"السجل العقاري" يبدأ تسجيل 90,804 قطع عقارية بمدينة الرياض والمدينة المنورة    تحت رعاية ولي العهد.. السعودية تستضيف غداً مؤتمر الاستثمار العالمي لعام 2024م في الرياض    "الصندوق العقاري": إيداع أكثر من مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر نوفمبر    «التعليم» تطلق برنامج «فرص» لتطوير إجراءات نقل المعلمين    "البرلمان العربي" يرحب بإصدار الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس وزراء كيان الاحتلال ووزير دفاعه السابق    جلسة تكشف الوجه الإنساني لعمليات فصل "التوائم الملتصقة"    أمر ملكي بتعيين 125 «مُلازم تحقيق» على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    " هيئة الإحصاء " ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 22.8% في سبتمبر من 2024    اقتصادي / الهيئة العامة للأمن الغذائي تسمح لشركات المطاحن المرخصة بتصدير الدقيق    الأرصاد: أمطار غزيرة على عدد من المناطق    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    يلتهم خروفا في 30 دقيقة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    القِبلة    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    تأثير اللاعب الأجنبي    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    المدى السعودي بلا مدى    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طريق اسرائيل المسدود : هل اسرائيل اكثر أمناً الآن ؟
نشر في الحياة يوم 20 - 12 - 2001

"تضيق بنا الأرض، تحشرنا في الممر الأخير، فنخلع اعضاءنا كي نمر... الى اين نذهب بعد الحدود الأخيرة، أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة...". هكذا كتب محمود درويش اثر خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في أيلول سبتمبر 1982. وها نحن بعد 19 سنة نرى أن ما حصل للفلسطينيين في لبنان وقتها يتكرر الآن في فلسطين نفسها. لقد حشرت اسرائيل الفلسطينيين منذ بدء انتفاضة الأقصى في أيلول السنة الماضية في لا أقل من 220 غيتو صغيراً منفصلاً، واخضعتهم مراراً وتكراراً لحظر التجول، أحيانا لفترات تصل الى أسابيع، حيث لا يستطيع أحد التنقل من دون الوقوف ساعات طويلة أمام النقاط الأمنية الاسرائيلية وتحمل الاهانات المتقصدة من الجنود الاسرائيليين الأفظاظ. وهناك لحظة كتابتي هذه السطور مئتا فلسطيني لا يستطيعون الحصول على غسيل الكلى لأن الاسرائيليين، لأسباب أمنية، يمنعونهم من الذهاب الى المراكز الطبية. لكن هل كتب أحد من ألوف المراسلين الأجانب عن الوحشية التي وصل اليها المجندون الاسرائيليون، الذي يشكل تدريبهم على قمع المدنيين الفلسطينيين الجزء الأساسي من واجباتهم العسكرية؟ لا أعتقد ذلك.
ولم تسمح اسرائيل لياسر عرفات بمغادرة مكتبه في رام الله لحضور الاجتماع الطارئ لمنظمة المؤتمر الاسلامي في قطر في العاشر من الشهر الجاري، وقرأ واحد من مساعديه الكلمة التي كان سيلقيها في الاجتماع. وكانت طائرات اسرائيل وجرافاتها دمرت قبل ذلك بأسبوع مطار غزة وطائرتي الهليكوبتر القديمتين التابعتين لعرفات، من دون وجود جهة أو قوة تستطيع اعتراض أو وقف هذه العملية، التي لم تكن سوى واحدة من الغارات اليومية التي تشنها اسرائيل على الفلسطينيين. مطار غزة - المدخل المباشر الوحيد الى الأراضي الفلسطينية - هو المطار المدني الوحيد في العالم الذي دمر قصداً منذ الحرب العالمية الثانية. وقامت طائرات "أف 16" وهي من مكرمات أميركا لاسرائيل في شكل متواصل، في عمليات مشابهة لما حصل في غرنيكا اثناء الحرب الأهلية الاسبانية، بقصف مدن وقرى الفلسطينيين بالقنابل والرشاشات وقتلت الكثير من المدنيين وعناصر الأمن ودمرت الممتلكات وليس هناك جيش أو سلاح جوي أو بحري فلسطيني لحماية السكان. كما استعملت هليكوبترات "أباتشي" الهجومية هي بدورها من مكرمات أميركا صواريخها لاغتيال 77 شخصا من القيادات الفلسطينية بتهمة أعمال ارهابية مزعومة، منها ما يفترض انه حصل في الماضي والقسم الآخر منها على سبيل التوقع. وتتمتع مجموعة مجهولة الهوية من مسؤولي الاستخبارات الاسرائيلية بصلاحية تحديد ضحايا عمليات الاغتيال، بموافقة الحكومة في كل من الحالات كما نفترض، وأيضا بموافقة أميركية عامة. كما قصفت هذه الهليكوبترات مقرات السلطة الفلسطينية، الأمني منها والمدني. وفي ليل الخامس من الشهر الجاري اقتحم الجيش الاسرائيلي مقر المكتب الفلسطيني المركزي للاحصاء في رام الله واستولى على الكومبيوترات وغالبية الملفات والتقارير، ماحيا بذلك سجل الحياة العامة الفلسطينية بأسره تقريبا. وكان الجيش نفسه، في ظل القائد نفسه، دخل بيروت الغربية في 1982 واستولى على وثائق مركز الأبحاث الفلسطيني قبل تدمير المبنى. بعد ذلك بأيام قليلة جاءت مجزرتا صبرا وشاتيلا.
