الكتاب: مارتين هايدجر: بين الخير والشر المؤلف: روديغر زافرانسكي الناشر: مطبعة جامعة هارفرد - 1998. هناك روايتان رئيسيتان تدوران حول الفيلسوف الألماني الوجودي مارتين هايدجر: العبقري والوحش. بالنسبة الى الرواية الأولى، ليس هناك من شك في ان هايدجر يعتبر الشخصية المركزية في الفكر الوجودي المعاصر وواحداً من اعمق فلاسفة القرن العشرين. ويفرد له ادموند هوسرل، وهو احد قادة الفلاسفة في مطلع هذا القرن، منزلة خاصة في السنة الاخيرة من الحرب العالمية الأولى ويعتبره ولي عهده بلا منازع. في العشرينات كان هايدجر يمثل الأب الروحي لكثير من فلاسفة الجيل الذي اتى بعده امثال ماركوز وكادمر وهوركهايمر، بيد ان تأثيره الاكبر كان بشكل خاص في الحياة الثقافية في فرنسا. وكان كتابه الفريد "الوجود والزمن" احدث تأثيراً كبيراً في جان بول سارتر، وشكلت افكاره ومفاهيمه عن الوجود بداية انطلاق مجمل الحركة الوجودية. ويعد هذا المؤلف من اهم المؤلفات الفلسفية ونشر العام 1927 وهو العام الذي ظهر فيه كتاب هتلر "كفاحي". وكان لهذا التزامن دلالة ومغزى مع ان فلسفة هايدجر فلسفة تجريدية واضحة، كتبت بلغة ملغزة وشائكة، ليس من السهولة تفسيرها وتحليلها كما هي الحال مع كتاب "كفاحي". ثم هناك الرواية التي تعتبر هايدجر "وحشاً" وذلك بسبب وقوفه الى جانب النازية بنشاط في الثلاثينات، اذ من المعروف ان هايدجر، بطريقة خاصة ما، كان نصيراً للنازية منذ نشأتها، وفي الثلاثينات اعلن عن رأيه هذا بشكل صريح وعلني وعبّر عن تأييده لسياسة هتلر. غير ان هايدجر من جانب آخر لم يكن نازياً بمعنى التبني السياسي، بل كان يعتقد بأن فلسفته ستكون المعادل الروحي لقيادة هتلر. ففي العام 1933 عيّن رئيساً لجامعة فرايبورغ، وهو منصب كان هايدجر يطمح في ان يساعده في وضع مفاهيمه السياسية والاجتماعية موضع التنفيذ. بعد ذلك اصبح احد الدعاة الرئيسيين المروجين للفكر النازي داخل الجامعات الألمانية، مشجعاً الطلبة على المساهمة في التدريبات العسكرية وإداء التحية له شخصياً كما لو انه القائد. ويبدو ان هذا السلوك كان يمثل مظهراً لميثولوجيا الذات التي كان ينزع اليها. وكان احد تلامذة هايدجر المخلصين قد علق على تورطه مع النازية بقوله انه قد يُعزى في جزء منه الى عبقرية مخادعة وفي جزء آخر الى حالة من حالات اليأس التي تقود الى التهور. وكان من الطبيعي ان تؤثر معتقدات هايدجر السياسية هذه كثيراً في علاقاته الشخصية والثقافية. فباسم الرايخ وجه انظار الغستابو الى الاساتذة غير الألمان في الجامعة، مشوهاً سمعتهم وناعتاً اياهم بالاشخاص "غير الموثوق بهم سياسياً". لكن هايدجر سرعان ما اصبح واعياً لحماسه هذا، مدركاً ان عليه تجاوزه. وهكذا ترك الحزب النازي بعد تسعة اشهر، ثم استقال مبكراً من رئاسة الجامعة العام 1934. ففي الوقت الذي بلغت الحرب ذروتها اخذت فلسفته تتجه اكثر وأكثر نحو الانطوائية، مركزاً اهتمامه على فترة ما قبل سقراط فيما المانيا كانت تشتعل في لهيب الحرب. ان الرواية التي تقول ان اغلب المعجبين بفكر هايدجر بعد الحرب كانوا من اليهود امثال حنا ارندت وباول سيلان، ومن الاجنحة اليسارية امثال سارتز وماركوز او من قادة المقاومة مثل الشاعر رينيه شار تقود الى معرفة مدى حجم الارتباك الذي حصل في تحول هايدجر السريع عن النازية العام 1933. لقد استطاع اصدقاؤه في تلك الفترة ان يستوعبوا كل ذلك باعتباره واحداً من ابرز المفكرين في العصر الحديث، ولم يكن باستطاعتهم اصدار حكم اخلاقي ضده. ويبدو ان هايدجر كان يقترب الى قمة تصفية الحساب مع نفسه حينما اعترف بعد الحرب وقال: "لقد افسدني نيتشه!". في الواقع، يصعب على المرء استيعاب هايدجر من دون الاحاطة بالمزيج المعقد لخارطة الفكر الأوروبي، اضافة الى الاخذ بنظر الاعتبار شخصيات فلسفية وأدبية مرموقة امثال: كيركغارد، سارتر، كامو، ماركس، فرويد وفيتغنشتاين. وعلى هذا الأساس فان هايدجر لم يكن يشكل استثناء غريباً، وانما هو مفكر امدّ الطاقات الفلسفية بجيل يتوق الى الثورة الروحية التي بامكانها دعم التاريخ في سبيل النهوض من جديد. بعضهم رأى ان مثل هذا الحلم يمكن ان يتحقق في ستالين وآخر في موسيلليني وماوتسي تونغ. اما هايدجر فقد رأى - على الأقل