سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الحياة" تستطلع مع فدرين وفريق عمله التوجهات الرئيسية للسياسة الخارجية الفرنسية . ابتعاد عن العراق وتقرب من الخليج وايران تعلق بالمغرب وتهدئة مع الجزائر ملاحظة "العبء السوري" في لبنان محاولة تفسير ازمة كوسوفو ودور باريس
بعد حوالى 21 شهراً على تشكيل الحكومة الفرنسية برئاسة الإشتراكي ليونيل جوسبان وتعايشها مع الرئيس الديغولي جاك شيراك، قامت "الحياة" بجولة في أروقة وزارة الخارجية الفرنسية وأجرت لقاءات عدة مع مسؤولين عن إداراتها، مستطلعة خطوط سياساتها واستراتيجيتها في ملفات كثيرة، من إيران إلى كوسوفو مروراً بالعراق ودول الخليج ولبنان وسورية والمغرب والجزائر... فدور فرنسا قوة كبيرة في العالم. وهل استطاع وزير الخارجية هوبير فيدرين أن يضفي طابعه الشخصي على هذه السياسات أم كان منفذّاً لما يرسمه رئيس الجمهورية؟ ثمة إجماع على أن جوسبان يدرك أن اختياره هوبير فيدرين وزيراً للخارجية كان صائباً، فالرجل تولى مناصب مختلفة في عهدي الرئيس الاشتراكي الراحل فرنسوا ميتران، طوال 14 عاماً، فكان مستشاره الدبلوماسي ثم الأمين العام للرئاسة وتمكّن من ادارة الشؤون الرئاسية في ظل حكومات متتالية كانت بينها حكومتا تعايش، الأولى رأسها شيراك عام 1986 والثانية ادوار بالادور الديغولي الآخر من حزب التجمع من أجل الجمهورية عام 1993. وكان طوال هذه الفترة بعيداً عن الفئويةوحافظ على علاقات جيدة مع الطبقة السياسية... لذلك من الطبيعي أن يكون قادراً على أدارة الخارجية في ظروف التعايش التي بدأت في أيارمايو 1997. وعندما سألت "الحياة" فيدرين هل تواجه مهمته صعوبات في ظل التعايش، أجاب ان خبرته لمدة 14 سنة الى جانب ميتران كانت مدرسة طويلة وأساسية علّمته أن لا شيء صعباً، بل يرى أن التعايش القائم حالياً يعيد إلى الخارجية نوعاً من السلطة الذاتية التي تتيح له مجالاً أوسع للتحرّك بناء على خطّه الديبلوماسي. ويلاحظ أن وزير الخارجية في الجمهورية الخامسة تابع لرئيس الجمهورية، وهذا أمر طبيعي، فهو ينفّذ توجيهات الرئيس وسياسته، "وهذا نظام لا بأس به"... لكن الأمر يختلف في ظل التعايش الحالي، لأن الرئيس لم يعيّن الوزير بل اكتفى بالموافقة على تعيينه، مما يخلق وضعاً يمكّن الوزير - اذا أراد - من إيجاد نوع من الاستقلال الذاتي غير المعهود. ويعلّق على ذلك: "من حظّي أنني في وضع أحظى بثقة كاملة من رئيس الحكومة جوسبان المرتاح إلى أعضاء حكومته بأسرها، ولديّ في الوقت نفسه علاقة تفاهم جيّدة مع الرئيس شيراك، مما يعطيني موقعاً لا يقتصر على موقع المنفّذ. فجوسبان وشيراك يتوقعان منّي مواقف تقويمية شاملة لمواضيع مختلفة". والواقع أن المراقب للسياسية الفرنسية يلاحظ أن موقع فيدرين في التعايش مكّنه من الحصول على هذا الاستقلال نتيجة العلاقة بين الرئيسين، فيما واجه أسلافه في "عهود