} تندرج المقالة التالية في اطار مقاربة ألسنية لمنطلقات ووجوه ظاهرة لغوية اجتماعية يكتنزها المجتمع اللبناني ويتوسلها لتوظيف موروثه الثقافي في تجليات الواقع الاجتماعي الراهن. وعنوان المقالة يهديه الكاتب الى ذكرى خالي ناجي الجمال، البيروتي العتيق، والبسطاوي المنشأ واللهجة، الذي حفظت عنه الكثير من التعابير الشعبية، والذي كان يغتاظ لدى سماعه أحدهم يردد تعبير "العطا قيمة" جواباً زئبقياً عن سؤال يتعلق بثمن سلعة ما أو لدى استفساره عن إجرة أو بدل مادي معين. يشكل الموروث الثقافي بتلاوينه وتمظهراته الشعبية معلماً أساسياً من معالم ذاكرتنا الجماعية المعبرة عن جوهر وجودنا وعن محصلة تجاربنا الانسانية المعيوشة. وهو يتمثل عادة في بنية لغوية اجتماعية حية، مسبوكة بلسان العامة وأسلوبهم، توجز حكم وتجارب الأسلاف، وتتكيف بهدف مجاراة روح العصر والاستجابة لحراك الجماعة مثلما لضرورات التواصل وديناميته. وفي هذا السياق تندرج جملة المأثورات والمرويات الشفهية، الأمثال والحكم والأقوال السائرة، الأغاني الشعبية وأغاني المناسبات، الحكايات، الأزجال، الأحاجي والتسالي، الطرائف والنوادر، وسواها... مما يُنظرُ اليه باعتباره ثروة لفظية وخزيناً حيّاً دينامياً للذاكرة الشعبية الراسخة في وجداننا الجمعي. وإذ يحاول الألسني أو عالم الاجتماع أو عالم الأناسة أن يتطرق الى هذه الظاهرة اللغوية الاجتماعية رصداً وتحليلاً واستنتاجاً، فهو سيفاجأ لا محالة بهذا الكم اللفظي الذي تتداوله الشفاه في سبل التخاطب اليومي، أو يتناهى الى الأسماع على ألسن ممثلين شعبيين يروّجونه في المسلسلات التلفزيونية عبر الفضائيات العربية. الى ذلك فهو ماثل كذلك في مختلف الخطابات سياسية، اجتماعية، اعلامية، اعلانية،... التي يتوسل أصحابها أو معدوها هذا التنويع اللغوي مدخلاً لتبسيط العلاقة بين المرسل والمرسَل اليه إن لنقل الأفكار، أو لعرض الآراء والحجج، أو لدغدغة مشاعر الجمهور واستمالته عبر استعارة عدّته اللفظية، المأنوسة بالنسبة اليه، والتي تعبر عن واقع حاله وتقع برداً وسلاماً لديه. هذه الحصيلة اللغوية الدارجة أو الشعبية، مضموناً وشكلاً، تدخل في نظر البعض في باب تحصيل الحاصل أو البديهية لجهة شيوعها وابتذالها. من هنا يسقط المرء صفتي "اليومية" و"الطرافة" على جملة المسكوكات والمتكآت اللغوية الجاهزة اللافتة والمؤشرة التي تتناثر في ثنايا كلامنا - لدى عوامنا وبدرجة أقل لدى نخبويينا - والتي تعكس في ترابطاتها الدلالية المختلفة طبيعة ونمطية السلوكات والعلائق والتجاذبات التي تتأسس عادةً بين أفراد البيئة الاجتماعية اللغوية الواحدة. ومن باب أولى القول انها تشكل في العرف الألسني رسائل لغوية متكاملة ومكتفية بذاتها. فهي قد نشأت في صلب الجماعة، في مفصل تاريخي معين. فاختصرت بذلك تجربة انسانية، أو سجلت حدثاً، أو خبرت عن واقعة، أو عبرع عن حكمة، صاغتها الجماعة بأسلوب سهل مبسط، وبلونها العامي المحلي، ووضعتها مذذاك بتصرف الأفراد، غب الطلب، يستعيدونها متى أحوجتهم الضرورات التواصلية العادية منها أو الاحتفالية أو الطارئة. وتتعدد النماذج الكلامية الشائعة. إذ ثمة الكثير من المسكوكات اللغوية الرائجة والتعابير المجازية والألفاظ الدارجة التي تطرق الأذان آلاف المرات، فترددها الشفاه، في شكل تلقائي، من دون ان يتوقف المرسِل ملياً عند دلالاتها اللفظية أو تأويلاتها الحقيقية. فتغلب بذلك طبيعتها "الاستهلاكية" الشكلية على مضونها الابلاغي