بعد قرابة أربعين عاماً من التهجير النهائي لقرى النوبة، البالغ عددها أربعاً وأربعين قرية مصرية جنوبأسوان، إيذاناً بالتشغيل الاحتفالي للسد العالي، يكتب يحيى مختار، القاص النوبي، وثيقة إبداعية فائقة الأهمية، تسجل في شكل يوميات، مرثية شجية لقرابين النيل المعاصرة. ويختار الكاتب لها عنواناً موحياً، مأخوذاً من مثل شعبي "جبال الكحل تفنيها المراود" للدلالة على فعل الزمن القهار، في خلخلة الجذور المغروسة طيلة الأبد في الصخور الغرانيتية. وجاءت الهجرات المتعاقبة، منذ مطلع القرن العشرين، عند أول رفع لمنسوب خزان أسوان عام 1912، وانتهاء بإقامة الصرح المائي العظيم خلال حقبة الستينات، لتعري هذه الجذور، وتصيبها - كما يقول الكاتب - "بالشروخ والتصدعات التي أضحت مرئية في جدران كل قبيلة وعائلة". هذا هو التقابل الحاد في رؤية الكاتب، بين استمرارية نمط المعيشة الفطري البسيط على تخوم العالم المعمور، حيث كان دخول "الراديو الترانزستور" أكبر ثورة شهدتها النوبة في الاتصال ببر مصر الأم، وما اعتراها من تحولات ساحقة بعد الهجرات المتتالية للمدينة، التي أوشكت أن تبتلع ما تركه النيل من بشر، على رغم الجهد الأسطوري، والتلقائي أيضاً، الذي بذله النوبيون في مهاجرهم للحفاظ على هويتهم وتماسكهم ابتداء من التزاوج الداخلي في ما بينهم، إلى الحفاظ الصارم في حياتهم اليومية على الحديث باللغة النوبية، وهي لغة مستقلة، بعيدة تماماً من العربية بلهجاتها المختلفة، بقدر ما هي متوازية مع اللغة الديموطيقية والقبطية المصرية القديمة، والتطلع الدائم لاكتشاف أبجديتها المكتوبة، والمحفورة في صخور الجنوب التي طمرها النيل في طوفانه الكاسح الأخير، عقب إغراق قرى النوبة إلى الأبد كآخر قربان للسد العالي في عهد عبد الناصر. نماذج ومشاهد يقدم الراوي خاله المعمّر "جعفر جنينة" باعتباره الذاكرة الحية لقومه، واللسان الناطق بهواجسهم وعذاباتهم، فهو يحكي عن زياراته في مطلع القرن الماضي الى أسوان، لرؤية الخزان الذي غيّر وجه الحياة في تعلياته المتعاقبة، لكن هدفه الأساسي كان جزيرة "فيلة" التي حدثه جده أنها كانت في الزمن القديم جزيرة مقدسة حيث أوصاه قائلاً: "اذهب وشاهد معبد الإلهة إيزيس، إن أجدادنا "النوباد" كانوا يزورون المعبد كل عام، وقت أن كانوا يدينون للآلهة الوثنية منذ عهد أجدادنا الفراعنة، وعندما حضر الرومان إلى البلاد غازين ظلوا يحجون إلى المعبد ويأخذون تمثال الإلهة إيزيس معهم عائدين إلى الجنوب، وهناك تقام الاحتفالات لها، وتجوب المراكب كل السواحل فاردة قلوعها المزينة". وروى لي عن المعارك التي دارت بعد ذلك بسنوات بين أجدادنا والمسيحيين الأوائل حول المعبد الذي حوّله حاكم روماني - بعد أن دخلت روما في المسيحية - إلى كنيسة، واستمرت الرحلة السنوية للأسقفية، وظلت له تلك المهابة والقدسية التي تهز القلوب والأبدان والتي تمثل العبق القديم والترنيمات الإيزيسية والكهنوتية القبطية معاً في مزاج فريد، وجاءت بعد ذلك المساجد ليرتفع فيها الأذان ولتشارك الكنائس في سكنى المعبد: "هذا الخال كان حافظاً للقرآن ومئات الأحاديث النبوية الشريفة"، وكان "ميرغنياً خاتمياً" أخذ العهد من سر الختم قطب طريقة سيدي محمد عثمان سر الختم الميرغني، قطب دائرة الأكوان، وهو أمين التكية الميرغنية في "الجنينة والشباك" وراعي الخلاوي في النجوع، وهو الذي سيحكي قصة انبهاره أولاً بخطاب الزعيم عبد الناصر، الذي بشر أهل النوبة بميلاد جديد في مهجرهم، وشكه في نوايا خطاب الدكتورة وزيرة الشؤون الاجتماعية واستخدامها لقصة