تسارعت التطورات في منطقة جنوب شرقي آسيا حين صوّت غالبية سكان تيمور الشرقية لصالح الانفصال عن اندونيسيا. فخرجت استراليا من عزلتها لتبرز نفسها كقوة اقليمية قادرة على لعب دور الشرطي لحل نزاعات المنطقة. وفي الوقت نفسه تصاعدت أصوات من داخل اندونيسيا وخارجها محذرة من امكانات استغلال سابقة استفتاء استقلال تيمور الشرقية لتفكيك الأنظمة المحلية و"بلقنة" المنطقة. ويجمع المحللون على ان ما تشهده اندونيسيا اليوم هو مرحلة من تغيير جذري تمر به انظمة دول المنطقة. وتركز التحليلات على حدثين رئيسيين: الأول انهيار اسواق العملة والقطع في آسيا عام 1997، والثاني خروج الرئيس الاندونيسي السابق سوهارتو من الحكم عام 1998. ويتوقع المحللون ان تشهد المنطقة نزاعات عرقية وحوادث عنف خلال مرحلة الانتقال من أنظمة ديكتاتورية الى انظمة ديموقراطية. بدأت أزمة تيمور الشرقية فعلياً عام 1975 عندما انسحبت منها القوات البرتغالية بطريقة مفاجئة منهية أربعة قرون من الاستعمار. وكانت المنطقة تشهد حينها زحفاً شيوعياً كبيراً تمكن من السيطرة على دول عدة مثل فيتنام وكمبوديا ولاوس. وأدى الزحف الشيوعي الى حدوث موجة نزوح كبيرة لسكان هذه الدول باتجاه شواطئ القارة الاسترالية. وقامت اندونيسيا يومها، بتشجيع من الولاياتالمتحدةواستراليا، باحتلال تيمور الشرقية لمنع وصول الشيوعية اليها وحماية شواطئ استراليا من جحافل اللاجئين الآسيويين. وبعد عام ضمت جاكرتا تيمور الشرقية الى اراضيها، على رغم اعتراض الأممالمتحدة وبعض الدول على هذه الخطوة، الا ان استراليا سارعت للاعتراف بسيادة اندونيسيا على تيمور الشرقية. ولعل هذا أحد الدوافع التي حدت بالحكومة الاسترالية المسارعة الى تشكيل وقيادة قوة دولية لحفظ السلام والنظام في تيمور الشرقية بعد ان أدت الاشتباكات بين الميليشيات هناك، التي تم تدريبها وتسليحها من الولاياتالمتحدة، الى نزوح عشرات الآلاف من التيموريين الى الدول المجاورة. الأزمة الاندونيسية حكمت اندونيسيا تيمور الشرقية بيد من حديد طوال ربع قرن. وتفيد وسائل الاعلام الغربية ان حوالى 200 الف مواطن من سكان تيمور الشرقية قضوا نتيجة حملات القمع التي شنتها القوات الاندونيسية على مر السنين. قد يكون هذا العدد مبالغاً فيه، الا أنه لا يتناقض مع تاريخ اندونيسيا الدموي، حين كانت في الستينيات مصدر رعب وقلق لجيرانها. فمنذ عهد الرئيس احمد سوكارنو، كانت القوات الاندونيسية، المدربة على يد القوات الخاصة الأميركية، تقوم باحتلال الجزر المحيطة بها وضمها لسيادتها. وتقول الكاتبة المختصة في شؤون اندونيسيا بورنا برونر: "ان اندونيسيا تضم اليوم 1700 جزيرة و300 مجموعة عرقية، وتعتبر رابع أكبر قوة بشرية في العالم اذ يبلغ عدد سكانها 200 مليون نسمة". بقيت جاكرتا مصممة على الاحتفاظ بتيمور الشرقية الى ان أجبر سوهارتو على التخلي عن السلطة الى نائبه الرئيس الحالي يوسف حبيبي، الذي تعهد باجراء انتخابات عامة في البلاد واستفتاء شعبي لتقرير مصيرها. ونفذ حبيبي تعهداته آملاً بدعم دولي لضمان انتخابه رئيساً للبلاد