الأصلي. فالبعض قد لا يعير محدثه انتباهاً، للوهلة الأولى، اذا انطلق مردداً في ثنايا كلامه تعبيرات تبطن رغبة في اظهار اشارات الولاء، أو تشي بعلامات المحاباة والتبجيل مثل: "تحت امرك" وأخواتها: "بأمرك"، "شو بتأمر"، "أمرنا"، "نحنا بأمرك يا طيّب"، ومثلها أيضاً: "تحت أنظارك"، "بالخدمة"، "كلنا عَ حسابك"، بين الأيادي"، "نحنا دايماً تحت الراية"، "تكرم عينك"، "على راسي"، "على قرعتي من فوق"، وقديماً كان يقال:"على طربوشي"، "نحن بالخدمة وتحت البنديْرة"، "نحنا مين إلك"، "كرمال عين تكرم مرجعيون"، "العين ما بتعلى عَ الحاجب"، "يطوِّل عمرك"، "ما بيصير إلا عَ خاطرك"، "بتمون"، "نحنا بأمر شواربك"، "جايين بمعيتك"، "كلنا تحت جناحك"، "انت بتفصل ونحنا منلبس"، "إنت شور ونحن مننفذ"، "نحنا خرطوش فردك"، وسواها الكثير... وهذه الأخيرة من المخزون الشعبي الذي كان رائجاً في الخمسينات، ولكنها لا تزال تردد ولو على سبيل الدعابة. هذه العبارات السائرة قد لا تلقى صدىً لدى بعضنا ولا تغنيه من جوع، فيهملها ويتجاوزها ويعتذر من قائلها طالباً اليه الدخول مباشرة في لبّ الموضوع. وهي قد تثير خجلاً واستحياءً لدى بعض آخر، فلا يتوقف عندها، ويتظاهر بعدم سماعها. أو هي أخيراً قد تقع برداً وسلاماً عند آخرين تروقهم أساليب التقرب هذه، فينتشون وتنفرج ثناياهم لدى استقبال هذه الرسائل اللغوية. وعندما يُسقط في يد أحدنا أو يفلت زمام الأمر من يده، فهو يبادر عادة الى القول: "نافلة"، "ما في نوى"، "اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب"، "دقّ الميّ وهيي منيّ"، فالج لا تعالج"... مبرراً استحالة الوصول الى نتيجة ما أو انفراج الأمور. ولا نغفل التعابير البلدية الشائعة التي ترافق المشاجرات والمشاحنات والتي تخفي عدوانية وعنجهيةً فارغة في غير موضعها: "عارف مع مين عم تحكي!"، والذي يُردف عادة بتعبير "شو ما عجبك!"، أو "روح بلّط البحر"، "اللي بيطلع بإيدك يطلع بإجرك"، "شِفناك فوق وشِفناك تحت!" الخ... أما التعابير الزئبقية الجاهزة التي تتردد في أفواه الباعة بالمفرق أو صغار الحرفيين أو العمال المهرة وسواهم... لدى استفسارهم عن ثمن سلعة ما أو المقابل المادي لعمل معيّن أنجزوه فهي: "مش بيناتنا"، "من العِبّ للجيبة"، "قدّ ما بدّك"، "إللي بتريده"، "إللي بتدفعه"، "شو ما بتأمر"، "شو بيطلع من خاطرك"، "خلّيها علينا"، "بلا مصاري" أو "بلا فلوس"، "مقدَّمين" أي تقدمة، "بلا حقّن" حقهم، "كلّه واحد"، وصولاً الى "العطا قيمة" إلخ... أما التلويح والإيحاء بكسب مادي ما والسعي الى تدبّر الأمور كيفما اتفق لحل مسألة عالقة فلها تعابيرها المنسقة: "مشيها"، "ولو علينا!"، "منشوف خاطرك"، "نحنا كلنا نظر"، "رتبها"، "طريها ومنكسب كلنا"، "دبّرها بمعرفتك"، "الله طَعَمك كول وطعمي"، إلخ... والردود الوافية أو الوعود الشافية للطلبات والخدمات حاضرة في مخزوننا اللغوي: "خالصة"، "بسيطة"، "حطّ إجريك بميّ باردة"، "ما تحمل همّ"، "اعتبرها منتهية"، "محلولة"، "بها اليومين"، "ولا يهمّك"، أو "ما في إشكال"، "ما في مشكلة"، وصنوها الانكليزي الذي يشيع في أوساط الناشئة والمثقفين No problem، وأخيراً وليس آخراً don't worry. التعابير التخفيفية المنحى التي يحاول مستخدمها التقليل من شأن الموضوع المطروح متوسلاً أسلوب التعويض اللفظي جاهزة وهي تتراوح بين: "بسيطة"، "طوِّل بالك"، "شو ببّور"، "شو هالقصة الكبيرة"، "ما بتحرز"، "خيرها بغيرها"، "واحد وواحد بيعملو