النساء والحرب، هو موضوع المعرض الجماعي الذي يشارك فيه خمسة وثلاثون فناناً تشكيلياً سورياً "بإهداء أعمالهم وألوانهم، ومنحوتاتهم للنساء في الحروب"، في سياق الحملة الانسانية التي تقوم بها منظمات إنسانية، للتخفيف من آلام النساء اللواتي يتحمّلن القسط الأكبر من ويلات الحروب وآثارها المدمِّرة في حياتهن، بصفة كونهن في مقدم ضحاياها. ثمة شهادات حية مؤثرة، لبعض هؤلاء النسوة، نُشرت في الدليل المرافق للمعرض، هي مجرد عيّنات لآلاف الحالات المماثلة. فهذه امرأة من أبخازيا تقول: "خُلق الرجال للحرب، ولم تخلق النساء لذلك. وقد تجد في الآخر أن النساء هن اللواتي يتعذبن أكثر: يترملن ويفقدن أزواجهن وأطفالهن، وتطلق عليهن النار وهن حوامل، لذايتأثرن أكثر". وتلك امرأة أخرى من لبنان تقول: "من المؤكد اننا شعرنا بالإهانة، فقد تركنا منازلنا، وتركنا مصالحنا وأعمالنا، وفقدنا أجزاء من عائلاتنا، وانتقلنا من ضيعة الى ضيعة... لا شيء أكثر إهانة". وتلك امرأة أخرى من جنوب افريقيا تقول: "ثمة بنات اغتُصبن، وأطفالهن بلا آباء، هذه جريمة لن تحل أبداً". بالتأكيد، هناك آلاف القصص المأسوية المشابهة التي لا يمكن حصرها، لنساء من فلسطين وأفغانستان والبوسنة والهرسك والعراق والسودان، وكل البؤر المتوترة في العالم، وهي تدعو الى السخط، والاحتجاج بصوت عال: من أجل وقف حمامات الدم، واعادة الاعتبار إلى هؤلاء النسوة الجريحات في محاولة قد تبدو طوباوية، للتخفيف من آلامهن. من هذه الزاوية، يبدو أن مشاركة هذا الكم الكبير من الفنانين التشكيليين السوريين اللامعين في هذا المعرض - الحملة، عمل متعدد الأوجه والدلالات. فهو أولاً يحمل رسالة انسانية تدعو الى نبذ الحروب، والتنبيه الى مخاطرها الكارثية على حياة البشر عموماً وعلى النساء والأطفال خصوصاً، وهي من جهة أخرى دعوى اعلامية وفنية وجمالية عكست الرؤى والمعالجات المتعددة التي دان من خلالها هؤلاء الفنانون ويلات الحروب وآثارها المدمرة. إنها بمعنى آخر، نشيد للحياة، ودعوى ضد الموت والعنف والحرائق التي يشعلها الساسة والجنرالات وأصحاب النفوذ ومواقع السيطرة لخدمة مصالحهم، من دون التفكير ملياً في نتائج ذلك على النساء، والأطفال أولاً، وعلى استقرار المجتمعات ثانياً. ولعل ليس من قبيل المصادفة، أن تكون مشاركة الفنانات التشكيليات السوريات في هذا المعرض، هي الأكثر حضوراً وتميزاً، وسخطاً على الحرب وآثارها السلبية في المرأة. فلوحة الفنانة سارة شمة،التعبيرية الرمزية، كثّفت على نحو صادم تلك المعاناة الصارخة للمرأة باستخدام الأبيض والأسود على خلفية الأحمر لون الحرائق والدم، وكذلك لوحة سوسن الزعبي التي أبرزت في البؤرة المركزية للوحة، حجم الرعب المركز، في نظرة المرأة، على خلفية الدمار بألوانه المتداخلة... أما آلكا ابراهيم فعالجت فكرة نزوح النساء وأطفالهن على خلفية الألوان الحارة للحرائق، والأشجار المقطوعة في فضاء غامض. وعبّرت عتاب حريب عن الحزن الجنائزي لامرأة غابت ملامحها، وفي يدها باقة ورد بعدما غيّبت المدينة الغائمة خلفها. وبينما غاصت الوجوه والأشلاء والأيدي والعيون المرعوبة، على خلفية الأزرق وتدرجاته في لوحة أسماء فيومي، آثرت هالة مهايني أن تملأ سطح اللوحة بأجساد النساء ووجوههن الممسوحة، بلا ملامح. واشتغلت ليلى نصير على خطوط بسيطة مختزلة على أجساد النساء الحوامل للدلالة على خصوبتهن المقموعة، فيما أظهرت الحزن والانكسار في حركة الرأس وتعبير الوجوه. الفنان غسان سباعي اشتغل على تكوين لامرأة متكوّرة على ذاتها، ضمّنه وجهين متناقضين لامرأة، أحدهما في حال ترقب، والآخر في حال عويل، بينما امتلأ سطح اللوحة عند أسعد عرابي بتراكم الرموز ذات المستويات المتعددة للدلالة إلى وحشية اغتصاب جسد المرأة وانتهاك روحها. من المسائل اللافتة التي تقاطعت في الكثير من اللوحات تغييب ملامح وجوه الشخوص