والمحافظة على المساعدات المالية والاقتصادية من البنك الدولي والغرب. ويشير "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" ان اندونيسيا، وعلى رغم اعادة انتعاش اقتصادها جزئياً خلال العام الماضي، لا تزال بحاجة للمساعدات الدولية. ويضيف المعهد أن "الكوارث الطبيعية التي اصابت اندونيسيا في السنتين الأخيرتين من أعاصير وفيضانات الى الأزمة المالية رفعت عدد الطبقة الفقيرة الى 80 مليون نسمة". وهذا يعني ان اندونيسيا تعتمد على مساعدات الغرب الذي بدوره يريد فرض قيمه الخاصة على مجتمعات اعتادت على أنظمة عسكرية على مر السنين. وبما ان الخطر الشيوعي زال، فلا تجد الدول الغربية نفسها مضطرة للتغاضي عن انتهاكات حقوق الانسان في اندونيسيا وغيرها من دول المنطقة بل اخذت تشجع اليوم على قيام أنظمة ديموقراطية. وهي تفرض هذه الشروط عبر "البنك الدولي" الذي يعتمد على الجزء الأكبر من السيولة على واشنطن والعواصم الأوروبية، حسب تقارير "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية". لذلك، يضيف المعهد، اضطر حبيبي للاذعان للمطالب الدولية على رغم معارضة الشعب والقيادة العسكرية وبعض دول المنطقة لاجراء استفتاء في تيمور، قد يشكل سابقة تهدد وحدة البلاد ودول آسيوية أخرى، مثل الهندوماليزياوالصين. وتوافق مؤسسة "جينز" للدراسات الاستراتيجية رأي برونر بأن اندونيسيا "تواجه خطر التفتت اذ أنها تواجه حركات انفصالية في جزر رئيسية وكبيرة". وأبدى العديد من قادة الجيش الاندونيسي خشيتهم من ان يؤدي انفصال تيمور الشرقية الى تشجيع الحركات الانفصالية في جزر أشاي ومولوكا وبورنيو وايريان جايا على تصعيد حملاتها ضد السلطة. وتختلف اسباب الحركات الانفصالية في هذه الجزر، لكنها تعود بغالبها الى محاولة سوهارتو تغيير تركيبتها السكانية الديمغرافية. قام سوهارتو بحملات توطين لأعداد كبيرة من سكان الجزر الفقيرة في جزر اكثر خصوبة، ما أوجد نعرات عرقية وطائفية بين سكان الجزر الأصليين والدخلاء، كما هي الحال في جزيرة بورنيو. أما جزيرة مولوكا الغنية بالتوابل فهي تشهد نزاعاً طائفياً بين سكانها المسيحيين والقبائل المسلمة. ويشار الى ان المسلمين يشكلون 88 في المئة من نسبة سكان اندونيسيا. وتقول برونر ان جزيرتي أشاي وايريان جايا تعتبران اكثر المناطق سخونة بسبب النزاع المسلح مع الانفصاليين. فجزيرة أشاي الغنية بالنفط والغاز تريد التنعم بهذه الثروات الطبيعية لوحدها من دون تحمل أعباء الجزر الفقيرة، في حين تناضل ايريان جايا للاستقلال منذ ان دخلتها القوات الاندونيسية في الستينيات. عواقب سقوط سوهارتو لم يكن خروج سوهارتو من السلطة مجرد نهاية لحكم ديكتاتوري دام 32 عاماً، بل كان نهاية "النظام العالمي" الذي ساد المنطقة خلال فترة الحرب الباردة. ويقول "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" ان اسلوب سوهارتو الديكتاتوري في الحكم شكل امثولة اقتدى بها زعماء دول المنطقة للسيطرة على شعوبهم ذات التركيبة القبلية. وحظيت غالبية هذه الانظمة بالدعم السياسي والعسكري من