محمود، لم يبلغ بعد الثالثة عشرة من عمره، لكنه يعبس عبسة الرجال عندما يقوم بفك إطار سيارتك بحركات آلية ودقيقة من دون تضييع وقت، ومن دون رفع رأسه. فملعمه لا يتهاون مع عماله، وكل من يدخل محترفه يعامَل بالطريقة نفسها. تسأله: "كم عمرك؟"، فلا يجيبك. بل ينظر بطرف عينيه نحو معلّمه. فيقول له هذا الأخير: "تكلّم". فيجيب. بدأ محمود العمل منذ ثلاث سنوات، ليعيل امه، بعدما تعرض والده لحادث عمل أقعده جزئياً. وهو يعمل. وأخوه الأكبر 14 سنة يعمل أيضاً. وعائلته مؤلفة من سبعة اولاد، إضافة الى الأب والأم. "كنت أذهب الى المدرسة في السابق، وكنت احبّها. لكني انقطعت عنها منذ ثلاث سنوات... وغالباً ما أتعمّد المرور بقربها عندما انتهي من عملي، في طريق العودة الى البيت". "لماذا يا محمود؟" "لا أعرف بالضبط، ربما لأن أصحابي ما زالوا فيها". "هل تلتقي بهم؟" "يوم الأحد وفي الأعياد نلهو معاً في الحارة". لم ينقطع محمود عن رفاقه السابقين. وهو على تواصل معهم عندما تسنح له ظروفه بذلك. "أحياناً يعطونني مجلّة ماجد فأطالعها في بحر الأسبوع". "أين؟ في العمل؟". "أبداً! المعلم لا يسمح لنا ان نتلهّى اثناء العمل". "أوليس من اوقات فراغ اثناء العمل عندكم؟" ينظر محمود الى معلّمه، ويقول: "لا وقت لدينا. نحن منشغلون باستمرار. هذا المحل افضل محل لتصليح الإطارات في البلد". يبتسم المعلم ويضيف: "صحيح". وعندما تتابع قصة محمود الصغير، الأسمر الشعر والحذق العينين، تكتشف ان معلّمه يعطيه أسبوعياً ثلاثين الف ليرة عشرين دولاراً اميركياً، وأن محمود يسلّمها بالكامل لأمه، لتعيل العائلة بأسرها. "وأنت، ما الذي تحصل عليه من كل ذلك؟" يجيب محمود قائلاً بأنه يكتفي، لمصروف جيبه، بما يحصل عليه من اكراميات الزبائن. ويعتبر محمود الصغير الأمر طبيعياً. اما سبب تسليمه معاشه الأسبوعي لأمه فيعود الى علاقته الحميمة بها. إنها تهتم بجميع افراد الأسرة ولا تصرخ بوجه احد، كالأب مثلاً. ومحمود يتضامن معها في شقائها ويحاول ان يخفف عنها قسوة الحياة. انه عظيم صغير. ولعلّه ليس الوحيد. فأمثاله عبر العالم، بحسب مصادر منظمة العمل الدولية، يبلغون 120 مليوناً، وفي لبنان، بحسب مصادر وزارة الشؤون الاجتماعية، يبلغون 43 الف طفل. بصمات مرحلتي الحرب وما بعد الحرب واضحة في تجربة جميع الأطفال العاملين في لبنان. فنسبة الأمية ضئيلة عندهم. ذلك ان 5،11 في المئة فقط ينتمون الى هذه الفئة. اما الباقون، اي 5،88 في المئة منهم، فيجيدون القراءة والكتابة. ولتفسير هذه المفارقة سبب واحد هو الفقر. فمعظم العمّال الصغار في لبنان يغادرون مقاعد مدارسهم في نهاية المرحلة الابتدائية أو في مطلع التكميلية، بضغط من الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي تعيشها اسرهم. وأسر الفقراء، في جميع بلدان العالم، تعيش فقرها بأشكال متعددة تكاد لا تخطر ببال بينما الأغنياء يعيشون بطرق متشابهة جداً، على حد ما لاحظه دوستويفسكي منذ اكثر من قرن. وهذا ما يفسّر، بالمناسبة، ظاهرة التسرّب الدراسي الكبيرة عند الذكور في المدارس الرسمية في لبنان، حيث تتفوق عليهم الإناث عددياً في المرحلة التكميلية، فالفارق العددي بين تلامذة الجنسين تفسره عمالة الأطفال التي تخطف