لم يحدث ان كانت صورة التسوية على المسار الفلسطيني واضحة كما تبدو عليه الآن، خصوصاً بعدما بدى ان باراك وأصحابه في الخارجية الاميركية قد قرروا تعويض كلينتون عن فشله على المسار السوري والصفعة التي تلقاها في جنيف، بإنجاز شيء على المسار الفلسطيني يكون أقرب الى الاتفاق النهائي. الاتفاق الجديد سيعتمد بصورة جوهرية على بيع التأييد الاميركي - الاسرائيلي لإعلان الدولة الفلسطينية، التي هي هاجس أوسلو منذ ان كان جنيناً في عقل قادة فتح منذ عقود... بيعه بالتنازل عن السيادة والقدس واللاجئين وما بين 30 - 40 في المئة من مساحة الضفة الغربية اذا اخذنا في الاعتبار مساحة القدسالشرقية. بالطبع، سيكون ثمة "مقبلات" اقتصادية ومشاريع دعم كثيرة لإنجاز الاتفاق المذكور، وذلك لإغراق السلطة في بحر التنمية والرفاه - أو قادتها على الاقل - بدل غرقها في الجدل حول المسائل الشائكة المذكورة، دون ان يعني ذلك توقفها عن المطالبة بحقوقها المسلوبة في الضفة والقدس وعودة اللاجئين، حيث لن ينص الاتفاق على منع ذلك!! في هذه السطور محاولة لاستقراء شكل الاتفاق المقبل وما يمنحه للفلسطينيين، وتالياً التفاصيل المتوقعة لذلك الاتفاق: الأرض وجغرافيتها فيما يتعلق بقطاع غزة فقد حصل الفلسطينيون على معظم الأراضي باستثناء بعض المستوطنات التي يمكن الحديث في شأن بعضها، أما في الضفة الغربية فيتركز الحديث حول نسب هي في الغالب لا تشمل منطقة القدس الكبرى التي تشكل حالياً حوالى 20 في المئة من الضفة. حسب خطة الوزير حاييم رامون فإن بالإمكان ضم حوالى 10 في المئة لاسرائيل في ثلاث كتل استيطانية كبيرة، فيما 20 في المئة هي مناطق غور الأردن يعترف المحلل الاسرائيلي المعروف زئيف شيف بأن منطقة الغور المقترحة للضم تساوي 37 في المئة من أراضي الضفة، وتظل مناطق مشتركة تترك للتفاوض لاحقاً في فترة قد تمتد لعشر سنوات، ويكون للفلسطينيين سيطرة على حوالى 70 في المئة من المناطق عدا القدس. اما شيمون بيريز فيرى تحويل 80 في المئة من الضفة للفلسطينيين وإبقاء 20 في المئة تحت السيطرة الاسرائيلية، وهو ما يميل اليه باراك. سيكون هناك نوع من التواصل الجغرافي بين مناطق الضفة من خلال نزع بعض المستوطنات الصغيرة، التي قد يختار بعض سكانها البقاء فيها حيث سيحصلون على وضع خاص. سيربط بين قطاع غزة والضفة جسر علوي أو مجموعة جسور، وسيكون هناك جدار فاصل على طول الحدود، وعليه 15 - 18 معبر حدودياً، وجداراً شائكاً مثل ذلك القائم بين اسرائيل وقطاع غزة. أي ان السيطرة على المعابر ستكون للاسرائيليين ولهم صلاحية تحديد الداخل والخارج اليها ومنها. القدس وما حولها ستبقى مدينة القدس موحدة تحت السيادة الاسرائيلية، وسيكون هناك توافق على التعامل مع الاماكن المقدسة في اطار صيغة الفاتيكان كما نصت وثيقة بيلين/ أبو مازن، حيث سيرفع علم فلسطين على الأماكن المقدسة وتشرف عليها السلطة، مع بقائها تحت السيطرة الأمنية الاسرائيلية، وسيكون هناك نوع من الحرية في الوصول اليها. ستنقل مناطق أبو ديس والعيزرية والسواحرة الى السلطة ضمن سيطرة من نوع أ وقد ينطوي الأمر على تواجد أمني اسرائيلي لخمس أو عشر سنوات، غير ان عرفات سيتمكن من وضع مكتبه في أبو ديس. وبالمقابل ستضم مجموعة من المستوطنات المحيطة بالقدس اليها، وبذلك يتخلص باراك من ادارة خمسين ألف فلسطيني، فيما يضم المستوطنات المذكورة ويقوم بتوسيعها كأمر واقع. على الجانب الآخر، سيكون بمقدور السلطة ان تعلق ان لها حق في القدسالشرقية، ولن تطالب بالكف عن ذلك، كما هو شأن ما تبقى من الأراضي المحتلة. فهي اذن دولة لها أراض محتلة، كما هو شأن سورية!! منزوعة السلاح حسب زئىف شيف الخبير العسكري في صحيفة "هآرتس"، ومجمل التصريحات الرسمية للجنرال باراك ووزرائه فإن الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح، ويحظر عليها اقامة معاهدات عسكرية باستثناء الاتفاق الأمني مع اسرائيل أو مع الأردن واسرائيل في اطار نظام أمني اقليمي. حسب شيف ستكون الدولة الفلسطينية من دون سلاح جو، وستملك طائرات لأغراض تجارية، وسيكون لديها مروحيات