التعايش" أوضاعاً أكثر صعوبة، فوزير خارجية حكومة التعايش الأولى جان برنار ريمون لم يكن له وزن لأن شيراك تولى بنفسه رسم السياسة، وآلان جوبيه وزير خارجية حكومة التعايش الثانية، على رغم كفاءته، اصطدم ببالادور لأنه - أي جوبيه - كان حليفاً لشيراك في الانتخابات الرئاسية. العراق وتقول أوساط عليا قريبة من فيدرين أنه إستطاع، بعلاقته الجيّدة مع الرئيسين، ان يضفي طابعه ويبدل عدداً من التوجهات في السياسة الخارجية. ففي قضية العراق مثلاً، لاحظ مراقب دبلوماسي أن هناك تغييراً جذرياً في السياسة الفرنسية منذ خريف 1998 إذ ابتعدت باريس بوضوح عن النظام العراقي، في حين كانت ادارة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في الخارجية الفرنسية قبل سنة ونصف سنة تجهد لإيجاد أعذار للرئيس صدام حسين، مراعاة لسياسة قديمة كانت تحرص على إبقاء نوع من العلاقات مع بغداد يحفظ لفرنسا مستقبلاً مصالحها في العراق. إن تقويم الوزير فيدرين مختلف فهو مقتنع بأن سياسة فرنسا يجب أن تكون متميّزة. إنه يرى من المفيد الحفاظ على علاقات مع العراق، لكنه يؤمن بأن نظام صدام حسين لا يمكن الدفاع عنه إطلاقا، وبالتالي يجب ألا يُخلط بين صدام والشعب العراقي، وكذلك يجب ألا يكون قلق باريس على هذا الشعب ذريعة لايجاد مبررات لرئيسه. وهذا توجه مرده إلى اقترابه من السياسة الأميركية ونتائج إتصالاته بوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي. فهو أدرك أن سياسة بلاده حيال بغداد كانت موضع شك، وراح ينبه معاونيه، رئيس دائرة الشرق الأوسط السفير المستشرق جاك كلود كوسران والسفير جان دوغلينياستي مدير شؤون الأممالمتحدة ومستشار الرئيس السابق السفير برنار ايميه، إلى أن الرأي العام العربي منقسم جداً على قضية العراق. وباشر مناقشة هذا الأمر مع الرئيس شيراك لافتاً إياه الى القراءة السيّئة للسياسة الفرنسية في الدول الخليجية. وعندما حدثت الأزمة بين العراق والأمين العام للأمم المتحدة أوائل السنة الماضية، التقى شيراك وجوسبان وفيدرين على ضرورة إيجاد حل للأزمة... الى أن وقعت الأزمة الثانية في تشرين الأول اكتوبر الماضي، عندما قرّر الرئيس العراقي قطع العلاقات مع "أونسكوم". وتقول مصادر ديبلوماسية أن الرئيس شيراك أدرك، في ضوء اتصالاته مع عدد من المسؤولين العرب، خصوصا وليّ العهد السعودي النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ضرورة إعادة تقويم سياسة فرنسا في المنطقة. وأبلغت باريس بغداد عن طريق دبلوماسيتها أن ليس في استطاعة النظام الاستمرار في نهجه السياسي كما لو أن لديه فرنساوروسيا صديقتين في "الجيب"! وكانت الأفكار الفرنسية لرفع العقوبات عن العراق نتيجة مناقشات وإجتماعات عميقة بين الرئيس شيراك ومعاونيه السفراء جان دافيد ليفيت وجان فرنسوا جيرو والوزير فيدرين ومعاونيه. إذ أن الرئيس اتصل بوزير الخارجية، أثناء