خلال الاحتفال الأخير بذكرى الثورة الفرنسية، في عهد الرئيس جاك شيراك، انتقل التعايش بين الرئيس الديغولي ورئيس حكومته الاشتراكي ليونيل جوسبان، من حالة اللباقة الى حالة أكثر طبيعية. شيراك فتح النار، وللمرة الأولى منذ أربع سنوات، على سياسة الحكومة الاشتراكية على صعيد الاقتصاد والأمن والبطالة، فحكم عليها علناً بالفشل. وحدد بوضوح وجهته الخاصة، الليبرالية اليمينية، بعدما انتقد تدخل الحكومة في شؤون الشركات والمؤسسات. وتعيش فرنسا منذ حوالى اسبوعين على وقع الحملات والحملات المضادة، بدءاً بالحملة الإعلامية على الماضي التروتسكي لجوسبان، ثم الحملة على شيراك لأنه قد يكون استخدم أموال الدولة لتسديد ثمن بطاقات سفر استخدمها أثناء توليه رئاسة بلدية باريس. وكان جوسبان واجه الحملة حول ماضيه بقوله أمام مجلس النواب ان التكتم على هذا الماضي التروتسكي أمام الصحافة أقل سوءاً من التكتم أمام القضاء، في اشارة الى رفض شيراك توضيح قضية بطاقات السفر أمام القضاة. وتوج ذلك باستجواب ابنة شيراك، في هذا الاطار، مما حمل الرئيس الفرنسي على فتح جبهة حملة انتخابات الرئاسة، التي سيتنافس فيها مع جوسبان في الربيع المقبل. وتشكل هذه الأجواء ظاهرة طبيعية في بلد ديموقراطي اختار التعايش بين حزبين أساسيين، الاشتراكي والديغولي، وبين برنامجين وتوجهين مختلفين. والشعب الفرنسي هو الذي سيختار ويكون الحكم بين الاثنين، في الانتخابات المقبلة، على غرار ما فعله في الانتخابات التشريعية سنة 1997 وبعد سنتين من تولي شيراك للرئاسة، إذ فاز الحزب الاشتراكي بالغالبية الساحقة. إلا أن التعايش الذي اتسم على مدى السنوات الأربع الماضية بمظهر هادئ، أثار بعض الأسئلة على الصعيد الدولي. صحيح ان للرئيس الفرنسي مسؤولية أساسية يتولاها في مجال السياسة الخارجية، لكن التوتر المستجد على صعيد التعايش والذي سيسود خلال الأشهر التسعة المقبلة التي تفصل عن انتخابات الرئاسة، قد ينعكس على وحدة الصوت الفرنسي على صعيد السياسة الخارجية، على رغم تأكيدات شيراك وجوسبان بأن فرنسا مستمرة بالتحدث بصوت واحد. ولكن هناك بعض الملفات التي قد يختلف فيها الرئيس من حيث النهج مع رئيس الحكومة، ومنها مثلاً مسألة لبنان ودعم ومساعدة رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري. وهناك قضايا أخرى تهم المنطقة قد تدخل في معطيات التعايش الفرنسي خصوصاً ان لكل من شيراك وجوسبان، أسلوباً مختلفاً في العلاقات الدولية. وكان وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين خبر سابقاً تجربة التعايش، وتميز حتى الآن بممارسته ديبلوماسية متوازنة وماهرة وحنكة كبيرة بين رئيس حكومة يتوجب عليه الولاء له، ورئيس جمهورية يقدر مهارته. والسؤال اليوم: هل في إمكان فيدرين الحفاظ على مثل هذا التوازن، بين رأسي السلطة الفرنسية، ام ان الأمور ستصبح أكثر صعوبة بالنسبة اليه على الصعيد الدولي؟ وكان نقل عن فيدرين قوله يوماً ان ما من شيء يبدو له صعباً، بعد تجربته مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، فهذه التجربة كانت أفضل مدرسة له. ولا شك ان فيدرين سيكون بحاجة لاستحضار هذه التجربة خلال الأشهر المقبلة التي تفصل فرنسا عن موعد انتخابات الرئاسة.