"حتى الحرب لها حدود" هو عنوان معرض جماعي شارك فيه ثمانية عشر فناناً سورياً بين مصوّر ونحات أقامته اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الذكرى الخمسين لاتفاقات جنيف المعروفة بشموليتها الإنسانية. وقد تميز المعرض بوحدة الموضوع نظراً الى ان "الرسم وفق الطلب"، أو انسجاماً مع فكرة واحدة عالجها كل فنان من منظوره الخاص فتباينت التجارب وتنوعت ضمن مناخ إبداعي أطلق صرخة الأعماق ضد أخطار الحروب. وتضمن المعرض لوحات لفنانين سوريين معروفين منهم نذير نبعة، والياس زيات، وليلى نصير، وعبدالله مراد، ونذير اسماعيل وسعد يكن وأحمد معلا، ونزار صابور وصفوان داحول، وباسم دحدوح، وخالد التكريتي وفادي يازجي، اضافة الى منحوتات لكل من مصطفى علي وأكثم عبدالحميد وحلا أحوش وعبدالرحمن مؤقت ولطفي الرمحين، وهي منحوتات معبّرة من الخشب والبرونز عنذ مصطفى علي وحلا أحوش، ومن الخشب عند أكثم عبدالحميد، ومن الرخام عن عبد الرحمان مؤقت. وتضمن المعرض عملاً واحداً لكل فنان من الفنانين المذكورين. وعلى الرغم من أن الموضوع هو معالجة قضية الحرب وما يترتب عنها فإن اللغة التشكيلية تنوعت وتميز المعرض بأعمال تشكل ذروة تشكيلية عند كل فنان. وقدم أحمد معلا في لوحته - رمل - تشكيلاً يوحي باللحم المجبول بالدم الذي يتناثر في أرض زرعتها بالخراب أسلحة فتاكة، بل ان اللوحة تعيد الى الذهن آثار القصف النووي والمستقبل الكئيب للكوكب في حال أحدقت به كوارث من هذا النوع. إنها لوحة صارخة وفجائعية تذكر يهيروشيما وناغازاكي بعد إلقاء القنابل الذرية عليهما. في لوحة سعد يكن - إكليريك - نرى إيحاءات بإخطبوط يطبق على مجموعة من البشر العراة الذين يلوذون بعضهم ببعض برعب ومن دون جدوى، ونرى الاخطبوط نفسه يطوق الضحايا والجلادين. وقد لون الفنان أعين القتلة باللون الأحمر الذي هو لون وجوه بشرية مشوهة توحي بالخراب من يمين اللوحة ويسارها، أما داخل اللوحة فهو بمثابة جزء من غورنيكا بيكاسو. واستخدم عبدالله مراد في لوحته الكولاج والملصقات الإعلانية، وهي لوحة بعنوان تقنيات متنوعة تستخدم قصاصات الجرائد بلغات عدة مع صور وأشلاء صور لحروب في أماكن شتى من العالم، وثمة وجه يعكس عينين ماكرتين لرجل يدخن غليوناً وتبدو عليه علائم النشوة ممثلاً الأسياد، والحروب، وتشكيلات أخرى تمثل الضحايا بشتى أجناسهم. وتأتي لوحة بإسم دحدوح على الوتيرة نفسها، وهي تحمل اسم تقنيات متنوعة، وهي من المستطيل العمودي وتتألف من قسمين: الأول تشكيلي والثاني إعلاني عن الحرب والصليب الأحمر ويبدو في أسفل اللوحة حذاء عسكري يذكرنا بحذاء فان كوغ، وإذا كان حذاء فان كوخ يرمز الى تاريخية الخطى البشرية وهي تحاور الأثلام الممتدة، فإن حذاء باسم دحدوح رمز صارخ للغة الدم وللعسكرتاريا التي تسيطر على العالم، وفي الأعلى تتدلى جثث في فراغ إيحائي وعبر قوة تعبيرية تنسجم مع الموضوع الذي يوجه المعرض. وتبدو لوحتا نزار صابور ونذير نبعه نافرتين عن موضوع المعرض ومنسجمتين معه في آن، نافرتان، لأنهما لم تعبرا بإيحاءات مباشرة عن الشعار الذي عرضت اللوحات تحته، ومنسجمتان لأنهما تقدمان تشكيلاً جمالياً يؤكد أن الجمال لا يزال موجوداً في العالم على رغم البشاعة والحروب والأوبئة، وينطبق هذا الكلام، الى حد ما، على لوحة فادي اليازجي ولوحة صفوان داحول بنسب متفاوتة، حيث لا تخلو لوحة داحول من التعبير عن التكوين الأنثوي الخائف