ضرب القوات الأميركية والبريطانية العراق في كانون الأولديسمبر الماضي، ودعاه، ومن يريد، الى إجتماع لدرس ما يجب ان تقوم به فرنسا. ورغب فيدرين في حضور معاونيه الأساسيين وهم الأمين العام للخارجية لويك هنكين عمل مستشارا لميتران الى جانب فيدرين طويلا، وبيار سلال يدير مكتب الوزير، والسفيران كوسران ودوغلينياستي. وخصّص الاجتماع لتقويم الموقف من الضربات الأميركية - البريطانية. واقترح وزير الخارجية ان يكون الموقف الفرنسي معتدلاً من الضربات لأنه لا يمكن الدفاع عن موقف صدام، على أن يتّجه هذا الموقف تدريجاً الى التشدّد في انتقادها، ولكن مع تقديم أفكار للخروج من الأزمة. وهكذا تم التوصل الى فكرة رفع العقوبات مع مراقبة مستمرة للتسلّح العراقي. ورأى جهازه الديبلوماسي الذي حضر اجتماعه في الأليزيه أنه بات يمكنه إقناع شيراك بأفكاره نظراً إلى علاقة الثقة والتفاهم معه. ولمس فيدرين خلال جولته قبل أسابيع في بعض دول الخليج الإمارات وقطر والبحرين والكويت أن هذه الدول كانت راغبة في استيضاح فرنسا سياستها حيال ايرانوالعراق. وشعر بعمق مخاوف الكويت من التهديد العسكري العراقي المستمر، لكنه وجد في الوقت نفسه كم أن الكويتيين أصبحوا أقل حذراً حيال سياسة باريس مما كانوا عليه قبل سنة عندما كانت هذه تترك إنطباعاً بأنها تريد التحرّك الديبلوماسي لإيجاد مخرج للعراق. وعندما أثار معهم موضوع رفع الحظر المقترن بمراقبة مشدّدة على العائدات كان ردّهم أن رفع الحظر سيوفر إمكانات مالية للنظام العراقي، وأن من الصعب تحقيق المراقبة المالية المشدّدة. لكنه علق بديبلوماسية واقعية أن بلاده تتخلى عن هذه الفكرة إذا تعذّرت هذه ومعها المراقبة المستمرة للتسلّح. وشرح أن فرنسا لا تتفاوض مع صدام، فهي قدّمت أفكارا في مجلس الأمن بديلاً من السياسة الحالية. ولاحظت أوساط الخارجية الفرنسية أن فيدرين تكون لديه انطباع، إثر جولته في دول الخليج، بأن هذه الدول تبدي اهتماما بدور فرنسي في المنطقة. وهو يتفهم والمسؤولين الفرنسيين أن تضع دول الخليج الدور الأميركي في المرتبة الأولى لحاجتها الطبيعية الواقعية إلى دولة كبرى مثل الولاياتالمتحدة تدافع عنها. لكن هذه الدول ليست دائما مقتنعة بالسياسة الأميركية وتعبر أحيانا عن حذر حيال بعض جوانب هذه السياسة، لذلك تحتاج الى حوار يكمل الحوار مع الولاياتالمتحدة. وقالت هذه الأوساط أن فيدرين أن موقع فرنسا لدى الدول الخليجية قوي جداً مهما كان تطوّر حصّتها من العقود فيها، لأن هذه الدول تدرك أن لروسيا إنشغالات أخرى، وأن الصين ليست أساسية في مجلس الأمن بالنسبة إليهم، وأن بريطانيا على النهج الأميركي. إيران وكان فيدرين وراء فكرة التوجه نحو طهران، بعدما رحب الرئيس شيراك بإنتخاب سيد محمد خاتمي رئيساً للجمهورية الإسلامية. وأبلغ معاونيه كوسران وسلال أنه يرى ضرورة التوجه الى إيران فور خروج الإتحاد