كانت هناك أواخر الشهر الماضي عشرة أيام من الهدوء النسبي انهاها ارييل شارون عمدا عندما أمر باغتيال محمود أبو هنود، وهو أحد قادة "حماس". وكان شارون واثقا أن ذلك سيعيد الهجمات الانتحارية - وهو ما حصل بالفعل - معطيا جيش اسرائيل الذريعة للعودة الى قتل الفلسطينيين. ويجد الفلسطينيون، بعد ثماني سنوات من المفاوضات العقيمة، أن نسبة البطالة وصلت الى خمسين في المئة، فيما يعيش 70 في المئة منهم تحت خط الفقر، اي على اقل من دولارين في اليوم. وتستمر يوميا دون رادع مصادرة الأراضي ونسف المساكن، وأيضا التركيز الاسرائيلي على تدمير الأشجار والبساتين. وعلى رغم أن نسبة قتلى الفلسطينيين تصل الى خمسة أضعاف الاسرائيليين فإن الجزار العجوز شارون يؤكد بوقاحة أن اسرائيل ضحية للارهاب نفسه الذي يمارسه بن لادن.
النقطة الجوهرية في كل هذا ان اسرائيل تواصل احتلالها اللاشرعي للأراضي منذ 1967، وهو الاحتلال الأطول في التاريخ، والوحيد من نوعه في عالم اليوم. هذا بالتأكيد هو العنف الأصلي والمستمر الذي تستهدفه كل اعمال العنف الفلسطينية. ومن بين الأمثلة على اغفال الكثيرين لهذه النقطة أن وفدا من الاتحاد الأوروبي طالب الفلسطينيين في العاشر من الشهر الجاري بوقف العنف - بالتزامن مع مقتل طفلين فلسطينيين، عمرهما 3 و13 سنة، في القصف الاسرائىلي للخليل. كما قتل في اليوم التالي خمسة فلسطينيين، كلهم من المدنيين، في قصف طائرات الهليكوبتر لمخيمات اللاجئين في غزة. وما يفاقم من الوضع ان تعبير "الارهاب" بعد هجمات 11 أيلول الماضي يستعمل لتشويه المقاومة المشروعة للاحتلال العسكري وطمس أي علاقة، سببية كانت ام مجرد سردية، بين قتل المدنيين وهو ما عارضته دوما وثلاثين عاما من الاحتلال والعقوبات الجماعية.
السؤال الواجب الى كل "خبير" غربي يندد ب"الارهاب" الفلسطيني هو: كيف يمكن تناسي واقع الاحتلال أن يؤدي الى وقف الارهاب؟ الخطأ الكبير الذي ارتكبه عرفات - نتيجة الاحباط وسوء المشورة - كان محاولة التوصل الى صفقة مع المحتل عندما فوّض نجلي اسرتين فلسطينيتين مرموقتين التحادث مع الموساد عن "السلام" في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم في كمبردج في 1992. ذلك ان المحادثات اقتصرت على أمن اسرائيل، من دون أي ذكر لأمن الفلسطينيين، ومع اغفال تام لكفاح شعبه من أجل اقامة دولة مستقلة. والواقع ان أمن اسرائيل وحده، من دون اعتبار لأي قضية اخرى، اصبح الأولوية المعترف بها دوليا، وهو ما سمح للجنرال زيني أو خافيير سولانا ب"وعظ" منظمة التحرير الفلسطينية مع صمت كامل في ما يخص الاحتلال. لكن فائدة اسرائيل من تلك المحادثات لم تزد في شكل يذكر على ما جاءت به للفلسطينيين. وكانت غلطة الاسرائيليين تصورهم امكان اخضاع الفلسطينيين عن طريق خداع عرفات وبطانته واجتذابهم الى محادثات لا نهاية لها، مع تنازلات ضئيلة هنا وهناك. ان نتيجة كل سياسة رسمية اسرائيلية كانت مفاقمة الوضع بالنسبة لاسرائيل. ويكفي للبرهان ان نسأل اذا كانت اسرائيل الآن آمنة ومقبولة اكثر مما كانت عليه قبل عشر سنوات.
لا بد بالطبع من ادانة الغارتين الانتحاريتين الرهيبتين والغبيتين كما أرى على المدنيين في حيفا والقدس في الأول من الشهر الجاري. لكن اذا كان للادانة من معنى، علينا وضع الغارتين في سياق اغتيال أبو هنود مبكرا من ذلك الأسبوع، اضافة الى مقتل خمسة أطفال فلسطينيين في غزة بلغم زرعه الاسرائيليون عمدا هناك، ناهيك عن المسلسل المستمر في تدمير المساكن وقتل الفلسطينيين في انحاء غزة والضفة الغربية واقتحام المدن والمخيمات بالدبابات وغير ذلك من المحاولات، على مدار اليوم والساعة طيلة 35 سنة، لمحق التطلعات الفلسطينية. ولا بد لهذا النوع من المحاولات اليائسة ان يؤدي الى نتائج سلبية، لعل أسوأها الضوء الأخضر الذي بدا ان جورج بوش وكولن باول اعطياه الى شارون عندما كان في واشنطن في الثاني من الشهر الجاري ما يذكرنا تماما بالضوء الأخضر الذي اعطاه الكسندر هيغ الى شارون في أيار مايو 1982. وترافق هذا الدعم مع التصريحات الرنانة المعتادة التي تحول شعبا يرزح تحت الاحتلال، بقائد ضعيف سيء الحظ، الى قوة عدوانية عالمية عليها ان تجلب "مجرميها" لمواجهة العدالة، في الوقت نفسه الذي كان جنود اسرائيل فيه يدمرون في شكل منظم البنية الأمنية الفلسطينية التي يفترض لها ان تقوم بتلك الاعتقالات.
عرفات الآن محاصر من كل جانب، والمفارقة ان ذلك نتيجة رغبته الجارفة في أن يكون كل شيء لجميع الآخرين، الأصدقاء منهم مثلما الأعداء. وهو من جهة بطل مأسوي ومن الثانية شخص متعثر. لكن ليس هناك اليوم فلسطيني يمكنه انكار قيادة عرفات لسبب بسيط هو انه زعيم فلسطيني، وبهذه الصفة، وعلى رغم ثرثرته واخطائه، فإن مجرد وجوده يثير غضب غلاة الصهاينة مثل شارون، وأيضا مسانديه الأميركيين. ان سلطة عرفات، عدا وزارتي الصحة والتعليم، فاشلة تماما. وينبع ما فيها من الفساد والوحشية من اسلوب عرفات الذي يبدو اعتباطيا لكنه مدروس بعناية في جعل الكل يعتمد على كرمه. فهو المسيطر الوحيد على الموازنة، وهو من يقرر عناوين الصفحات الأولى للصحف اليومية الفلسطينية الخمس. والأهم من كل ذلك انه يوجه الأجهزة الأمنية ال12 أو 14 تحت امرته هناك من يقول ان العدد الحقيقي 19 أو حتى 20 في شكل يضمن تضاربها مع بعضها بعضا. ويخضع كل من هذه الاجهزة المستقلة لرئيسه المباشر وفي الوقت نفسه لعرفات شخصيا، ولم يقم أي منها بخدمة تذكر للفلسطينيين عدا اعتقالهم كلما أراد عرفات أو اسرائيل أو الأميركيون ذلك. وكان المفترض للمجلس المنبثق عن انتخابات 1996 أن لا يستمر أكثر من ثلاث سنوات، لكن عرفات يماطل في اجراء انتخابات جديدة، خوفا مما ستكشفه من تراجع خطير في سلطته وشعبيته.
وكان هناك تفاهم بين عرفات وحماس، منذ التفجيرات التي قامت بها الأخيرة في حزيران يونيو، يقوم على وقف الهجمات على المدنيين الاسرائيليين مقابل السماح للأحزاب الاسلامية بالعمل في حرية. ونسف شارون الاتفاق عندما اغتال أبو هنود. ودفع ذلك حماس الى الرد، ما اعطى لشارون مبرر الاطباق على عرفات، بمباركة أميركية. وبعدما دمر الجيش الاسرائيلي أجهزة الأمن والسجون والمكاتب وحاصر عرفات في مقره وجه اليه شارون عددا المطالب، عارفا انه لا يستطيع التنفيذ المذهل انه، على رغم من قلة الوسائل المتاحة، تمكن من التجاوب جزئيا. ويعتقد شارون بغباء ان التخلص من عرفات سيمكنه من عقد سلسلة من الاتفاقات المنفصلة مع القيادات المحلية وتقسيم 40 في المئة من الضفة الغربية وغزة الى كانتونات صغيرة معزولة عن بعضها يسيطر الجيش الاسرائيلي على حدودها. ويجهل كثيرون كيف يفترض لهذا ان يوطد أمن اسرائيل، لكن المؤسف ان أصحاب القرار ليسوا من بين هؤلاء الكثيرين.
يترك هذا ثلاثة لاعبين أو ثلاث مجموعات من اللاعبين، اثنان منها لا قيمة لهما في حسابات شارون العنصرية. فهناك أولا الفلسطينيون أنفسهم، والكثير منهم على درجة من الصلابة والوعي السياسي تمنعهم من القبول بأي شيء يقل عن الانسحاب الاسرائيلي بلا شروط. ان سياسات اسرائيل، مثل السياسات العدوانية عموما، تؤدي الى عكس النتيجة المطلوبة، أي ان القمع يولد المقاومة. وينص القانون الفلسطيني في حال رحيل عرفات على أن يخلفه في المنصب مدة ستين يوما رئيس المجلس التشريعي "ابو العلاء"، شخص من بطانة عرفات بلا موهبة تذكر أو شعبية، سوى لدى الاسرائيليين المعجبين ب"مرونته". ولا بد ان تشهد المرحلة الانتقالية صراعا على خلافة عرفات يشارك فيه آخرون من حاشيته، مثل أبو مازن، اضافة الى اثنين أو ثلاثة من القادة الأمنيين المعروفين بالكفاءة مثل جبريل الرجوب في الضفة الغربية ومحمد دحلان في غزة. لكن ليس لأي من هؤلاء منزلة عرفات أو شيء من شعبيته التي ربما تلاشت الآن. النتيجة المتوقعة فترة من الفوضى، وعلينا ان نواجه حقيقة أن وجود عرفات كان دوما المحور الذي تنتظم حوله السياسة الفلسطينية، المهمة الى حد كبير الى العرب والمسلمين.
لقد تسامح عرفات دوما مع تعدد التنظيمات، بل ساند التعدد. وادار فيما بينها لعبة التوازنات لضمان عدم بروز أي منها على حساب تنظيمه فتح. لكن تبرز الآن تنظيمات اخرى علمانية على درجة عالية من النشاط والالتزام، كرست نفسها لاقامة نظام ديموقراطي في الدولة المستقلة المزمعة. وليس للسلطة سيطرة على هذه التنظيمات. ويجب القول ان ليس في فلسطين من يريد الانصياع لطلب اسرائيل واميركا وقف "الارهاب"، على رغم الصعوبة في التفريق لدى الرأي العام ما بين المغامراتية الانتحارية والمقاومة الفعلية للاحتلال، التي ستستمر طالما استمرت اسرائيل في قتل الفلسطينيين وقمعهم صغارا وكبارا.
المجموعة الثانية من اللاعبين تتكون من قادة العالم العربي الذين لهم مصلحة في بقاء عرفات، على رغم تضايقهم الواضح منه. انه أذكى وأشد مثابرة منهم، ويعرف ان له مكانة خاصة في ذهن شعوبهم، وله علاقات متميزة مع طرفين سياسيين رئيسيين: الطرف القومي العلماني من جهة والاسلامي من الجهة الثانية. ويشعر هذان بأنهما يتعرضان الى هجوم، على رغم أن الطرف الأول لا يحصل على اهتمام يذكر من قبل جحافل الخبراء والمستشرقين الذين يعتبرون بن لادن، وليس الكثيرين من العرب العلمانيين، المسلمين منهم وغير المسلمين، الذين يكرهون كل ما يمثله بن لادن،- الوجه الحقيقي للاسلام. ونجد في فلسطين مثلا ان الاستطلاعات الأخيرة كشفت عن تقارب في التأييد لعرفات وحماس ما بين 20 $ الى 25 $ لكل منهما، فيما لا تدعم الغالبية أيا منهما. مع ارتفاع شعبية عرفات أخيرا نتيجة الحصار الذي ضربته عليه اسرائيل. ويتكرر نفور الغالبية من الطرفين في بقية البلاد العربية، حيث يستنكر المواطنون في الوقت نفسه فساد السلطة الفلسطينية ووحشيتها، وأيضا تبسيطات المجموعات الدينية وتطرفها، التي يهتم اكثرها بالسيطرة على السلوك الشخصي أكثر منها بانتاج الكهرباء وتوفير العمل.
ومن المحتمل ان ينتقض العرب والمسلمون على حكوماتهم عندما يرون العنف الاسرائيلي يطبق بقبضته القاتلة على عرفات وسط لا مبالاة الحكام. ومن هنا ضرورته للمشهد السياسي الحالي. ولن تبدو مغادرته طبيعية الا عند بروز قيادة جماعية جديدة من الجيل الجديد من الفلسطينيين. انا واثق ان هذا التطور سيحصل، على رغم عدم امكاني التكهن بموعده.
المجموعة الثالثة من اللاعبين تشمل الأوروبيين والأميركيين وغيرهم. واعتقد، بصراحة، انهم لا يعرفون ما يعملون. انهم يتوقون الى التخلص من المشكلة الفلسطينية، ولا يضيرهم اقامة دولة فلسطينية، شرط تكفل طرف غيرهم بالمهمة. اضافة الى ذلك انهم يجدون صعوبة في التحرك في الشرق الأوسط من دون القاء اللوم على عرفات أو ادانته أو اهانته أو اغفاله أو تحريضه أو الضغط عليه أو... تمويله. ان مهمة الاتحاد الأوروبي والجنرال انتوني زيني تخلو من اي معنى، ولن يكون لها تأثير على شارون وجماعته. واستنتج ساسة اسرائيل، وهم محقون، ان الحكومات الغربية عموما تساندهم وان بامكانهم الاستمرار في العمل كما يحلو لهم مهما استمر عرفات وبطانته في استجداء العودة الى المفاوضات. في المقابل بدأت المجموعات التي تبرز ببطء في فلسطين والشتات في تعلم واستعمال التكتيكات التي تضع العبء الأخلاقي على الغرب واسرائيل، وتتعامل مع الحقوق الفلسطينية وليس مجرد وجود الفلسطينيين. ونجد في اسرائيل مثلا ان عضو الكنيست الجريء عزمي بشارة قد حرم من حصانته البرلمانية وسيقدم الى المحاكمة. السبب؟ تأييده الدائم لحق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، ودعواته الى ان تكون اسرائيل، مثل بقية دول العالم، دولة لكل مواطنيها وليس لليهود منهم فقط. انها المرة الأولى التي يوجه الفلسطينيون فيها تحديا رئيسيا فيما يخص حقوقهم داخل اسرائيل وليس في الضفة الغربية وذلك أمام انظار الجميع. وفي الوقت نفسه أكد المدعي العام البلجيكي استعداد محاكم بلاده النظر في تهم جرائم الحرب بحق شارون. وتستمر حاليا في شكل منتظم تعبئة الرأي العام العلماني الفلسطيني، الذي سيتوصل بالتدريج الى تأييد يتجاوز ما للسلطة الفلسطينية. كما ستتم قريبا استعادة موقع التفوق الاخلاقي من اسرائيل، عندما يعود التركيز على الاحتلال وتدرك اعداد متزايدة من الاسرائيليين استحالة الاستمرار الى ما لا نهاية في احتلال يستمر منذ 35 سنة. اضافة الى ذلك من المؤكد ان توسيع حرب أميركا على الارهاب سيقود الى المزيد من الاضطرابات، أي أن محاولات الاخماد ستزيد من تأجج الأوضاع، والى درجة قد تستعص على الاحتواء. المفارقة الجلية هي أن عودة الاهتمام بالوضع الفلسطيني نبعت من حاجة الولايات المتحدة والأوروبيين الى ادامة التحالف المعادي ل"طالبان".
* استاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.