والمحاصر. تقدم لوحة نذير اسماعيل - تقنيات متنوعة - إيحاء مختلفاً يتجه نحو خصوصية محلية تصور حالة الحرب الداخلية بين السجان من جهة والإنسان المحجوز خلف القضبان، في الأفق المعدني للبشرية التي أسرتها علاقات القوة. وفي سياق الإيحاءات الكارثية التي تعبر عن وحشية الحرب قدم الياس زيات عملاً أيقونياً متقناً تتضافر عناصره لتقدم صورة مأسوية عن الحرب تتجلى في الوجوه المذهولة وفي الملصق القماشي الذي يتموضع في منتصف اللوحة، مغطياً جزءاً من الأيدي الممدودة لتصافح بعضها. وهذه الأيدي المتصافحة في الفراغ أحياناً هي في أسفل اللوحة ولا تشكل أفقاً يوحي بالانتصار. وإذا كانت اللوحات في معظمها حاورت حالة الحرب وإيحاءاتها، فثمة ثلاث لوحات ركزت على موضوعة السلام، فلوحة الفنانة ليلى نصير - إكريليك - استخدمت ألواناً زاهية وطفولية تصور الإنسانية كأنها بنيان بقدر ما هو جميل فهو قابل للسقوط، وتركت في أفق اللوحة نافذة زرقاء مفتوحة على فضاءات تفاؤلية. وفي لوحة خالد تكريتي الزيتية نرى صورة للمسيح بوجه طفولي حالم وحزين كأنه يرثي الحالة التي وصلت اليها الإنسانية نتيجة الحروب والنزاعات. وكذلك في لوحة غسان السباعي ثمة إيحاء شاعري يتجلى من خلال ألوان شفافة حول الطبيعة وكائناتها المهددة بالكارثة البيئية المحدقة بالعالم، وتشعرنا اللوحة بأن الشفافية المعلقة أمامنا، والتي أعادت خلقها ريشة الفنان، مهددة بالزوال. هذا في ما يخص اللوحات، أما بالنسبة الى المنحوتات، فنرى قوة تعبيرية عند حلا أحوش في عملها البرونزي الذي يمثل ذروة تعبيرية عن ضحايا الحرب، إذ يبدو هذا العمل النحتي هيكلاً مشوهاً وبشعاً لإنسان يبدو كأنه تعرض لحروق بالنابالم أو خارجاً من أشلاء مدينة دمرها القصف. هذا هو الشكل المتعارف عليه للضحية لكن الفنانة وضعت عليه لمستها الخاصة من خلال التحكم بالأبعاد ومعالجة الكتلة والفراغ. وكذلك الأمر في منحوتة لطفي الرمحين الخشبية - تقنيات متنوعة - إذ يقدم أيضاً شكلاً إنسانياً شامخاً يمد يده في الفراغ وكأنه يدفع خطراً محدقاً. ويقدم مصطفى علي منحوتته الذكية على شكل تابوت منتصب تطل من جانبه كائنات بشرية وكأنه نصب للموت، ويعكس هذا العمل براعة فنان تمرس في التجريب ووصل الى لغته الخاصة. أما منحوتة أكثم عبدالحميد فهي صرخة العوالم الشعرية والأسطورية المجسدة في شكل ميثولوجي لطبقات بشرية حكم عليها بالكارثة التاريخية المتعاقبة وكأن الحرب كانت، عبر التاريخ، قدر البشرية النازعة نحو الإمبراطوريات والبطولات والتجدد ويدل على ذلك النسر وطائر العنقاء. بقي أن نتوقف عند عمل عبدالرحمن مؤقت وهو تكوين الرخام يمثل حالة استغاثة ميتافيزيقية صارخة ونداء يتجه نحو المتعالي، يعبر عن إنسان طالب للخلاص. هذه صورة انطباعية عن المعرض الذي تميز بحساسية موضوعه وبنزعة الفنانين السوريين الذين يرفضون الحرب تعبيراً عن حاجة الإنسانية الصارخة الى السلام. ولقد تجاوب الفنانون السوريون المشاركون مع شعار منظمة الصليب الأحمر الهام: حتى الحرب لها حدود. ومن دلالات هذا المعرض المهمة جداً أنه فسحة للإدانة، وللجمال التعبيري، ذلك أن الأعمال الفنية هي التأريخ الحقيقي للجوهر البشري، وهي التعبير الأرقى عن انطلاقة الإنسانية، وهذه الأعمال الفنية، في هذا المعرض تدافع عن نفسها من خطر الدمار والزوال داعية الى وضع حد للحروب والنزاعات، التي، إذا ما نشبت، فإنها تدمر الإنسان وآثاره.