الأوروبي من أزمته معها في قضية السفراء الأوروبيين. ورأى أن ليس لفرنسا ما تخسره في حوار سياسي حذر معها شمل كل المشاكل. وعرض فكرته على الرئيس مقترحاً السفر الى إيران في آباغسطس، فرحّب الأخير واصفاً الفكرة بأنها "جيّدة جدا". وكان فيدرين أبلغ جوسبان الفكرة فسأله هذا هل هو مقتنع بهذا التحرّك وماذا يمكن أن يكون انعكاسه على قضية حقوق الإنسان، فأجابه أنه ينوي التطرّق الى كل القضايا مع الإيرانيين. وتمت الزيارة ودعا نظيره الإيراني كمال خرّازي إلى باريس. الشرق الأوسط في قضية الشرق الأوسط ومسيرة السلام، لاحظت مصادر ديبلوماسية فرنسية أن فيدرين ذهب أبعد من أي سياسي فرنسي حتى الآن في إنتقاده العلني سياسة رئيس الحكومة الاسرائيلي بنيامين نتانياهو عندما قال علنا في الشهر الثاني لتسلّمه منصبه أن "سياسة نتانياهو كارثة". ولم يكن هذا الموقف وليد مجازفة بل كان نتيجة تفكير واقعي ومنطقي. فوزير الخارجية الفرنسي كان يسمع من مسؤولين وديبلوماسيين كثر عن سلبيات نتانياهو، وكان يعي سوء سياسته في مسيرة السلام لأنه كان يتابع عن كثب هذه المسيرة منذ أيام ميتران، وكان يلاحظ كيف أن الأوضاع تتدهور منذ وصول زعيم ليكود إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل، ولا يجد أي مبرر للخوف من الدولة العبرية الى هذا الحدّ، خصوصاً أن الأيام تغيّرت وفرنسا استعادت حريتها في التحرك في الشرق الأوسط، وهذه الحرية في الديبلوماسية مهمة جدا لأنها تمكّن من تجاوز ممنوعات كثيرة. لقد تخوّف من دور نتانياهو، ولاحظ أن جوسبان يجده مبالغاً في تعنته وشيراك مستاء منه فتحقق له الظرف المناسب لانتقاده علناً. ويعترف فيدرين بأنه جازف ولو أن ردود الفعل التقليدية حملت عليه لكان أُضعِف، لكن تصريحه كان له وقع جيد لأنه أوّل من عبّر عن ذلك ثم تبعه آخرون. وكان فيدرين مرتاحاً إلى الجانب الأميركي لأن علاقته الوثيقة بنظيرته الأميركية مادلين اولبرايت حالت دون تعرضه لأي انتقاد. وعلم لاحقاً أنها منعت توجيه أي إنتقاد إليه. وتقول المصادر نفسها أن فيدرين يحض أولبرايت على أن وجوب أداء الولاياتالمتحدة دورا أكبر في مسيرة السلام وتغيير رؤيتها غير المنطقية وغير المتوازنة. لكنها كانت تلاحظ أن فرنسا تبالغ في الإتجاه المعاكس. وبعد انتقاد فيدرين العلني لنتانياهو، إتصّل بالرئيس شيراك لإبلاغه ما صرّح به، كما اتصّل بجوسبان. وأجابه الرئيس أنه على حقّ تماما وعبّر عن أمله بألاّ يؤدّي ذلك الى نتائج سلبية. أما رئيس الوزراء فوافقه الرأي لكنه تساءل هل هذه هي الطريقة الصحيحة لقول ذلك، لكنه أضاف: "بما أنك قلت ما قلته فربما كان ذلك جيداً". ويرى فيدرين أن هذا الإنتقاد لم يتسبّب في أي إعاقة على صعيد سياسته حيال اسرائيل التي زارها بعد ثلاثة أشهر . وهو يعتقد كما تعتقد أوساطه بأن ادارة نتانياهو لا تبالي ولا تصغي لأحد، وأن ما قاله تالياً لا يغيّر