اوروبا والولاياتالمتحدة بسبب مواقفها المعادية للشيوعية. وحذت دول المنطقة حذو سوهارتو في غالبية خطواته التي قادتهم باتجاه نمو اقتصادي بلغ ذروته في مطلع التسعينات، ما دفع بالمراقبين الى تسمية هذه الدول ب"نمور آسيا". ويشير المعهد الى "ان غياب سوهارتو أفقد اندونيسيا مكانتها في المنطقة التي اكتسبتها عبر هيبة رئيسها وعلاقاته الشخصية مع الزعماء الآسيويين". وبالتالي، فقدت دول جنوب شرقي آسيا المحور الرئيسي الذي كانت تدور في فلكه وهي تتجه اليوم بعيداً عن القيم التي فرضتها مجتمعاتها القبلية باتجاه قيم غربية وطريقة حكم ديموقراطية، ربما تسهم في إشعال حروب صغيرة. ويقول المعهد "انه كما كان للتغيير في اندونيسيا تأثيره على الأنظمة المجاورة، فقد ينعكس أي تفكك للدولة الاندونيسية على سائر المنطقة التي تتكون دولها من مجموعات عرقية وطائفية مختلة". ويتابع المراقبون تطورات الوضع داخل اندونيسيا بحذر شديد اذ لا تزال علاقة الجيش مع السلطة غير واضحة. وتقول "جينز" ان الجيش الاندونيسي عارض التخلي عن تيمور الشرقية لأن ذلك يتناقض مع عقيدته العسكرية المبنية على حماية الانصهار الوطني ووحدة الأراضي. وعلى رغم تسريب اشاعات عن انقلاب عسكري ضد حبيبي، إلا ان قائد القوات المسلحة الجنرال ويرانتو ظهر لاحقاً ليعلن تأييده ارسال قوات دولية لتيمور الشرقية. ويعتقد بعض المحللين ان القيادة في جاكرتا قررت تلافي الدخول في مواجهة مع الغرب خشية ان تتعرض لحملة عسكرية شبيهة بتلك التي شنتها قوات حلف شمال الأطلسي ضد يوغسلافيا قبل بضعة أشهر. ويعتقد المحللون ان الجنرال ويرانتو ربما وافق على التدخل الدولي لدوافع وطموحات سياسية، اذ عكست النتائج الضعيفة للحزب الحاكم حجم انحسار شعبية الرئيس حبيبي بسبب سياسته اتجاه تيمور الشرقية. كما ان القيادة العسكرية اعلنت معارضتها لهذه السياسية. لذلك قد يكون الجنرال ويرانتو يسعى لفرض نفسه كبديل قوي لحبيبي. فالغرب لا يستطيع السماح بتردي الأوضاع في اندونيسيا وخروج الأمور عن السيطرة بسبب حجم الدولة كقوة بشرية وعسكرية. وهذا يستوجب وضع رئيس يحظى بولاء القوات المسلحة ومستعد لمسايرة مصالح الغرب وحمايتها في المنطقة. وهذه ميزات يحاول الجنرال ويرانتو ابرازها. ميزان القوى تسيطر اندونيسيا على ممرات المياه الرئيسية التي تصل المحيط الهندي بمحيط الباسيفيك. وهذا أعطاها مكانة استراتيجية عالية ودفع بحماة الديموقراطية في واشنطن والعواصم الأوروبية لغض النظر طوال نصف قرن عن سياستها الداخلية ومدها بما تحتاجه من مساعدات عسكرية لحماية هذه الممرات ودرء خطر الشيوعية عن المنطقة. وغدت اندونيسيا، بسبب ذاك الدعم، ثاني اكبر قوة عسكرية في المنطقة بعد الصين. ويبلغ عدد القوات المسلحة الاندونيسية نصف مليون شخص اضافة الى 400 ألف شخص احتياط. وهم مجهزون بحوالى 425 دبابة خفيفة و155 مصفحة و520 ناقلة جند وعشرات مدافع الهاوتزر والهاون والصواريخ التكتيكية الحديثة. وتملك اندونيسيا قوة بحرية لا يستهان بها اذ تتألف من غواصتين و17 فرقاطة حديثة و16 كورفيت وأربعة زوارق