كانت الجامعة العربية، وما زالت، في نظر الدول الأعضاء والأمين العام للجامعة منبراً يخدم أهدافاً متعددة. وأظن أن الجامعة والدول الأعضاء فيها وأمينها العام، كلهم أمام امتحان جديد ليؤكدوا النية ثم القدرة على تطوير وظائف الجامعة وأدائها، بحيث تصبح وظيفة المنبر إحدى الوظائف وليس أهمها، وبالتأكيد ليست الوظيفة الوحيدة. الجامعة منبر بالمعنى الخطابي. كانت الدول، وما زالت، تتسابق لتعلن رأياً أمام شعوب الأمة. وكثيراً ما كان هذا الرأي يتناقض مع الموقف الذي تتخذه الدولة أو الدول في قاعة الاجتماعات. كان المنبر مفيداً لممثلي حكومات تفتقر إلى منابر فاعلة على المستوى المحلي، أو غير قادرة على الوصول إلى الرأي العام على المستوى العربي. فالناس لن تذكر إلا الخطاب المعلن، وهو في الغالب خطاب حماسي. ثم إذا انتهى المؤتمر أو الاجتماع داخل الجامعة إلى قرار غير قومي أو قرار ناقص أو قرار دون توقعات الرأي العام، ألقت الدول على "الجامعة" باللوم. فالجامعة تصبح عندئذ المسؤولة عن العجز الرسمي العربي. والناس لا يعرفون، ولن يعرفوا، مواقف الحكومات على حقيقتها، وهي المواقف التي يعبر عنها مندوبوها في قاعة مغلقة، ويعبرون عن عكسها أحياناً في الجلسة الافتتاحية أو الجلسات المعلنة أو عبر تصريحات صحافية. كان هناك من يدافع عن هذه الوظيفة، أي الجامعة كمنبر، وكان هناك من يدافع عن هذا المنطق، أي تحميل الجامعة مسؤولية العجز. أما الجامعة كمنبر فقد أدت بهذه الوظيفة، حسب هذا الرأي، خدمة كبيرة للقضايا العربية المصيرية، إذ أن الكلام المرسل عبر المنبر كان في حد ذاته التزاماً أو قيداً لمصلحة ما يسميه البعض مبادئ قومية ويسميه آخرون ثوابت. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أنه من دون هذا المنبر لانفرط عقد التضامن العربي. كان هناك أيضاً من دافع عن سياسة تحميل الجامعة مسؤولية الفشل أو العجز العربي. وكنت أعتبر ذلك نوعاً من الدفاع المثير للتأمل بسبب غرابته، والمثير للجدل بسبب قسوته وانتهازيته. سمعت مندوبين - على مستوى عال - يحاولون تبرير قيام الدول بتحميل الجامعة المسؤولية عن الفشل بالتساؤل عن أيهما أجدى وأنفع للعالم العربي، أن تتحمل الجامعة المسؤولية ولن يجازيها أو يعاقبها أحد، أو أن تتبادل الدول الأعضاء الاتهامات بعرقلة مسيرة العمل العربي المشترك أو إجهاضها؟ هؤلاء، وهم كثر، ينطلقون في دفاعهم من قاعدة أن هذه الجامعة نجحت في وظيفة لم يفكر فيها الآباء المؤسسون، وهي وظيفة حائط تلقى أمامه وعليه الحجارة والاتهامات بين الدول وعبارات التأنيب وآهات تعذيب الذات أو جلدها. وإذا حدث وتخلت الجامعة عن هذه الوظيفة فسنرى هذه الممارسات كلها وغيرها وقد تحولت إلى شرارات تشعل نزاعات عربية جديدة أو وقوداً يحافظ على استمرار النزاعات القائمة. لا أقول دعونا ندعم أو نلغي هذه الوظيفة أو تلك، ولكنني أقول دعونا - كدول - نعيد النظر في ممارساتنا التي تسببت في إصابة الجامعة بالعقم والتخلف عن مسايرة التحولات الدولية، ابتداءً من انتهاء الحرب الباردة وانتهاءً بالإنجازات والتقلصات والتشوهات الناتجة عن مسيرة العولمة. ما لا أعقله، وبالتأكيد لن أتفهم دوافعه أو مبرراته إن استمر، هو هذا الإمعان من جانب حكومات الدول الأعضاء في