شيئاً. العلاقة مع الفلسطينيين علاقة فرنسا بالسلطة الفلسطينية والفلسطينيين لم تشهد تغيراً، ولفيدرين علاقات وثيقة بهم منذ عهد ميتران، ولم يواجه أي مشكلة معهم. لكن المشكلة الوحيدة هي أن فرنسا تعمل كثيراً من أجل الفلسطينيين وتربطها بهم علاقة وثيقة، وتتمنى لو أن الفلسطينيين يحاولون اشراكها في المفاوضات مع اسرائيل، فهي تشعر بأنهم ينسونها عندما يذهبون الى واشنطن. لذلك رغب وزير الخارجية الفرنسي في إفهام الفلسطينيين أنه ينبغي ألا يعتبروا أنه يكفي لفرنسا أن تقول لهم أنها تؤيدهم أكثر من الآخرين، في حين أن المسائل الجديّة تجري مع الإدارة الأميركية. وهو يحاول وضع سياسة بلاده في إطار هذه الفكرة. لبنان وسورية ومصر و تلاحظ المصادر الديبلوماسية نفسها أن الحكومة الفرنسية تربطها حاليا علاقات طبيعية مع لبنان، إلا أنها تلاحظ "عبء الوزن" السوري على لبنان الأمر الذي لا تحبّذه ولا يتلاءم مع آمالها. لذلك تبقي على مسافة معينة مع سورية في انتظار اتضاح الرؤية. ليست هناك قطيعة ولا تجميد في العلاقات مع دمشق... ولكن بعض الإبتعاد. وأوضحت أن لفيدرين خبرة طويلة في التعامل مع سورية منذ عهد ميتران عندما حاول الأخير التشاور معها في شأن لبنان وفشلت المحاولة. لكنه يرحّب بموقف شيراك الداعي إلى علاقات جيّدة معها لتحسين الأوضاع في لبنان. ويعبر فيدرين عن ارتياحه إلى علاقته مع وزير الخارجية المصري عمرو موسى، على المستوى الشخصي والسياسي، لأنها تمكنّه من العمل معه في قضايا الشرق الأوسط بشكل جيّد. المغرب ثمة انطباع في أوساط عربية بأن فيدرين وزير قدير لكنه بعيد عن الاهتمام بالعالم العربي...لكنه يبدد هذا الإنطباع عندما يتحدّث عن تعلقه بوالده جان فيدرين "المناضل من أجل استقلال المغرب" والذي ربطته علاقات عميقة بهذا البلد في عهد الملك محمد الخامس الذي شكر له نضاله من أجل الاستقلال... وعندما يتحدّث عن طفولته منذ كان في التاسعة وكان يزور باستمرار هذا البلد معتبراً إياه بلده الثاني، ويعود لزيارته سنوياً مع صديق أبيه "أرطان"، هذا الشيخ "العاقل" الذي اكتشف معه كل منطقة الأطلس الجنوبي في المغرب، حيث خيّم معه في أماكن مختلفة... وعندما يتحدّث عن العلاقات العائلية التي تربطه بآل بوعبيد في المغرب وأصدقاء والده الكثيرين في "بلده الثاني". ولم يخفِ وزير الخارجية الفرنسي ارتياحه إلى لقاءاته الخليجية وحبه لتاريخهم، وحبه للصحراء وأهلها، تماماً مثل حبه لتاريخ والده. ويسجل فيدرين نقاط ضعف في سياسة فرنسا حيال المغرب، إذ أن كل جهود دائرة الشرق الأوسط كانت تكرّس للشرق الأوسط فيما لم يعط هذا الإنتباه الكافي. وهو يحاول تصحيح هذا الخلل لإعطاء المغرب حقه من الجهود. الجزائر تصور بعضهم أثناء المجازر في الجزائر أن الوزير فيدرين يتولى الدفاع عن النظام الجزائري لأنه نشط في إقناع الرأي العام الفرنسي بأن هذا النظام ليس مسؤولا عن