تنين"، "نصّ الألف خمسمية"، وأخيراً شاع تعبير انكليزي تم تعريبه بصيغة دارجة "شو هالبيغ ديل Big deal!". أسلوب السؤال وطلب الخدمة تتلون بعض تعابيره بتلوينات دينية: "اتكالي على الله وعليك"، "إن شاء الله بتضلك مقصد"، "الله مسخرك لخدمة الناس"، "قاصد الله وقاصدك". وتشي تعابيره الأخرى بالتشديد على القدرة الفائقة التي يتوقعها المرسل من المرسل اليه: "بسّ نشوف خبزاتك منجوع"، "ما الي غيرك"، "معودين عَ الفضل"، ويقابلها "إنت صاحب الفضل"، "ما في غيرك بيحلها"، "يخليلنا ياك مقصد"، "ما مننسالك ياها"، "إنت الكل بالكل"، الخ،... ويسعى السائل من خلال نبرة كلامه التي تتأرجح بين التوسل والتودد والتزلف الى وضع الأمور بين يدي الشخص صاحب النفوذ والحل والربط الذي يتوجه اليه موكلاً إياه حلّ مشكلاته المادية منها والمعنوية. وبدورها فصيغ التهرب والتأجيل وتسويغ المواقف وغض النظر متوافرة. بعضها يُستحضرُ من جملة التعابير الشعبية ذات التلوينات الدينية: "إتكل عَ الله"، "صلِّ عَ النبي"، "وَحِّد الله". وبعضها الآخر يعبر عن المزاجية الشعبية في هذه المقامات: "شو صاير عليك"، "العمر بيخلص والشغل ما بيخلص"، "يصطفلو"، "ما خصّنا"، "بلا وجعة راس"، "بعيد عن الشر وغنيله"، "الدنيا مع الواقف"، "الهريبة تلتين المراجل"، "لا عين تقشع ولا قلب يوجع"، "بدك تاكل عنب بما تقتل الناطور"، الخ... ولا نغفل في هذا السياق سيل الاجابات التلقائية التي تتوالى لدى السؤال عن مؤهلات وخبرات شخص يتقدم لطلب وظيفة ما، أو لدى الاستفهام عن المجالات التي يبرع فيها: "مسبّع الكارات"، "شو ما بتقللو بيعمل"، "فَهْلَوي" أو "فلهوي"، "أُرُهْماني" أو "مقطّع موصّل"، "قارح منيّب"، "بيبيّض الوجّ"، "ما في منّو"، "اسم الله عليه"، "بيشتغل كل شي"، "ما بينخاف عليه"، "بيعجبك"، "جربوا بتعرف"، الخ... أما تعابير إبداء الانزعاج والخيبة فمنها: "إنت لا للسيف ولا للضيف ولا لغدرات الزمان"، "ما بيشخّ عَ أصبع مجروح"، الخ... تعابير التحبّب والملاطفة شاعت في هذه السياقات التخاطبية العمومية لدرجة ان بعضها فقد حرارته ومضمونه الإبلاغي وأضحى مجرد محطات كلامية جوفاء: "يا عيوني"، "يا قمر"، "يا تقبرني"، "حبيبي"، "شرشور"، "عزيزنا"، الخ... ثمة صنف من هذه التعابير يمكن ادخاله في باب متنوع يضم في ثناياه ما يعود الى غير سياق من تلك السابق ذكرها: كأن نردد تعابير مثل: "حبيب قلبي" أو "يطوِّل عمرك" أو "بكرا اعتبرها منتهية" أو "خلص، الشغلة عنا" أو "خالصة" أو "ما تحمل هم" أو "إن شاء الله خير" أو "إذ الله راد" وسواها،... والتي قد تعني الوجوب ونقيضه في آن معاً. إذ يمكن فهمها على أساس أن طلب الخدمة أو الوعد بها متحقق لا محالة. كما يمكن في الوقت عينه اعتبارها رداً اجتماعياً يبطن تهرباً لائقاً من الحاح صاحب الحاجة ومحاولة مهذبة "لإقفال الموضوع" وإنهاء الحديث عند هذا الحد. مسك الختام في عرضنا لمروحة التعابير الشعبية يتمثل بتلك التي دخلت أخيراً في باب الأدبيات الانتخابية. إذ عمد مطلقو ومعدو الشعارات السياسية أرباب تسويق واعلان، مديرو الماكينات الانتخابية الى ترويج شعارات تجييشية وتعبوية بعضها يغرف من الفصحى، وبعضها الآخر من العامية وتجلياتها التعبيرية الشعبية. ولا تأتي هذه الشعارات - شكلاً ومضموناً وايقاعاً وتأثيراً - عفو الخاطر. بل ان القائمين بها يلجأون عادةً الى ابتداع وانتقاء ما سهل منها على اللفظ والسمع في آن معاً، فيلبسون لكل حالٍ لبوسها اللغوي الذي