خُمس الذكور وأعمارهم بين 10 و18 سنة. الفقر كافر، على حدّ تعبير زياد الرحباني. ونصف الأطفال العاملين ينضوون تحت هذا العنوان، كمحمودنا الصغير. اما 33 في المئة، فينتمون الى فئة الراغبين في تعلم مهنة، لمجابهة المستقبل وأعباء الحياة. "تركت المدرسة في الرابعة عشرة لأنضمّ الى محترف خالي المتخصص في الحدادة الفرنجية. كنت أرغب في تعلم صنعة ولم اكن احب المدرسة كثيراً، خصوصاً حصص الرياضيات". هذا ما يقوله جهاد الذي لا يتحمّل اعباء عائلية ولكنه يرغب في تأمين مستقبله. "هل يستحيل ان تؤمن مستقبلك في المدرسة؟" "لم أكن لامعاً فيها، واليوم اجيد القراءة والكتابة وهذا يكفي". "ولماذا لم تتوجه الى مدرسة مهنية للحصول على شهادة مهنية رسمية؟" "لا يسعني الانتظار. فنحن ثمانية اولاد في البيت وعلينا ان نؤمن حياتنا بأنفسنا". "هل تعطي قسماً من راتبك لأهلك؟" "والدي لا يحتاج إليّ، فهو لا يزال يعمل ويكفي اخوتي الصغار. لكن عليّ أن أتدبر امري بنفسي". "هل وافق على عملك عندما باشرت به؟". "قال لي: عافاك يا ابني، اول على آخر بدّك تبدا تشتغل". اما لماذا انساق جهاد الى سوق العمل في هذا العمر المبكر فلأسباب مهنية مبكرة، ذلك ان الأُسر الفقيرة تُنشئ أولادها عموماً على ضرورة الانخراط في الحياة العملية في اقرب وقت ممكن. فتغدو قيمهم عملية ومنفعية في آن. ويقول احد المربّين في هذا الخصوص: "متى دخلت الى جيبه اول خمسين الف ليرة، يبيع الولد المدرسة بما فيها. فيعتدّ بنفسه ويعتبر انه غدا راشداً. فكسب المال، في الأسر الفقيرة، من شيم الرجال. والأطفال في هذه العائلات على عجل لبلوغ الرشد بالمفهوم الاجتماعي الخاص بهم. من هنا ان متابعة التحصيل العلمي امر ثانوي في نظرهم". لا يتقاضى جهاد سوى اربعين الف ليرة لبنانية في الأسبوع. وكما هي حال محمود، فالأجور التي يتقاضاها هؤلاء الأطفال دائماً دون الحد الأدنى المعترف به كما تحدده الحكومة رسمياً. وهذا الحد الأدنى، الذي يبلغ ثلاثمئة ألف ليرة، يتهرّب من دفعه ارباب العمل بتشغيلهم الأطفال. تراهم يدفعون لهم، في احسن الأحوال، نصف الحد الأدنى للأجور. ولا يسجّلونهم في الضمان الاجتماعي. فأي حادث عمل لا ينعكس على رب العمل سلباً. بل يغسل يديه مباشرة من مسؤولية ما حصل... ويوظف طفلاً آخر. قاسية هي حياة هؤلاء الأطفال. ومن جملة مظاهر قسوتها انتقال الأطفال العاملين من "معلم" الى "معلم" باستمرار، فنادراً ما يبقى واحدهم عند معلم اكثر من سنة. حتى لو كان من اقربائه. ذلك ان الحركية المهنية مرتفعة الوتيرة في هذا الوسط الصغير الذي يشكل حالياً في لبنان 6،4 في المئة من مجموع القوى العاملة في البلاد. وهو يسهم في الاقتصاد الوطني. لكنه لا ينال من إسهامه في تحريك عجلة المال والأعمال في البلاد سوى بعض الفتات. وتتباهى الدولة اللبنانية وسواها من دول جنوب الأرض الفقيرة في انها تمكنت من ادخال بند في تشريعاتها ينص على عدم السماح بتشغيل الأطفال إلا بعد بلوغهم الثالثة عشرة مكتملة المعدّل المذكور كان في السابق 8 سنوات فقط. لكن اجهزة رقابة وتطبيق القانون الجديد غائبة عن الساحة، يتربّع عليها "المعلم"، كالنمرود، ويسهم في قتل شخصيات صغيرة تأخذ الحياة حقها منها، بدل ان يحصل العكس.