المجازر مثلما صوّر بعض الإعلام الفرنسي. وعندما تسلّم منصبه كانت هناك حملة اعلامية مفادها أن النظام في الجزائر هو الذي يرتكب المجازر، وتزامنت هذه مع حملة على المسؤولين الفرنسيين الذي يسكتون عليها. وتقول مصادر الخارجية الفرنسية أن فيدرين طلب التحقيق في المعلومات المتعلقة بهذه المجازر من كل أجهزة الاستخبارات الإيطالية والإسبانية والأميركية والمغربية. وبعد ثلاثة أشهر لم يقم أي دليل إلى تورط مباشر للنظام الجزائري. وعندها قاد حملة تهدئة لتنقية علاقات بلاده بالجزائر، لكن هذه العملية كانت متواضعة الطموح لأنها لم تهدف الى حل مشكلة الجزائر وإنما كانت تهدف الى الخروج من الجدل المستمر بين الفرنسيين والجزائريين. إذ أن الجزائريين يرون عموما أن كل شيء مناورة فرنسية "وهذا غباء تام مثلما هو غباء أن يعتقد بعض الفرنسيين بأن لبلادهم مسؤوليات حيال الجزائر، إذ ليست لها أي علاقة معينة ومسؤولية خاصة. ويؤكد فيدرين أنه لم يكن يوما مدافعا عن النظام الجزائري، بل يدرك أن هذا النظام فشل فشلاً ذريعاً على الصعيدين السياسي والاقتصادي، والعلاقات بين فرنساوالجزائر ضعيفة. وناقش وزيرا الخارجية في البلدين ما يمكن القيام به، لكن فيدرين "اصطدم بنظام مغلق على نفسه"، ولكن طرأ تغيير مع رئيس الحكومة الجديد الذي أبدى استعدادا أكبر للتعاون ولتطوير العلاقات. وباريس تنتظر نتائج الإنتخابات الرئاسية في الجزائر وستقوّم الموقف بعد ذلك. أين فرنسا عالمياً؟ ما هو تصور فيدرين لميزان القوى العالمي ومكانة فرنسا فيه؟ يقول فيدرين ل"الحياة": "منذ عقود، ومنذ أن بدأت فرنسا تتساءل عن وزنها الحقيقي في العالم، برز ما يسمّى الإرادوية الفرنسية اللفظية، وهي عقدة نقص يجري التعبير عنها عبر النقاش المعروف هل لا تزال فرنسا قوة كبرى، مع فكرة مغلوطة لماهية الدولة الكبرى. ويوجد أيضا نوع من الإكتئاب مردّه الى أن فرنسا أصبحت دولة ذات نفوذ متوسط. وأجريت بحثا للموضوع ووصلت الى أفكار بسيطة مفادها أن علينا ان نكون أكثر واقعية وأن نرى الأمور على ما هي حتى عندما تكون غير مرضية. أننا في عالم شمولي فيه وزن أميركي لا سابقة له وأنا أسميه "hyperpuissance" لأنني أعتبر أنه يفوق حجم الدولة العظمى والدولة الكبرى في الحرب الباردة. والنفوذ الأميركي إقتصادي ومالي وعسكري وتكنولوجي وثقافي. فالعولمة هي جزئياً أمركة، وهذا لا يعني أن الحكومة الأميركية تديرها. وهذا مزعج لفرنسا وللنخبة الفرنسية المتعلقة بالفكرة أن لفرنسا رسالة عالمية. أنا أؤمن بذلك ولكن لا يكفي أن يُقال في باريس أن لفرنسا رسالة عالمية كي تُنشر هذه الرسالة فأنا أريد كسر هذا الموقف الإرادوي اللفظي". ويضيف: "أنا أتساءل عن سبل تنفيذ فكرة الرسالة الفرنسية بفاعلية كبرى وأرى أنه ينبغي أن نحافظ على نفوذ بلادنا وتأثيرها في العالم لأداء دور مفيد وللدفاع عن مصالحنا المباشرة واستقلال قرارنا