروا مدى حماقة هذه الفكرة؟ بل للمضي قدماً بالمقاومة والتحرير، بدلاً من تشويش الناس بالتحدث عن المفاوضات وخطة ميتشل الغبية. لقد انتهى عرفات: لماذا لا نعترف بانه عاجز عن القيادة او التخطيط او القيام بأي شيء ذي معنى لأحد سوى نفسه واعوانه من مؤيدي اوسلو الذين انتفعوا مادياً من بؤس شعبهم؟ انه العقبة الرئيسية بوجه مستقبل شعبنا. فكل استطلاعات الرأي تبيّن ان وجوده يعرقل اي تحرك ممكن الى امام. نحتاج الى قيادة موحدة كي تتخذ قرارات، لا أن تكتفي بالتذلل امام البابا وجورج دبليو بوش الأبله، حتى في الوقت الذي يقتل فيه الاسرائيليون شعبه البطل ويفلتون من العقاب. القائد يجب ان يقود المقاومة، ويعكس الحقائق على الارض، ويستجيب لحاجات شعبه، ويخطط، ويفكر، ويعرّض نفسه للمخاطر والصعوبات ذاتها التي يعانيها الجميع. فالكفاح من اجل التحرر من الاحتلال الاسرائيلي هو الموقع الذي يقف فيه الآن كل فلسطيني جدير بالاحترام. لا يمكن استعادة اوسلو او إعادة تغليفها كما قد يرغب عرفات وشركاؤه. لقد انتهى الأمر بالنسبة اليهم، وكلما اسرعوا بحزم امتعتهم ورحلوا، كان ذلك افضل للجميع. * استاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا.