الراوي لا محلّ له في "جبال الكحل" روايات الهلال، القاهرة - 2001 التي لا تُخلي محلاً سوى لشخوص بائدة تحكي سيرة مكانها البائد كأنها لترسّخه - من دون كبير امل - في السرد الذي تعبّر به عن بدد هو "الداهية التي حطت علينا". وعلي محمد مدرّس التاريخ في "عنيبة" من بلاد النوبة في الجنوب نفى حاجته الى كتابة المذكرات حين رأى زملاء له من الشمال يكتبونها تحت وطأة حاجة لأن يبثوا الأوراق اشواقهم، لكنه أدرك ان مصير النجوع التي شهدت مراتع الصبا واكتنزت ذخر الأجداد مآلُه الى بدد، فأدرك الحاجة القوية لأن يكتب بدوره هو الذي نذر حياته لقريته "الجنينة والشبّاك" وكل قرى الجنوب. كتب من العام 1954 حين بدأ الحديث عن عزم الثورة على بناء سد عال عند اسوان، وحتى العام 1964 عندما صعد والبقية من اهله الى صنادل نقل الماشية التي حملتهم صعوداً الى حيث قررت الثورة ان يكون مكان "النوبة الجديدة" في اخاديد الوديان الجبلية مخلّفين وراءهم أرض الأجداد التي سرعان ما سيغمرها ماء النيل المختزنة خلف السد لتدخل في سكينة العدم مستسلمة ل"أبدية الماء". وكثيراً ما يُخلي علي محمود المكان في أوراقه لخاله جعفر جنينة العجوز ذي الأعوام المئة والعشرين الذي عاصر "الداهية" منذ ايام "التعلية الأولى" للخزان عام 1912 و"التعلية الثانية" عام 1933، الى زمان "الثورة" وحديثها عن "السد"، ليتحدث عنها "ونظراته شاردة الى بعيد، مبحرة في الزمن كأنه يمتاح من ينبوع التراث المنحدر إليه من الأجداد القدامى". مستذكراً غابات النخيل والجميز وأشجار الدوم والسنط وفي خلفيّتها معبد رمسيس الثاني منحوتاً في الصخر تبين منه اجزاء وتختفي اجزاء خلف تلك الكثافة الخضراء. "مشهد لوحة" يختلط مع المشاهد التي ولّدتها التعلية الثانية حيث بدأ زحف الماء صعوداً ليغمر المكان محدِثاً ما يُشبه "يوم الطوفان"، وفي الأذن "صوت دوي الدُّور وهي تهوي متساقطة لتختفي في اللّجة الطامية التي تتصاعد مقتلعة السواقي والشواديف، تدفعها الدوّامات الصاخبة المولولة... وتختفي تحتها غابات النخيل الكثيفة وأكمات اشجار السنط على طول الشطآن لمسافات لا يحدها بصر...". ومحمد الماوردي الذي استلم الأوراق من ابن صديقه الراحل علي محمود، تركها في الظرف من دون جرأة على فضّه. لكنه، وبعدما اصبح من له في باطن الأرض اكثر ممّن له فوقها، يتعجّل نشرها قبل الرحيل. رسام فقد القدرة على الإمساك بالفرشاة ويساريّ اكتشف تمزّق التنظيمات اليسارية في عتمة السجن، "فالنظرية العلمية الواحدة لم تمنعهم من التمزق والتفرق شيعاً". رأى كل شيء من الداخل "عارياً ومجرداً" وعاد الى نفسه نافراً من كل قيد، ساكناً إليها في توحّد "كما تسكن قوقعة اللؤلؤ في محارتها في الأعماق الساكنة حيث لا تيارات ولا أمواج تفسد حالة الكمون والخلق". والماوردي في أوراق محمود ذريعة الروائي ذاته المولود في قرية "الجنينة والشباك" بالنوبة القديمة ليترك باب ضوء باهت بث عبره الأشجان التي هي اقرب ان تكون دفينة منها الى الانعتاق الأدبي المتواري هنا خلف شخوص الذاكرة المغمورة بالمياه. والمكان الذي هو اكثر الكائنات حضوراً في "جبال الكحل" يلوذ بصمت أزلي لا يعكّر صفوه إلا بعض التداعيات التي تثيرها الأفكار المتضاربة حين تستحضره شجناً غائراً في الجنان وأقرب الى الظلال الواهية منه الى صفحة التاريخ. ولا يبدو إلا عبر الهامش في قلب النص انه الضفاف الجنوبية