ومبادئنا. نحن موجودون في معادلة مماثلة لتلك التي تحكم الإقتصاد العالمي حيث هناك تنافس شديد للحفاظ على جزء من السوق الديبلوماسية. وعلى فرنسا أن تناضل للحفاظ على حصتها الدبلوماسية العالمية". ويتابع فيدرين: "هناك 185 دولة من بينها hyperpuissance" هي الولاياتالمتحدة ويبقى 184 دولة ونحن لسنا بلداً متوسطاً ولا الدولة ال92. وحتى لو أخذنا الدول الثلاثين أو الأربعين من بين الدول المتوسطة فنحن لسنا الدولة العشرين لكننا مباشرة بعد الولاياتالمتحدة ضمن فئة أسميها دولة ذات نفوذ وتأثير عالميين. ولدينا عدد من مزايا القوة منها العضوية الدائمة في مجلس الأمن وقوة ردع نووية وصوت في دول عدة في العالم عبر التاريخ واللغة والتحالفات. ولدينا دور محرّك في أوروبا ولكن ليس لدينا الحجم أو عدد السكان أو الهيمنة العالمية عن طريق أسلوب العيش. وعلى الصعيد العسكري نحن ضمن فئة من الدول التي أضع فيها المانياوبريطانياوروسيا، على رغم مشاكلها الحالية، والصين، حتى لو أن ذلك للمستقبل، واليابان والهند". وبناء على هذا التقويم لميزان القوى في العالم ولمكانة فرنسا في إطاره، يتحرك فيدرين للمساهمة في تحسين موقع بلاده في ميزان القوى للسنوات ال10 - 15 القادمة. ويسعى جاهداً في ميادين أساسية مثل اوروبا التي يعتبرها مهمة جدا لفرنسا ويصفها بأنها "ماكينة تسمح بتزايد النفود الفرنسي. فهذا مبدأ عام تتفرّع عنه لاحقا ما يتراوح بين 20 و30 مشكلة تؤدي الى عشرين أو ثلاثين جولة تفاوض بين الاعضاء ال15. وهذا بالطبع معقّد لكنه رهان كبير". ويعتبر فيدرين أن ألأولوية لجعل تأثير فرنسا كبيراً في إتحاد أوروبي قوي جداً، والوصول الى ذلك بوسائل حديثة والحرص اليومي. ويلاحظ أن للولايات المتحدة تأثيرا عظيماً في العالم بأسره عبر الجامعات المعروفة التي تدرّب نخب الدول بما فيها تلك المعارضة للنظام الأميركي. ولذا، أسّس فيدرين ووزير التربية الفرنسي كلود اليغر وكالة "ايدو - فرانس" لتنسيق العرض الفرنسي للتأهيل العالي. ويفترض هذا سياسة تأشيرات ملائمة وسياسة لإستقبال الأجانب. ويصف وزير الخارجية الفرنسي ذلك بأنه "رهان رئيسي للسنوات ال10 أو ال15 المقبلة". كوسوفو ويخطّط فيدرين لسياسة فرنسا حيال الولايات المتحدّة كأنه لاعب شطرنج، خصوصا في سياسته حيال أزمة كوسوفو. فمنذ البداية كانت مبادرته الخاصة لتكوين مجموعة الإتصال حيث لعبت فيها العلاقات الشخصية بين وزيرة الخارجية الأميركية اولبرايت ووزير الخارجية البريطانيي روبين كوك ووزير الخارجية الالماني السابق كلاوس كينكل ثم الوزير الالماني الحالي جوشكا فيشر والايطالي لمبرتو ديني وافغيني بريماكوف عندما كان وزيرا للخارجية ثم ايغور ايفانوف وفيدرين وذلك منذ آذارمارس 1998. وتقول المصادر الفرنسية إن فيدرين قاد العملية بعدما شرح لكل من شيراك وجوسبان معنى تحرّكه وعندما وصلت الأوضاع الى مسألة الوجود