يقع في قلب وأذن المرسل اليه موقعاً حسناً. وبالطبع تختلف هذه الشعارات أو الرسائل اللغوية المكثفة وتتعدد وتتمايز وفق البيئات الثقافية الاجتماعية المرسل اليها التي يتوجه اليها المرسل المرشح مدغدغاً مشاعرها الكامنة وطالباً ودّها وثقتها وأصواتها متوسلاً الى ذلك لغتها وتعابيرها. ونتمثل على ذلك بجملة شعارات استقطابية مكتوبة ومذاعة ومنطوقة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "إبن البلد وأم الولد"، "لعيونك بتمون"، "الزير بالبير صوتك بيشيلو"، "ما بيصح الا الصحيح"، "يا جبل ما يهزك ريح"، الخ... والمثل الشعبي الأخير كان موضع استشهاد من جانب صحيفة Financial Times التي أوردته في عددها الصادر بتاريخ 18 آب 2000 نموذجاً على الشعارات السياسية التي ترددت أصداؤها خلال الانتخابات When the wind blows, the mountain remains. هذه الشعارات - الموسمي منها أو الثابت - المنسولة من الثروة اللفظية التي ألف تداولها جمهور اللبنانيين عموماً والبيارتة خصوصاً يمكن التمثل بها على وجه من وجوه التوظيف اللغوي الاحتفالي لمسكوكاتنا اللغوية الشعبية. إن ما أوردناه هنا على سبيل المثال لا الحصر يشكل غيضاً من فيض الكم التعبيري الشفهي الذي يتم تداوله لدى العامة، مثلما لدى النخب، في سياقات معينة، في تعاطيها اليومي، تواصلاً مع المحيط، تسهيلاً للمصالح، وتفريجاً عن الدواخل وصولاً الى التماس الأعذار والتهرب من الحسم أو اتخاذ المواقف... أما والحال هذه، فنتساءل: لماذا تترسخ هذه التعابير والتجليات "الزئبقية" والشعبوانية، يوماً بعد يوم، في صلب خطابنا اليومي وتمسي بذلك من جملة أسسه؟ هل من المألوف ان نستعيدها عشوائياً، ونلونها ونوظفها، وفق أهوائنا - لا وفق المقام اللغوي - في ثقافتنا الكلامية؟ ما مدى انتظامها في سلوكنا الاجتماعي والثقافي والمهني المتطور على الدوام؟ ما هو امكان تلاؤمها مع منطلقات ومعالم خطاب عملي ومعاصر نحن أحوج ما نكون اليه في مطلع ألفيتنا الثالثة؟ لا يغيب عن البال ختاماً ان هذه المرويات والسوائر الكلامية، التي عرضنا نماذج مؤشرة عنها، هي فرع على أصل هو المزاج الشعبي العام. انها نتاج فضائنا الثقافي الاجتماعي في مناخاته الشعبية الرحبة. ومن باب أولى القول انها وعلى رغم شيوعها وابتذالها، لا تدخل في باب "سقط المتاع" اللغوي. بيد ان الاسراف في استخدامها وتجاوز حد الابلاغ اللغوي الى الثرثرة الكلامية المجانية يسيئان الى وظيفتها التعبيرية. اننا مطالبون اليوم، أكثر من ذي قبل، ونحن نعيش عصر الانتفاح الاعلامي والمعلوماتي، في أبلغ وجوهه وأكثرها تأثيراً وانتشاراً، بتشذيب خطابنا اليومي، قدر الامكان وبعقلية نقدية، من هذا الكم الكلامي الفائض الذي يطلق احياناً كثيرة على عواهنه، وبعشوائية تعبيرية ويسمى بذلك "حكي بحكي" أو "كلام ما عليه جمرك". فلا هو يبلّغ، ولا هو ينقل ملامح من التجربة الانسانية: بل هو في رأينا يعوق آليات وأهداف الاتصال السليم. وفي عصر تسارع التقنيات ووسائل الاتصال ونزوعها نحو اعتماد معايير الدقة والايجاز والمباشرة، نحن احوج ما نكون الى ترشيد ثقافتنا الكلامية الفضفاضة في بعض جوانبها التعبيرية، وعقلنة اشكال وأساليب اتصالنا، وتصويب استخدام مفرداتنا، والتدقيق أكثر فأكثر في تعابيرنا اللغوية، وصولاً الى الحد من اسهاباتنا الانشائية. ان الاعتدال في اعتماد سلوك لغوي مثيل من شأنه استنهاض لساننا العربي. * باحث لغوي لبناني. عضو الجمعية الدولية للألسنية الوظيفية SILF.