للنيل المصري الخالد والتي انتصب على حوافّها وفي حضنها انصاب فرعونية لرمسيس الثاني والآهلة ايزيس والملكة نفرتاري ومعابد رومانية بطراز اغريقي، والتمعت على خدّيها الجغرافيين اسماء تعكس اثر الدهور مثل جزيرة فيلة ومعابد ابو سمبل و"امادا" و"كلابشة" و"قصر ابريم"... وهي، وإن استذكرها الخال جعفر في لحظات مستعيداً "ذلك المذاق النادر الذي لا شك استعذبه الأجداد، فقدّسوا المعبد والجزيرة مع الآهلة"، فإنها سرعان ما تعود الى عزلتها "وسط سكون الكون" على ترقّب عقيم لفنائها المحتوم تاركة المسرح على فسحة هائلة مديدة من "جدب قاهر وصخور قفراء" وتلال رمل وصحارى ونجوع متفرّقة اقام فيها "النوباد" اجداد النوبيين حياة على إيقاع فيضان النيل وانحساره "وسط قحل شامل"، وتشهد هذه الحياة الآن ما يدور فوقها من حركة هي "صحوة الموت" التي تسبق القضاء الذي لا يردّ. فقد نشرت بعوضة الجامبيا التي جلبها الانكليز ضمن معداتهم من عمق افريقيا وباء الملاريا "الذي عصف بالناس وحصدهم حصداً". وعلى رغم ذلك بقوا "مسالمين من دون قسوة في الطباع... وهدوء الأزل يسودُ الفلوات المحيطة كما يسود نفوسهم... لقد كانوا جزءاً من الطبيعة الساكنة"، التي كان يتمخّض حول تغيير شروطها الدهريّة خطبٌ عظيم. لقد ولّى زمنُ التعليات، ودقّت ساعة تنفيذ السدّ. جاء عبدالناصر في كانون الثاني يناير 1960. قال "إن النوبيين اهمِلوا قروناً وقد آن الأوان لأن يُنصفوا". وتلقّى مخ الخال "اللقاح كأرض تفتّح رحمها". وقع تحت تأثير جاذبية الزعيم ذي القامة الفارعة التي "لم تتضاءل كما تتضاءل سائر القامات عندما تقف امام عظمة رمسيس وشموخه في واجهة معبده" بل بدا رمسيس نفسه "من خلفه كأنه يدعمه ويؤازره ويمده قوة". التاريخ والمصير وما لبث "مخاض المصير" ان اعتصر القرى على امتداد النيل من الجانبين. دفقات من "الفلايك الراسية او المبحرة تقلّ بعثات تنقيب وفرق إنقاذ ومعدات وعلماء جيولوجيا وأجناس وآثار ولغة، وخبراء فنون شعبية وثقافة محلية، وكلهم منكبون على إنجاز "عملية تحنيط جديدة" كما يسجّل مدرّس التاريخ في أوراقه الحزينة". "كانت القرى في كامل زينتها" يقول، و"بكل عنفوانها وفتوّتها وحضورها النابض الكثيف تستعد للغياب في العدم". اسرارها مخفيّة، وخطّها احجية ما زالت غامضة، وقدرها ان "تُزفّ للنيل" الى الأبد. وتطلّ وزيرة الشؤون الاجتماعية في مؤتمر شعبي. خطب وهتافات وأناشيد ثورة وكلام بليغ ونماذج قرى جديدة، ولكن ايضاً، وفوق كل هذا امتعاض مربِك حين تقدّم عمُدُ القرى بمطالب ناسهم. وتمرّ حقب التاريخ في بال علي محمود حين تنازعه نفسه في ذلك الإذعان الذي تبدّى له الآن ممتداً من عهود قديمة. يقف مشدوهاً امام "قاع النيل المكشوف لأول مرة منذ ان جرى من الأزل وشقّ مجراه. يتحرّك فوقه آلاف العمال وعشرات العربات الضخمة والأوناش والماكينات" ويتأمّل ليكتب بحسرة: "هناك كان الميلاد والموت". ولم يستطع علي تكملة تصفّح الكتاب الصادر بمناسبة "الترحيل"، والذي تصدّرته علامة النسر والاتحاد الاشتراكي، وحمل على غلافه رسماً أريد ان يكون رمزاً للأسرة النوبيّة، إنما ملامح الوجوه الافريقية تبدو زنجية خالصة بشفاهها الغليظة وأنوفها الفطساء. وحملت أول الصفحات آية كريمة تتحدث عن الهجرة في سبيل الله. بعدها، بالطبع، صورة "الزعيم" فالوزيرة ومقتطفات من الخطب، ولغة من مثل "انتم على موعد مع السعادة