العسكري لحل الازمة، عقد شيراك مجالس وزارية مصغّرة في الاليزيه ناقش خلالها مع جوسبان ووزير الدفاع الان ريشار وفيدرين ما يمكن أن تقوم به فرنسا وما لا يمكن القيام به. وباشرت باريس التحرّك وتولّى فيدرين البحث عن حل للأزمة، في حين ان القرار الأساسي بقبول احتمال وجود عسكري على الأرض في كوسوفو اتخذه الرئيس. ولا يبالي فيدرين بالإنطباع الذي تركته هذه الازمة بأن اولبرايت هي مفتاح الحل وهي صاحبة التحرّك، لأنه لا يملك استراتيجية اعلامية للبروز وليس حسّاسا حيال الإنطباعات التي تظهر الولاياتالمتحدة القوة التي تعمل كل شيء، إذ أن هذا يتيح له مجالاً من الحرية وقوّة للتحرّك. وهو لم يقل يوما أن إطار رامبوييه من صنع اوروبا وأن مجموعة الإتصال هي اوروبا. إن مسار رامبوييه، في نظره، إطار عمل ممتاز للأوروبيين مع الأميركيين. ويعتقد أن الولاياتالمتحدة، لو غابت عنه لكانت انتهجت سياسة مختلفة عن سياسة اوروبا في هذه الأزمة، في حين يكمن جوهر سياسته في جر الاميركيين إلى الملعب الاوروبي. قبل بضعة أشهر كان الموقف الوحيد لواشنطن الدعوة إلى قصف بلغراد والقيام بعمليات عسكرية، وهذا ما تبيّن في النهاية أنه الحل، لكن الاوروبيين قالوا إن المشكلة أكثر تعقيداً لأن هناك "جيش تحرير كوسوفو". وعملوا مع الأميركيين طويلاً، وكانت اولبرايت في البداية تقول لفيدرين أنها لا تريد مجموعة الاتصال وأنها ترغب في العمل معه، لأن الروس في رأيها لا يمثلون قوة فعلية ولأنها لم تفهم موقف المانيا. لكن الوزير الفرنسي فاوضها الى أن وافقت على الدخول في مجموعة الاتصال. وكان يدرك أن الأميركيين لو غابوا عن هذا الإطار لأنتهجوا سياسة شبيهة بسياستهم في البوسنة حيث اكتفوا بالقصف فيما استمرّت الجهود الاوروبية في 91 و92 و93 و94 وصولا الى حل لا يختلف كثيرا عن الحلول الاوروبية. في نهاية المفاوضات في رامبوييه كانت اولبرايت تتوقّع أن يرفض الصرب وأن يوافق الألبان على الخطّة لكنها اصطدمت برفض الألبان الذي تحميهم الولاياتالمتحدة منذ سنتين او ثلاثة فلم تفهم. فتحوّلت مهمتها حينها للضغط على الالبان لأن لا فرنسا ولا روسيا ولا المانيا تستطيع الضغط عليهم، ولذلك وجد فيدرين انه أمر جيّد أن تبقى الوزيرة الأميركية، وغاب يومين عن الاجتماعات عمدا كي تكون اولبرايت في الموقع الأمامي علناً. ففي البداية، قال الرأي العام إن الاوروبيين ليسوا فاعلين وإن اولبرايت عندما تصل تفعل كل شيء. واستاءت جدا وبدأ الناطق الرسمي باسمها ينتقد الالبان باستمرار. وفي النتيجة إن الاعلام الاميركي لم يتطرّق الى فشل فيدرين وكوك بل الى فشل اولبرايت التي كانت بمثابة حاجز يستوعب الصدمة عن الاوروبيين. ورأى فيدرين خلال المفاوضات، أن الموقف البريطاني كان قريبا جدا من الفرنسي وأن كوك نسّق معه بشكل جيّد ولم يكن على النهج الأميركي أحيانا كثيرة مما أدّى الى عدم رضا الولاياتالمتحدة .