كرم الله الإنسان على سائر مخلوقاته بالعقل الذي كفل لهذا المخلوق حرية الاختيار، فجاء في كثير من الآيات الكريمة أفلا تذكرون أفلا تعقلون أفلا تفكرون وغيرها الكثير من المواضع التي تشير الى نعمة العقل. وفي سياق الحديث عن العقل ومكانته في تقدم الشعوب، كان لا بد من العودة الى الأصول الأولى في تكوين العقل العربي، لنتمكن من معرفة دور العقل في الابداع. ولهذا تعرض عبدالرحمن الطريري في كتابه "العقل العربي وإعادة التشكيل" الى مكونات العقل العربي في مرحلة ما قبل الاسلام. يفرق بعض العلماء والفلاسفة بين نوعين من العقل، الأول العقل الفاعل أو المكوّن، ويعني به النشاط الذهني، الذي يمارسه الانسان. أما النوع الثاني، العقل السائد، وهو يعني مجموعة القواعد والمبادئ، التي تقدمها الثقافة للمنتمين اليها، باعتبارها أساساً لاكتساب المعرفة. وعند الحديث عن العقل العربي في الجاهلية الأولى، لا يمكن فصل الانسان العربي عن واقع بيئة الجزيرة العربية قبل الاسلام، المحيط بالانسان العربي. أما الواقع العقائدي، فذكره القرآن في سياق الحديث عن حال العرب العقائدي قبل الاسلام، بعبادة الأصنام والأوثان "ما تعبدونَ من دُونهِ إلاَّ أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكُمْ" سورة يوسف، الآية 40. "قالوا نَعْبُدُ أصْنَاماً فَنَظَلُّ لها عَاكفين" سورة الشعراء، الآية 71، وإذا كان عرب الجاهلية يبررون عبادتهم للأصنام والأوثان من أجل تقريبهم من الله، "... ما نَعْبُدهم إلاَّ لِيُقَربونَا الى اللهِ زُلْفى" سورة الزمر، الآية 3. أثر الانحراف العقائدي على سلوك عرب الجاهلية وتصرفاتهم ونظرتهم للحياة. ولهذا انتمى العربي في تلك الحقبة للقبيلة والعشيرة، ومن هذا الانتماء القبلي، تشكل الانتماء المحدود في حدود عقل القبيلة النشوة والافتخار. ولشيخ القبيلة، نفوذ كبير وسطوة في نفوس الأفراد، كما ان علاقة الفرد بالآخرين تتم من خلال قبيلته. وتلعب الطبيعة وندرة المصادر الحياتية، وقساوة المناخ، عناصر مهمة في تشكيل عقلية الانسان العربي، "فلكل امرئ من دهره ما تعودا"، فمن اعتاد القساوة والخشونة، قادر على مواجهة الظروف من هذا النوع. وتوجد علاقة أيضاً بين الانسان العربي، من ناحية التكوين العقلي، وبين لغته فهي لغة تدلل من خلال كلماته وحيوية عباراتها وإيقاع صوتها التعريف بمن هو "العربي". فتجسدت حيوية اللغة العربية، قبل الاسلام، في نتاج الانسان العربي الفكري، في الشعر، والأدب، والقصص، والأمثال. فوجدت بعض المراكز والمنتديات الثقافية، كما في سوق عكاظ، والمجنة، والمربد، حيث يلتقي الشعراء، ويتحاورون ويتداولون الشعر. فالواقع الذي عاشه الانسان العربي، في تلك الفترة، كان له دور بارز في تشكيل عقل الفرد، بصورة متناسبة طردياً مع مقومات ذلك الواقع. ومن أهم صفات العقل العربي وملامحه السياسية في تلك الفترة عقلية التشرذم، والفرقة السائدة. فكانت كل قبيلة وعشيرة تفرض سيادتها على أرضها، وأفرادها. وإذا حدث ووجد فكر وحدوي انحصر في دائرة ضيقة جداً. ومن خلال هذا الانتماء المحدود، نشبت الحروب على أبسط الأمور، وسفكت الدماء، وتكرست عقلية التشرذم والتفكك. ومن هذا الواقع استمد الانسان العربي بعض الشمائل والخصائص، الحسنة والسيئة منها، فوجدت خصال جيدة، مثل الكرم، الشجاعة، روح الفداء، الإقدام، النخوة، حماية الجار، الغيرة على المحارم، الصبر، وتجشم الصعوبات إضافة الى خصال سيئة، كالصراع، والتنافس، وضيق الأفق، والانعزال الى حدود القبيلة والعشيرة. ويمكن القول ان المنظومة المعرفية والثقافية المتوافرة للانسان العربي، آنذاك، كانت في حدود البيئة والمجتمع والقبيلة، اضافة الى ندرة الموارد وتفشي الأمية، وسيادة التعبير الشفهي، وافتقاد التدوين، وكل هذه العناصر مجتمعة، أوجدت قواعد ومبادئ التفكيك على المستوى العقلي، الذي لم يكن له ليبدع خارج اطار الشعر، والقصص، والأمثال. اضافة الى سجايا السلوك العام. وصف الجاحظ العقل العربي بقوله: "وكل شيء عند العرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر، ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف، وهمه الى الكلام والى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه الى جملة المذهب، والى العمود، الذي يقصد، فتأتيه المعاني ارسالاً وتنثال الألفاظ انتثالاً. وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، لم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف، ولا قصد، ولا تحفظ، ولا طلب". إن "العقل العربي" قبل الاسلام عاش مفتقداً الأسس التي تكسبه قوة البناء، والمثيرات التي تحدث فيه الإثارة الضرورية، والخبرة التي تصقله، وتجعله في مستوى التحديات المحيطة به. ولم يكن "العقل العربي" بذلك العمق، ولا بذلك التعقيد، بل كان أقرب ما يكون الى البساطة، وهذا الوصف يجب ألا يلغي وينسخ بعض الخصائص، التي أقرها الاسلام واستبقاها كجزء من النظام الجديد، الذي شكل الوعاء الايديولوجي الموجه للحضارة العربية في مرحلة لاحقة حين أقامت كياناً سياسياً موحداً، وبيئة اجتماعية متجانسة، ومنظومة اقتصادية فيها عدل وتكافل، كما حرر الإسلام العرب من الجهل ودعاهم الى التفكير المنتج، فأسسوا دولة كبرى وأشاعوا حضارة أنارت الدنيا.