أطفال يحملهم الفقر الى الشوارع بحثاً عن دخل للمعيشة، وتدفعهم غريزة حب البقاء الى ذلك، ليسوا طفلاً أو طفلين، بل شريحة واسعة تمثل جزءاً من مجتمعنا العربي. يجدهم المرء عند شارات المرور يبيعون محارم ورقية لو سجائر أو بطاقات يانصيب، وفي محطات الباصات والمقاهي وعلى الأرصفة يمسحون الأحذية ويبيعون العلكة أو المجلات والجرائد. ونراهم أيضاً في الأسواق، حاملين أثقالاً من البضاعة على أكتافهم، وقد أجادوا لغة التوسل والاستعطاف لجذب الزبون، الذي يقع فريسة لهم فيشفق على طفولتهم المسفوكة على الأرصفة، لكنه سرعان ما يكتشف انهم ليسوا وحدهم بل هم مرتبطون بشبكات يديرها سماسرة يستغلون تعبهم لقاء دخل بسيط. هذا عدا عن السلوكيات اللاأخلاقية التي يفرضها عليهم الشارع. وذلك يخص الأطفال التعساء قليلي الحظ. أما رفاقهم من "المحظوظين"، فيكون عملهم ضمن ورشات أو معامل، حيث يقومون بأعمال من الدرجة الثانية والثالثة بما يتناسب وقدراتهم البدنية، كالكنس ونقل الأشياء من جانب الى آخر أو اعداد الشاي للعاملين، حتى يتسنى للواحد منهم اللحاق بركب العمل من الدرجة الأولى والتدرب على المهنة. عندها يكون الطفل صرف زهرة العمر في سبيل تعلم مهنة تعينه على أعباء الحياة لاحقاً. الشاب صفوان، عمره سبع وعشرون سنة، ويعمل في احدى ورش الديكور العربي في دمشق. يتحدث عن مسيرته في العمل فيقول: أحمد الله لأنني دخلت الى هذه الورشة صغيراً، في سن 12 سنة لكي أتعلم المهنة، لأن المدرسة لم تنفعني، ولي زملاء أكملوا دراستهم لكن بسبب قلة فرص العمل للمتعلمين أصبحت اليوم أشفق على وضعهم المادي بينما استطعت أنا تأثيث منزل مستقل من خلال المهنة التي تعلمتها. ويعترف بأن العمل كان يرهقه وهو صغير ويقول: كنت بحاجة للهو واللعب أثناء العمل، وفي القطع التي نعمل بها تحديداً، لكن صرامة رب العمل جعلتني لا أجرؤ على ذلك أبداً. أما الطفل غيث الذي يعمل في الورشة ذاتها فيقول: عمري 13 سنة، لست طفلاً، فأنا أساعد عائلتي في مصروف المنزل، صحيح أنني أتعب ولكن والدي قال إن ذلك أفضل من المدرسة لأنها لم تعلمني شيئاً وتستهلك المال دون جدوى. وعلى العكس فإن الطفل خالد وعمره عشر سنوات، ليس سعيداً في عمله ويقول: "أتى بي والدي الى هذه الورشة لأتقن بعض الأعمال الفنية، وأنا لست سعيداً بهذا لأن الجميع يأمرونني خذ.. وهات...". ومن البديهي القول، إن الآثار الناجمة عن عمل الطفل، تشكل اعتداء على شخصيته، وعنفاً موجهاً نحوه، لأن الطفل يحرم من التعليم وحق التمتع بالطفولة مما يقضي على مستقبله في أن يكون إنساناً فاعلاً في المجتمع. أم الآثار المنعكسة على أسرة الطفل فهي، ان العمل يؤمن دخلاً للأسرة، الا انه دخل موقت، في حين أن المستقبل يتطلب من الشخص نفسه تعليماً واعداداً مهنياً عالياً، وهذا غير متوافر، الأمر الذي ينجم عنه بطالة مقنعة قد تقود الى انحرافات اجتماعية خطرة تشوه سمعة العائلة ومكانتها في المجتمع .المجتمع طبعاً، هو مجموعة من الأفراد وإصلاح الفرد يؤدي الى اصلاح المجتمع. لذلك، اذا كان أفراد، المجتمع يعانون من اشكالات بنيوية تخص وجودهم مثل عمالة الأطفال، فهو سيكون في وضع غير صحي. فأطفال اليوم رجال المستقبل، وبمقدار ما يكون الأطفال ذوي سوية صحيحة فمجتمع الغد سيكون كذلك. والأطفال في شوارع دمشق الذين يبيعون اليانصيب، لهم قصة أخرى، وعندما تقترب منهم يتحلقون حولك باعتبارك زبوناً. وما ان تسألهم عن أسباب عملهم واسمائهم حتى يفروا هاربين. أحدهم يدعى محمد عمره 8 سنوات يجيب رداً على سؤال: لماذا يبيع اليانصيب؟ ويقول: "كي أعين أسرتي. والدي حي ولكن عددنا كبير وهو لا يمكنه تأمين خبزنا اليومي. وأخوتي يعملون في بيع أشياء أخرى". ولدى سؤاله: هل تعملون مع شخص كبير؟ يرفض الاجابة ويهرب. وفي مكان آخر، هناك الكثير من الأطفال يتجولون بالعلكة والمجلات، ويفتعلون المشادات الكلامية ويزاودون على الزبون ليشتري. ويقول أحد المارة: "أعتقد أن عمل الأطفال ظاهرة سيئة جداً، إنها نوع من التشرد. الأطفال مكانهم المدرسة والحديقة وليس الشوارع لأنهم سينحرفون حتماً، لا بد من قوانين تحمي أولادنا، شباب المستقبل...". وتشترك ام خالد، بائعة الدخان في الحديث قائلة: "الذي يملك الفلفل يرشه على المخلوطة، أما الفقير يا حسرتي فماذا يفعل؟ لو ان زوجي حي وقادر على إعالتي مع أطفالي لما جلست هنا أبيع الدخان والأواني الزجاجية، ولما وافقت على هروب أطفالي من المدرسة حتى يساعدوني. الفقير له الله والشارع... طوال عمري احلم بأن أكون أم طبيب أو مهندس. وعلى السور يجلس الطفل حامد ذو العشر سنوات وأمامه بسطة صغيرة عليها أشياء ضئيلة، يدخن بنهم، ولدى سؤاله عن عدم التحاقه بالمدرسة، يضحك ساخراً ويقول إن المدرسة "لا تطعم خبزاً. أنا أجلس هنا يومياً وأحصل على مئة ليرة سورية، اضافة الى أنني حر من الواجبات المدرسية والاستيقاظ باكراً وتحمل غلاظة المدير والمدرس. أعيش هكذا، على كيفي. وأهلي مسرورون لأنني أساعدهم في المصروف". السيد مروان أ صاحب ورشة موزاييك يقول عن سبب قبوله الصغار في هذا المجال ان "تعليم الأطفال المهنة اسهل وأجدى من تعليم الشباب الكبار. اليوم ألاحظ ان كثيراً من الأهالي يتجهون نحو تعليم أطفالهم الحرف اليدوية لضمان مستقبلهم، خصوصاً بعد تأكدهم من عدم قابليتهم للاستمرار في الدراسة". وأنا شخصياً جربت أجيالاً من الأطفال، منهم من بقي عندي في الورشة ومنهم من كون مصلحته الخاصة، ومنهم من تابع الدراسة وتعلم حرفة، وهذا أفضل من بقاء الانسان عاطلاً من العمل وفاشلاً في الدراسة. ويقول الدكتور كامل عمران، أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق، عن أسباب عمالة الأطفال: "هنالك أسباب عدة، منها تربوية مثل ظاهرة الهروب من المدرسة في مستوياتها كافة". ويعزى ذلك الى عوامل عديدة كصعوبة الوفاء بمتطلبات النظام التعليمي السائد، ونوعية المناهج المعقدة، أو شخصية المعلم وطريقة تعامله مع التلاميذ، خصوصاً أن الأجواء الدراسية كثيراً ما تعكس حالة الخوف من الأساتذة. وهناك أيضاً الأسباب الاقتصادية مثل تدني دخل الأسرة بشكل عام، وعدم قدرتها على تأمين بعض المتطلبات لأبنائها، الأمر الذي يدفعهم الى التفتيش عن بدائل أخرى لتعويض هذا النقص، كما تلعب الأسرة والعلاقات السائدة بين أعضائها دوراً مهماً في تشرد الأطفال وعملهم، فتنعكس علاقة الأبناء بآبائهم وامهاتهم على توجهاتهم في الحياة. فكلما كانت الأجواء مشحونة بالخلافات والمنازعات والتسلط وعدم الاستماع للرأي الآخر، زادت احتمالات ترك الأطفال للبيت والمدرسة للبحث عن العمل، والسبب الآخر انه رغم وجود أنظمة وقوانين تحد من عمل الأطفال إلا أنها ليست بهذه الصرامة في التطبيق. إن المجتمع العربي هو الذي يخسر براءة الطفولة وغناءها في حدائقه ومدارسه. هذا في الوقت الذي تنادي فيه منظمة الطفولة الدولية بحقوق الطفل، وضرورة رعايته وتوفير الحماية له. لكن العامل الاقتصادي والفقر المدقع والفوضى ترمي تلك العصافير في قفص العوز، بدلاً من اطلاقهم نحو بناء مستقبل أفضل. ورغم ما حققه المجتمع السوري من نهضة نوعية في جميع المستويات، وخصوصاً مجال رعاية الطفولة، الا ان المرء يشاهد الباعة الصغار وهم يمدون أيديهم الملوثة بتراب القهر ليقبضوا القروش من الناس. انهم في كل مكان، في الشارع المظلم وفي الورشات، والمعامل والحوانيت...