والرخاء في النوبة الجديدة". ومع كل هذا ظلّ الناس في فرح "تجيشُ به نفوسهم وأغانيهم للسد وبانيه". لكن عليّاً كان يرى أيضاً، وفي كل لحظة "ذلك الحزن العميق المستتر القابع في اعماق عيونهم وفي نظرتهم الأسيانة التي تجول في كل مكان، تشربُ المرئيّات جميعاً...". وكان لا بد من "اللحظة الكونية التي تُطوى فيها هذه الأرض" حين وصلت الصنادل، وهي ذاتها التي كانت تُشحن فيها المواشي من السودان والحبشة الى اسوان. وكانت ليلة اخيرة شهدت "طقوساً لزفاف القرى للنهر الذي اعتاد القربان منذ ان جرى". وكان صباحٌ وإبحار باتجاه "النأي الأبدي ودخول المكان في شرايين الذاكرة". وقبل ان تصل المراكب الى "الأرض الجديدة" تسرّبت بعض انباء "نكأت الجراح وأيقظت الإحساس بالظلم والإجحاف الشديدين" حين تحدثت عن قيمة التعويضات الزهيدة، والحال البائسة للدور الجديدة "الواطئة بشكل مقبِض... كالعِلب الحديد... والبعيدة عن النهر...". وحين نزل علي مع النازلين الى "النوبة الجديدة" حيث "لا استقبال ولا كلّ ما قيل... في طوابير كالأسرى والمهاجرين" كانت تجيش في صدره امنية فات اوان تحقيقها: "كان لا بد من التفكير في وسيلة ما، ابتكار طريقة مثلما يحدث لمعبد ابو سمبل ان تنقذ الكنائيس البديعة، والجبانات وما تحويه من مصنوعات فخارية ومدوّنات، وأفران الخزف ومسابك النحاس، والمنحوتات والمعالم المعمارية المختلفة...". وكان يعتقد "انه كان بالإمكان انقاذ كل شيء، فقط بعض من المال وكثير من الوقت، وقبلهما العزيمة والرغبة". بيد ان الحياة كانت تأخذ مجراها. وحده الخال برأسٍ كأنّه "قطعة من الغرانيت" رفض تسلُّم الدار، وما لبث ان فارق الحياة. "كان ممروراً من الخراب الرهيب في النفوس، والوهن في الأرواح، والذي تسلّل كالوباء ودمّرنا، حتى اننا لم نستطع ان نقول لا للضرب على القفا والركل بالمركوب في المؤخّرة". بغصّة الندامة المُستعارة من الخال هذه، ينهي علي محمود "شجويَّتَهُ ومصيرها الغرق في عتمة الأدراج بعضاً من الدهر. هكذا، يتوارى الراوي تماماً كالمكان المستكين قعراً لأمواه النيل. ولولا المداخلة التي يثبتها يحيى مختار عقب انتهاء النص لتوارى بدوره كالمدرّس الذي اختبأ في ظلاله. لكنه، حين يفعل ذلك، فهو يُفصح فيها عن مكنون غرضه الكتابيّ برمّته: "النوبة التي أصبحت تحت مياه بحيرة السد العالي مكان لا يمكن ان يستعاد في الواقع، ولكن الحنين والتذكّر والإمساك به كتابة بعد تبدُّده اصبح همّي الخاص لإنقاذ الذاكرة النوبيّة كي لا تغرق في مياه البحيرة مع الوجود الذي غرق فيها". ولا يشكو يحيى مختار هذه المرة من السدّ ذاته، ذلك "الحلم الذي تحقق"، وإنما من كرهه "للبيروقراطية والإهمال وعدم الإدراك الواعي والإحساس بالمسؤولية القومية...". وتحت وطأة هذا الامتعاض، وعبء تلك "الرسالة" التي نذر لها الكاتب قلمَه، يُصبح موضوع القضية طاغياً ومهيمناً على مسألة الكتابة في ذاتها. ومع هذا، فاللغة في "جبال الكحل" تنساب انسياباً حزيناً على إيقاع مأساة المكان وجمالياته. فهي تحاكي حجارته وصخور هياكله العتيقة حيناً، وتلين كما سعف النخيل في غاباته واتّساع فسحة قفاره وفلواته حيناً آخر، وتتهادى بسكون غامض كقدر لا يبرح احياناً كثيرة، إنما ودائماً بقوة الشجوِ ورقّته، ونزوع المشاعر المُسْتثارة كفيضان النهر الى بعدها الإنساني الذي يحضن المكان في نهاية الأمر كما فعلت المياه على حد سواء.