لفترة قصيرة من الوقت - ذلك الحلم في هتلر حينما لاحظ الجموع تثمل وهي تتأمله يرتقي سلم السلطة. كذلك كان يرى نفسه خلال فترة ترؤسه لجامعة فرايبورغ كوريث ثقافي لتفجير الثورة الاشتراكية القومية. كان يعني بنفسه لألمانيا الجديدة ما كان يعنيه هيغل بالنسبة الى دولة بروسيا وأفلاطون الى مدينته الفاضلة وماركس الى دولته الشيوعية. بعد الحرب، اي بعد العام 1945، قبلت لجنة مكافحة النازية التي نظرت في قضية هايدجر بعض حججه في الدفاع عن نفسه. وخلال الخمسينات أعيد اليه بعض اعتباره، وفي الستينات بدأت تظهر للعيان وثائق جديدة تتعلق بحياته نشرت عبر وسائل الاعلام الألمانية، خصوصاً خلال السنوات الاخيرة في حياته. ثم اخذت الصحافة تلوح من جديد بوثائق اخرى جديدة تمس الجانب السياسي من حياته الا انه استطاع ان يمسك بالغطاء فوقها اثناء حياته. ثم انفجر الغطاء خلال الثمانينات حينما نشر فيلسوف تشيلي يدعى فكتور فارياس، كان ينتمي الى حلقة هايدجر الدراسية الخاصة في العام 1967 كتاب "هايدجر النازي" مورداً روايات مسيئة الى هايدجر تتعلق بارتباطه مع الحزب النازي. بعد ذلك نشر الألماني هوغو اوت، وهو استاذ للاقتصاد وتاريخ الاجتماع في جامعة فرايبورغ كتابه "الحياة السياسية لمارتين هايدجر" الذي لم يكن اقل اساءة الى هايدجر من كتاب فارياس الا انه كان يتضمن شواهد اكثر حول حماس هايدجر لقضية النازية خلال عامي 1933 - 1934 حينما كان يتولى رئاسة جامعة فرايبورغ. في كتابه هذا، يؤكد اوت على ان تبني هايدجر للاشتراكية القومية لم يكن تبنياً عفوياً ولم يكن ايضاً بعيداً عن فلسفته بل هو راسخ وعميق لأن هايدجر نفسه يقول ان فلسفته تعتبر الأب الروحي لهذه الحركة. ومن هنا فان على قرّاء اعمال هايدجر ان يعترفوا بأن فكره كان ملتصقاً بشكل لا فكاك منه برؤى عالم رجعي يتلاءم ورؤى النازية في جوانب عدة. غير ان من المؤكد ان فكر هايدجر اكثر دقة ورسوخاً مما يمكن وصفه على انه تمرين في الفكر التبريري النازي. لقد اعتبر كتاب فارياس كتاباً استفزازياً، اما كتاب هوغو اوت فقد نظر اليه اصحاب هايدجر باعتباره خيانة اكاديمية ويفتقد الى الدقة والامانة ويطالبون - وهم ليسوا قلة - باعادة كتابة كلي الكتابين لما أثارا من الجدل والنقاش حول مصداقية ما جاء فيهما حول حياة هايدجر وابتعادهما كثيراً عن الجانب المهم والجوهري فيها الا وهو الجانب الفلسفي وتطوره في ما بعد. ويبدو ان الوقت قد حان الآن للتشخيص الاكثر موضوعية والتقييم الحيادي الذي يتعامل مع هايدجر ليس فقط باعتباره كان نصيراً للنازية وانما كفيلسوف معاً، وهذا ما تم على يد المؤلف روديغر زافرانسكي في كتابه الجديد "هايدجر: بين الخير والشر". يتضح في قراءة كتاب روديغر انه اطلع على الكثير من المسائل المتعلقة بحياة هايدجر وصنف العديد من الوثائق والشهادات التي تخصه، كما استفاد من كتابي فارياس واوت وجاء بوثائق اخرى مغايرة لهما ومقارناً في ما بينهما. لقد عاد بالفيلسوف الى سنوات تدريسه في جامعة فرايبورغ وعلاقته مع طالبته حنا ارندت ايام الحرب، مستعيناً في عرض هذا الموضوع بالرواية التي نشرت في اميركا قبل ثلاث سنوات. ان الخط العام الذي تسير فيه هذه الببلوغرافيا الجديدة يغور عميقاً في جوف مثل هذه المواضيع الخاصة لكي يمازج ما بين الفلسفة وحياة الفيلسوف. ففي ابواب عدة تشحّ بالحماس والطاقة يحاول زافرانسكي ان يوضح للقارئ مدى الحيوية التي كان يتمتع بها المنهج الفلسفي لهايدجر آنذاك والاسباب التي جعلت من بعض عناصر فلسفته قيّمة ذات صفة استمرارية. كما وانه احال تيار هايدجر الفكري الى الظواهر الثقافية الاخرى التي كانت سائدة في تلك الحقبة الزمنية مثل حركة الردة الايديولوجية ضد ديموقراطية فايمار في المانيا ثم المقارنة بين فلسفة "الوجود" لدى هايدجر وجماليات الحركة الدادائية. ان ببلوغرافيا زافرانسكي تتسم بكثير من الحيوية والنشاط الفكري، وقد أضاءت الكثير من الجوانب الخفية في حياة هايدجر الفلسفية والشخصية. وهي الى جانب كل هذا تمثل شهادة قيّمة، مدعّمة بالوثائق والتحليلات العلمية عن افكار الرجل "الوجودية" بأسلوب علمي ومنهجي حديث. انها باعتراف غالبية النقاد الغربيين ببلوغرافيا عملاقة تتحدث عن شخص مفكر عملاق.