المهاجرين والأنصار، وهو الذي سيتابع بشكل مأسوي عنيف تقلب هذه الوعود البيروقراطية على أيدي الموظفين الذين استأثروا لأنفسهم بما يربو على ثلاثة أرباع مليون جنيه لقاء الإجراءات والاحصاءات واللجان التي انتهت بمنح النوبيين انفسهم تعويضات لا تزيد على مئتي ألف جنيه، في مقابل بيوتهم وأراضيهم على شاطئ النيل المعبود، ونقلهم إلى بيوت أسمنتية قميئة وموحشة في صحراء أبي سمبل، رفض الخال جعفر دخولها، وآثر الاعتزال في كوخ صغير، مضرباً عن الكلام والحياة، حتى لحق بروح أسلافه التي كانت ترعاه عن بُعد. لكن مشهد الاستعداد المحموم للعرس الموجع يستحق التسجيل والتأمل، فجأة وجد النوبيون المهمشون أنفسهم وقد أصبحوا محط كل الأنظار والأخبار "النيل لا يخلو سطحه من المراكب الهابطة الى الشمال والصاعدة الى الجنوب، الفلايك بين القرى، الدهبيات الراسية أو المبحرة تقل بعثات التنقيب، من جهات أجنبية كثيرة، وفرق أخرى من الجامعات المصرية ومصلحة الآثار، فرق الانقاذ من مهندسين وعمال، وآلات وسفن تحمل أوناشاً عملاقة لنقل المعابد، اجتمع على طول البلاد علماء الجيولوجيا والأجناس البشرية، خبراء الآثار واللغات، زحام في البر على الشاطئين وفي عمق الصحراء والتلال، وراء الآثار المندرسة، بعثات وزارة الثقافة من رسامين ومصورين وفرق خبراء الفنون الشعبية الطائفين على القرى والمقيمين بها، يرسمون ويصورون ويسجلون بآلاتهم الأغاني والأمثال والحكم وحواديت العجائز، يصنفونها ويرقمونها، كنت أرى أنها عملية تحنيط جديدة، كنت أعلم أن تلك هي صحوة الموت، إنها في حضورها النابض الكثيف تستعد للغياب في العدم، ستزف للنيل بعد شهور قليلة". هذا الراوي الذي يمتلك وعياً شفافاً بالتاريخ، يؤلمه أن تنشر الصحف أرقام "أكبر عملية تهجير في العالم، تنجز في وقت قياسي وبشكل رائع!"، "عدد المساكن المأهولة خمسة آلاف، والمهجورة أربعة آلاف وخمسمئة وهناك ثلثمئة وخمسون ألف نخلة ستغرق، وثمانية آلاف بقرة وثلاث جاموسات فقط، وستة وعشرون ألف رأس غنم، وخمسمئة رأس ماعز، وتسعون بالمئة من هذه الحيوانات جارٍ ذبحها". عندما لاحظ "عوض كيتي" كثرة الاحصاءات تنبأ بأن التعويضات ستكون قروشاً، وأضاف ضاحكاً بمرارة: لقد نسوا الكلاب! لكن الراوي لا ينسى وصف مشهد هذه الكلاب التي ستتابع صنادل أصحابها في الماء حتى يغرق بعضها ويرجع بعضها الآخر ليموت كسيفاً على الشاطئ. ومع أن الكاتب يصطنع في متخيله السردي راوياً يسميه "محمد الماوردي" يقوم بتوقيع الفصل الأول الذي يطلق عليه "تنويه" وهو يحكي قصة المذكرات التي أرسلها له صديقه الراحل "علي محمود" مدرس التاريخ في مدرسة عنيبة النوبية. غير أن كثيراً من أحوال هذا الراوي وأقواله ترد في المذكرات التي تحتفظ بطابعها التوثيقي من ناحية، وتؤجج وهمها التخيلي من ناحية أخرى. لكن المؤلف لا يلبث أن يهتك هذا القناع الشفيف في الفصل الأخير من الرواية، فيروي قصة حياته الشخصية، لتتداخل مع حكاية الماوردي في تقاطعات عدة، وكأنه لم يطق صبراً على مظنة التخييل فعمد إلى تأكيد المصداقية التوثيقية للنص، فقد هاجر وهو في السابعة من عمره من قرية "الجنينة والشباك" بالنوبة، واستقر في حي العرب في المعادي بالقاهرة، ودرس اللغة العربية الفصحى وتدرب بمشقة على العامية، قبل أن يدرس الصحافة ويدخل السجن في الستينات لانتماءاته اليسارية، ثم يفرج عنه - تماماً مثل محمد الماوردي - قبيل زيارة "خروتشوف" الى مصر لافتتاح المرحلة الأولى من السد العالي. يحكي الراوي ما حدث مع جدته "داريا" عندما زارهم قبيل التهجير بعد أن انتهى