بوليسية غير مزودة بالسلاح، وستخضع الحركة الجوية للرقابة الاقليمية الاسرائيلية، حيث ستواصل طائرات سلاح الجو الاسرائيلي طلعاتها التدريبية على ارتفاعات ملائمة فوق الضفة. من جانب آخر، سيكون هناك تواجد عسكري اسرائيلي محدود في مناطق الضفة وسترابط قوة عسكرية في منطقة غور الأردن. اللاجئون "في كل الاحوال لن يعود اللاجئون الى اسرائيل"! هذا ما قاله باراك مراراً، غير انه فتح الباب أمام عودة خمسين ألفاً في اطار جمع شمل العائلات خلال عشر سنوات الى مناطق السلطة وبشكل خاضع للرقابة. أما اللاجئون فسيجري العمل على توطينهم في أماكن تواجدهم، وترحيل بعضهم الى أماكن اخرى وفق خطة دولية تشرف عليها الولاياتالمتحدة، وحسب خطة بيلين - أبو مازن، ستلغى مؤسسة الأونروا وستستبدل بهيئة جديدة لاستيعاب النازحين وتوطين اللاجئين. وفيما يتعلق بالعويضات، فإن "اسرائيل" ربما ربحت من هذه العملية التي ستمول دولياً ايضاً. المياه ستوضع في المعاهدة المقبلة شروط واضحة في شأن ملف المياه، أكثر حساسية بالنسبة للطرف الاسرائيلي، الذي يعترف بأن 60 في المئة من مصادر المياه الاسرائيلية تؤخذ من حوض الضفة الغربية والاحواض المتصلة بها. حسب "هآرتس" فإن "إحدى وسائل الحفاظ على وسائل المياه هي تعديل الحدود في القطاع الساحلي". وتشير الى ان "خبراء المياه يقولون ان المنطقة التي يتوجب الحرص على ان لا يتم الحفر فيها من دون اذن، موجودة على مساحة 2 - 6 كيلومتر شرقي الخط الاخضر"، وهو ما يعني ان الاسرائيليين قد يصرون على إبقاء السيطرة عليها. العلاقة الاقتصادية وارتباطات "الدولة" يتحدث الاسرائيليون عن فصل جزئي بين الكيان الفلسطيني واسرائيل، حيث سيكون هناك "منطقة تجارة حرة" بينهما، فيما سيتواصل تشغيل العمال الفلسطينيين في اسرائيل، وسيدخلون عبر المعابر ببطاقات ممغنطة، كما يدخلون من دولة لأخرى، ومن المؤكد ان التداخل الاقتصادي سيبقى بقرة حلوباً بالنسبة للاسرائيليين، خصوصاً اذا تدفقت المساعدات على الكيان الفلسطيني، كما ان هذه المسألة ستحدد بصورة أوضح بعد التوصل الى شكل العلاقات الاقليمية للكيان الجديد". على صعيد مستقبل الارتباط بين الكيان الفلسطيني، أو الدولة الفلسطينية، ما زالت صيغة الاتحاد الكونفيديرالي مع الأردن هي "الحل المفضل" لدى باراك كما أشار مراراً، ويدخل في ذات الاطار، ما يسمى "البنيلوكس" الاقتصادي، والنظام الأمني الثلاثي الذي يركز عليه الاسرائيليون، وهذا الاحتمال هو الأكثر ترجيحاً حتى الآن، بصرف النظر عن الوقت الذي ستستغرقه ترتيباته، خصوصاً وانه سيخضع لعملية شد وجذب بين الاطراف الثلاثة، وبالذات الطرفين الأردنيوالفلسطيني. وعلى أية حال، فلن يكون الاسرائيليون على عجلة من أمرهم حيال هذا الملف، نظراً لسيطرتهم على المعابر والحدود، وتواجدهم الأمني في منطقة الغور، وعلاقتهم الخاصة مع الأردن. مآل التسوية المذكورة في قراءة هذه التسوية المطروحة، يمكن القول انها من النوع الذي لا يؤسس للهدوء في المنطقة، بقدر ما يؤسس للمزيد من العنف، ذلك ان عدم قناعة أكثر من نصف الشارع الفلسطيني بما جرى وأوضاع الدولة القادمة وضعها القائم مؤشر عليه، ثم بدء الاحتكاك الاسرائيلي بمحيط أوسع من الشارع العربي الماثل في أكثر مواقعه الى مزيد من الفقر والتراجع الاقتصادي، وبقاء ملف اللاجئين دون حل مقنع، الى جانب عدم وجود قناعة لدى الجماهير بالتسوية من أصلها. فضلاًَ عن كونها تبقي القدس محتلة... كل ذلك سيعني بقاء التربة خصبة لمزيد من العنف. واذا كانت الساحة العربية والاسلامية تختزن قدراً من الحقد على الاميركان لدعمهم الدولة العبرية، فإن الاحتكاك المباشر بالطرف الثاني سيكون مدعاة لعنف اكبر.ثم ان الصراعات التالية على المستوى الاقليمي مع برنامج التمدد الاسرائيلي ستؤسس لحال رسمية ضد المشروع الاسرائيلي، تضفي مزيداً من الشرعية على الرفض الشعبي له، وان واصلت محاربتها لاعتبارات معروفة. تلك هي مسيرة أوسلو... وهذا هو حصادها المر، بيد ان مشكلة الاسرائيليين الأوضح مع هذه الأمة ربما تكون قد بدأت ولم تنته أو تتراجع كما يتوهمون. * كاتب أردني