تحميل الجامعة المسؤولية كاملة عن إصلاح العمل العربي المشترك. فالجامعة مهما تطورت نتيجة آليات عمل جديدة، أو نتيجة استبدال عناوين مهمات ووظائف بغيرها، أو نتيجة يقظة عامة وحقيقية بين العاملين كل في أجهزة ومنظمات العمل العربي المشترك، لن تخطو خطوة إيجابية إلى الأمام إلا إذا قامت الدول الأعضاء بواجبها هي الأخرى فأدخلت تعديلات جذرية على نظمها الداخلية وأساليب عملها وسلوكياتها المرتبطة بنواحي العمل العربي المشترك، وبخاصة المرتبطة بالجامعة العربية وأمانتها العامة. فعلى سبيل المثال، لا أتصور أن يحقق أي برنامج للإصلاح الداخلي للجامعة هدفاً واحداً من أهدافه إذا استمرت الدول تقول على منبر الجامعة شيئاً، وتقول شيئاً آخر عندما تطمئن إلى أن الأبواب أغلقت بعد أن خرج الصحافيون والعامة من قاعة الاجتماع. أظن أن الدول العربية اقتربت ما فيه الكفاية إلى درجة من النضوج السياسي الذي يجعل المسؤولين فيها عن العمل العربي المشترك يدركون جيداً أن ما يضاف إلى شرعية حكوماتهم نتيجة الخطب النارية التي يلقيها المسؤولون والمندوبون في الجلسات المعلنة يفقدونه ضمن ما يفقده كل العرب عندما تُلام الجامعة على الفشل والقصور والعجز عن اتخاذ القرارات المناسبة، أي عندما يتعمدون الانتقاص من شرعية الجامعة التي اقيمت لتجمعهم. ثم إن هذا الاصلاح لن يحقق هدفاً واحداً إن استمر بعض الدول العربية يعتبر الجامعة منافساً وليس مكملاً. أعرف أن جهتين على الأقل في الدولة العربية، أي دولة، تكاد تأكلهما الغيرة أو الحرص من عواقب ممارسات نشطة تقوم بها الجامعة العربية. وليس في هذا جديد، فقد وقفت الجهتان ضد أي مشاريع تطور وقرارات اتخذتها مجالس القمة والوزراء اشتمتا منها تقليصاً لنفوذهما. وعلى كل حال لن نكون الوحيدين في العالم الذين يعانون من هذا الوضع. فالمفوضية الأوروبية قاست كثيراً ولكنها نجحت في نهاية الأمر، بالصبر والانتظار، ولكن أيضاً بالمثابرة والإنجاز الملموس، في فرض التطوير والإصلاح على أجهزة الدول الأعضاء، حتى تستطيع مسايرة التقدم الحاصل في أجهزة الاتحاد. وحظي هذا الأمر باهتمام المفوضية منذ سنوات طويلة، أي منذ وجد الأوروبيون كثيراً من الأفكار والمشاريع التي يطرحونها يتعطل تنفيذها لأن البيروقراطيات القطرية لم تتطور بعد إلى الحد المناسب الذي يسمح لها بالتفاعل مع التطور الحادث في المستوى الاتحادي. ومع ذلك لا يجوز أن نطلب من الدول فوق ما تحتمل. ففي كل الدول العربية يجري مثلاً التعيين في الوظائف على أسس غير عصرية مثل القرابة والشللية والمعرفة الشخصية والمكانة الاجتماعية، وباستثناءات قليلة يجري التعيين على أسس الكفاءة. في الوقت نفسه نعرف أن الجامعة العربية لن يتحسن حالها وأداؤها إلا إذا تبنت الأسس العصرية في نظم التعيين فيها، بما فيها النظم الخاصة بالوظائف الأعظم في الجامعة والمنظمات المتخصصة. وأياً كانت الاصلاحات التي ستدخل على نظم التعيين، سيكون صعباً جداً التصور أن تلتزم الدول هذه الاصلاحات، لأنها اصلاحات لم تدخل مثيلاتها على النظم الداخلية في معظم هذه الدول. وستبقى المحادثة الهاتفية بين كبير في عاصمة عربية وكبير في الجامعة العربية ومؤسساتها هي المدخل إلى التعيين. لا يعني هذا أن تستسلم الجامعة، إن رغبت