صخب الاحتفال بالإفراج عنه، حيث لاحظ أن "شيئاً ما قد تبدل فيها، تكسر أو تمزق". اصداء الجبل منذ عنوان الرواية، ومسارها الذي يشير إلى اقتلاع الناس من حياتهم ومحاولة إجبارهم على السكنى في غير أراضيهم وبيوتهم المتوارثة، يستشعر القارئ قرابة واضحة مع رواية الجبل لفتحي غانم، لكنها قرابة القضاء والاختلاف، فيحيى مختار استراتيجيته دقيقة صائبة في إشادته بالسد العالي ومشروع مصر الحضاري في ترويض النيل من ناحية، ورثاء الحياة المندثرة لأهل النوبة ورفض ما تعرضوا له من تغرير بيروقراطي وتهميش إنساني من ناحية أخرى. إذ لم يستشرهم أحد في الأماكن التي ينقلون إليها، ولم يسألهم عن طابع المساكن التي ستؤويهم، وهو يقارن ما حدث لهم بتجربة أخرى هي التي تعرض لها فتحي غانم من منظور مخالف، حيث دان في رواية الجبل بشكل قاطع ما يفتقده يحيى مختار في تهجير النوبة: كان فتحي غانم في رواية الجبل قد دافع عن سياسة عبد الناصر في تحقير شأن تجربة القرية النموذجية التي بناها عبقري العمارة الشرقية حسن فتحي، هازئاً من المهندس المترع بالثقافة الغربية والمرتمي في حضن الأميرة المشبعة بالنزق والشهوات. لكن الحق يقال كان بناء رواية "الجبل" أقل شغفاً بالتوثيق وأكثر تشبعاً بروح الفن الروائي من رواية "جبال الكحل" التي تقف بجوارها مثل الهيكل العظمي الخالي من كسوة اللحم وتدفق الدم، إذ لم يستطع يحيى مختار أن يبعث نكهة الحياة النوبية من الداخل في عروق سرده، مكتفياً بالانتشاء بالوصف الخارجي الزاهي الألوان. حاول الكاتب أن يقدم شعبه بشكل متطهر بوريتاني لا يخطئ ولا يجرم ولا يقترف الآثام والشهوات البشرية حتى يستدر تعاطفنا الكامل معه، ركز على الحالات المأسوية فحسب، حتى إن الراوي المدرس وصديقه الفنان لم يشيرا إلى أشواقهما خارج القضية المحورية، المرة الوحيدة التي يأتي فيها ذكر تفاصيل حياة امرأة كانت حكاية زينب التي ولدت في "الرفاص" خلال التهجير وماتت بحمى النفاس. كان في وسع المؤلف أن يخرج من هذه الأحادية في المنظور ليقدم نماذج غنية من العلاقات الانسانية التي تبتر خلال التهجير وتشتت، كما كان بوسعه أن يجذل مع قصة التهجير القسري مجموعة من تفاصيل الحياة اليومية بما يعتمل فيها من قسوة وعرامة في الحب والميلاد والزواج، حيث تشم رائحة الخصوصية في المشاعر تطفح بها ذبذبات عواطف الشباب والكبار في غرائزها الحية، لقد استقطبت قضية التهجير ومأساة اقتلاع الشعب النوبي بشكلها المباشر اهتمام الفنان فنسي أن أشد حالات هذا الاقتلاع ما يتشابك مع زخم العواطف الغنية للبشر وما يتوهج فيهم من شهوات ومطامح محبطة. وإذا كان الكاتب يعترف بأنه كان شديد التأثر بوليم فوكنر خصوصاً في روايته "يوكنا باتوفا" هذا المكان الأسطوري الذي أصبح واقعياً بالإبداع، هذه المقاطعة الخيالية التي خلقها فوكنر ليجري على أحداث رواياته التي تضج بالحياة والحركة، مثل "ماكوندو" التي صنعها "غارسيا ماركيز" بعد ذلك، ويعترف بأن صنيع "فوكنر" هو الذي جعله يستدعي قريته النوبية "الجنينة والشباك" التي كانت موجودة بالفعل. فإن الفارق بين ما أنجزه يحيى مختار في مرثيته السردية لعالم النوبة الأصيل وما صنعه هؤلاء المبدعون الكبار يكمن في شجاعتهم وقدرتهم على الإمساك بجمرات الحياة في قبضة واحدة يمتزج فيها الواقعي بالأسطوري، والإنساني بالشيطاني والإلهي معاً، والغوص إلى أعماق المسكوت عنه في حشايا الضمائر الفردية والجماعية في جدلها الخلاق، عندئذ تستطيع مراود الفن أن تغني "جبال الكحل" كما يقول المثل النوبي العريق. * ناقد وأكاديمي مصري.