التي بدت كأنها ممسوحة بلا أي تعبير، كما هي الحال مع لوحة نزار صابور الأيقونية ولوحات حمود شنتوت ونبيل السمان وغسان نعنع وخالد تكريتي وفادي يازجي وخليل عكاري... في حين اشتغل البعض على إظهار الخوف والقلق والرعب الكامن في عيون الشخوص والتشوهات في حركة الوجوه والأجساد، كما في لوحات نذير اسماعيل وعبدالله مراد ووحيد مغاربة وكرم معتوق وعبدالقادر عزوز وسعد يكن الذي قسّم لوحته مستويين: المستوى الأسفل، ملأه بحركة الأجساد المكبلة المقموعة، والمستوى الأعلى الذي أبرز فيه وجه امرأة حزيناً يتعانق مع الهلال والسماء ويطلّ من موقعه على ركام الأجساد. واشتغل فؤاد دحدوح على "روليف" لوحة نحتية نافرة، بألوان باردة وتكوين فيه نوع من الأسطرة... وبأسلوب تعبيري بات ذا بصمة خاصة تميزه، قدّم صفوان داحول امرأة منكسرة في حال انتظار، بالعمل على تدرجات الرمادي مع توزيع محكم للظلال والنور. أما باسم دحدوح فقدّم وجهاً قريباً من المدرسة التعبيرية الألمانية في استطالة ملامحه ونظرته المنطفئة مع حركة اليد على العين الأخرى المشغولة بخطوط واضحة، وقاسية تدلل في قوة تعبيرها وتفاصيلها إلى حجم الكارثة مع مساحة أخرى في اللوحة فارغة إلا من بعض اللمسات البسيطة دلالةً إلى الموت... وتميزت لوحة ادوارد شهدا بدلالة اللونين الأصفر والأحمر، وقد شغل كل منهما نصفها، وتجاورا على نحو صارخ... وذكرت لوحة أحمد ابراهيم، في شكل واضح، بالمدرسة الواقعية الروسية، فرسم وجه امرأة عجوز بملامحها الحزينة القاسية تنظر عبر النافذة الى الفضاء البعيد المملوء ببقع الأحمر والأسود. المنحوتات على صعيد المنحوتات، قدم عبدالرحمن مؤقت منحوتة من البرونز لثلاث نساء في تكوين جميل لأجسادهن، مستفيداً من العلاقة بين الكتلة والفراغ، يعبّر عن حزن النساء ورفضهن الحرب، بينما قدّم زهير دباغ منحوتة برونز تضخّم فيها الجزء الأسفل من الجسد ككتلة، بينما تضاءلت الكتلة عند الرأس كدلالة إلى الانتهاك الذي تتعرض له المرأة أثناء الحرب في عقلها وجسدها. أما منحوتة مصطفى علي خشب فكانت لجسد امرأة مبتور من أعلى وأسفل، فيما بدت آثار الحروق والتشوهات والجروح بادية على ما تبقى من هذا الجسد... وقدّم أكثم عبدالحميد منحوتة خشب كتلة واحدة... تتناغم مع الفراغ المحيط بالفضاء، لامرأة في حركة عنيفة، مكبلة اليدين خلف الرأس والوجه المحترق مستخدماً الألوان القاتمة في طمس جسد المنحوتة. عموماً، تقاطعت معظم الأعمال في تصوير قسوة الحرب والعنف والكسور الداخلية والخارجية التي تولدها في روح المرأة وجسدها. وعلى رغم التباين في أسلوب المعالجة الفنية والتقنية بين فنان وآخر، تفاوتت الأعمال، في معظمها، بين الواقعية والواقعية التعبيرية والتجريد. وكانت المعالجة اللونية في معظم الأعمال تميل إما الى استخدام الألوان الباردة، القاتمة كدلالة الى الموت والدمار، وإما الى استخدام الألوان الحارة، خصوصاً الأحمر ومشتقاته. لا بد من الاشارة الى شهادات وزعت مع دليل المعرض لقصص حية عن معاناة بعض النساء: السيدة ورد العجمي، وهي واحدة من أمهات الجولان اللاتي عانين من جراء الاحتلال، وأم بلال زوجة أحد المناضلين الفلسطينيين، والتي أبعدها المحتلون الاسرائيليون من غزة وهي حامل، إذ أحست بآلام المخاض في نقطة حدودية، وهي في الطريق الى دمشق للقاء زوجها المبعد... وإذا عقدنا مقارنة بين تلك القصص الحية وما عبّرت عنه اللوحات التشكيلية لهؤلاء المبدعين، نجد أن الواقع هو أكثر عنفاً وقسوة، على رغم المخيّلة المجنّحة، والقدرة التعبيرية الفائقة، والأدوات التقنية البارعة التي استخدمها هؤلاء المبدعون، في صدق ووعي، في إدانتهم الحرب ونصرتهم الحب والجمال والحياة التي تجسد المرأة أهم رموزها. * تنظم المعرض اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتعاون مع الهلال الأحمر السوري والسفارة السويسرية في دمشق.