حقاً في التطور والإصلاح، ولا سبيل إلى التطوير إلا بقدر غير قليل من المثابرة، وقدر هائل من القدرة في الجامعة على تقديم النموذج، فلا تفعل ما تريد أن لا تفعله الدول الأعضاء، وسيكون تطوراً مثيراًَ حقاً أن يلتزم الكبار في الدول الأعضاء مبدأ التعيين على أساس الكفاءة والخبرة. ولا تقتصر السلوكيات المعيبة عند بعض الدول الأعضاء على ازدواجية المواقف بين ما هو معلن وما هو سري، والتدخل في التعيينات في الجامعة ومنظماتها على أسس غير الكفاءة والخبرة، فالبيروقراطيات العربية، أو أغلبها، لا تمنح الوقت الكافي ولا الجهد اللازم لشؤون العمل العربي المشترك. ومن المشاهد المألوفة في اجتماعات الجامعة مشهد مندوب دولة يقرأ للمرة الأولى وثائق الاجتماع بينما تفرض الأمانة الوظيفية وشرف التمثيل الديبلوماسي أن يدرس الوثائق ووثائق أخرى كثيرة متصلة بالمواضيع المطروحة للنقاش ويأتي مستعداً لنقاش جاد، وليس لمزايدات أو سباقات في الفصاحة والخطابة. ولذلك كان يقال في أوساط الديبلوماسيات العربية أن بعض الدول الأعضاء كان حتى عهد غير بعيد يختار من بين ديبلوماسييه الأعلى صوتاً والأكثر قدرة على "الردح"، ليعينه مندوباً لدى الجامعة العربية. وآمل أن لا تعود الدول إلى هذا التقليد، وأظنها لن تعود إذ أن الاصلاحات المزمع إدخالها على لوائح الجلسات والاجتماعات ستفرض بدورها اسلوباً مختلفاً للتداول والنقاش وصولاً إلى القرار المناسب. ومن هذه الاصلاحات رفض احتجاج مندوبين ووزراء خارجية بأنهم لا يحملون التفويض الرسمي من حكوماتهم للتصويت لمصلحة أو ضد قرار بعينه. ولا يخفى أن هذه القضية تتسبب في قضية أكبر وهي سمعة الفشل التي تحيط بالجامعة، وبخاصة بعد كل اجتماع لمناقشة قضية مهمة، وتتسبب في نهاية الأمر في قضية أخرى، وهي ضخامة جدول الأعمال الذي تعده الأمانة العامة بالاشتراك مع الدول لتقديمه إلى القادة العرب في مؤتمرات القمة. فالجدول الضخم مؤشر أكبر على عدم كفاءة ولامبالاة وعدم جدية، وكلها صفات غير لائقة في عمل يقدم إلى القمة التي تضع أو تقود العمل العربي المشترك. هل ستقبل الدول الأعضاء في الجامعة أن تتنازل عن قدر من السيادة يعادل القدر الذي تنازلت عنه عندما وقّعت على اتفاقات دولية خاصة بالتجارة والشراكة والبيئة والنفط، وعندما دخلت في علاقات دفاعية وأمنية ثنائية أو متعددة مع دولة أجنبية أو أكثر، أو عندما استضافت على أرضها قواتٍ عسكرية وشركات وفروعاً لأجهزة تحقيق وأمن تابعة لدولة عظمى أو كبرى؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد في النهاية مصير كل الاصلاحات المقترحة والمرتقبة للعمل العربي المشترك. لا يفهمون في أوروبا، ولا حتى في جنوب آسيا وشرقها المنطق العربي، وراء الفصل بين نوعين من السيادة، سيادة مخصصة للعالم الخارجي، وهذه يمكن الانتقاص منها، وسيادة مخصصة للعالم العربي لا يمكن الانتقاص منها أو المساس بها. وما تعبير "السيادية" أي السيادة كأيديولجيا، والذي شاع أخيراً إلا نتيجة المبالغة في التمسك بالسيادة تجاه مواقف أو دول بعينها. تعتنق الولاياتالمتحدة والدول العربية هذا المذهب الجديد، تعتنقه الولاياتالمتحدة لتواجه به العولمة، وتعتنقه الدول العربية لتواجه به بعضها والعمل العربي المشترك. * كاتب مصري