صاروخية الى زورقي طوربيد و35 خافرة سواحل و13 كاسحة الغام و26 سفينة انزال و15 سفينة مختلفة للدعم والنقل والصيانة. أما سلاح الجو الاندونيسي فيضم 95 طائرة حربية حديثة مثل مقاتلات اف - 16 واف -5 تايغر وسكاي هوك الاميركية وهوك البريطانية. وما يميز القوات المسلحة الاندونيسية هو فرق الكوماندوس والمغاوير المدربة تدريباً اميركياً مكثفاً ومجهزة بوسائل للنقل السريع والأسلحة المتطورة. ويبلغ عدد قوات مشاة البحرية الاندونيسية 12000 شخص مجهزين بشكل جيد، بالاضافة الى قوة مغاوير مجوقلة يبلغ عدد افرادها اكثر من 7000 شخص. وهذا يعطي اندونيسيا مقدرة هجومية كبيرة ضد جيرانها من ذوي الامكانات المحدودة. السيناريوهات المحتملة من السيناريوهات التي يخشاها المراقبون هو ان يتمكن احد الضباط القوميين من الوصول الى السلطة وشن حملات عسكرية توسعية من أجل تأجيج المشاعر الوطنية وصرف نظر المواطنين عن المشاكل الاقتصادية. كما يخشى الغرب من استغلال قادة الاحزاب الاسلامية تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية للوصول الى السلطة وانشاء دولة اسلامية او نشر التطرف الديني في المنطقة. ويخشى العالم ايضا، حسب "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية"، ان تتفكك اندونيسيا وتنتشر الفوضى والقرصنة في هذه الممرات المائية الأساسية. لذلك، تحرك المجتمع الدولي بسرعة للسيطرة على الأوضاع في تيمور الشرقية. وكان اللجوء الى استراليا خياراً طبيعياً كونها قريبة جغرافيا وتملك اسطولاً بحرياً حديثاً إلا ان استراليا ليست بالقوة العسكرية الكبيرة. بل ان حجم قواتها لا يبلغ ربع قوة الجيش او البحرية الاندونيسية. كما ان تفوق سلاح الجو الاسترالي، والمكون من 126 طائرة طراز اف - 18 واف - 111 الاميركية الصنع، يعتبر تفوقاً متواضعاً ومحدوداً. ويذكر ان عدد القوات المسلحة الاسترالية مضافاً اليها الاحتياط لا يتعدى 90 الف شخص. هناك العديد من الأسئلة المطروحة عن مستقبل اندونيسيا وأبعاد التطورات فيها على سائر دول المنطقة. وستنجلي الصورة أكثر مع الطريقة التي ستتعامل بها جاكرتا مع انتشار القوات الدولية في تيمور الشرقية. فهل ستستمر القوات العسكرية بدعم الميليشيات المناوئة لاستقلال تيمور الشرقية، وهل ستشجعها على مهاجمة القوات الدولية؟ دعت بعض الاحزاب الاندونيسية الى حرب جهادية ضد القوات الدولية في تيمور. وهل سيوافق البرلمان الأندونيسي على التخلي عن تيمور الشرقية ومنحها الاستقلال؟ وماذا سيكون رد فعل القيادة العسكرية الاندونيسية حيال ذلك، وهل ستتمكن من المحافظة على وحدة البلاد؟ كلها اسئلة أساسية يصعب التكهن بأجوبتها وعواقبها. وتنظر الدول المجاورة بترقب كبير لما سيحدث في اندونيسيا، خصوصاً وان عدوى الاضطرابات تنتقل تدريجاً الى ماليزيا حيث النظام هناك شبيه جداً بما كانت عليه اندونيسيا في عهد سوهارتو. فالرئيس الماليزي مهاتير محمد متمسك بالسلطة منذ 17 عاماً ويواجه اليوم مشاكل سياسية واقتصادية، ويحاول جاهداً مقاومة رياح العولمة التي هبت قبل أكثر من عقد على الفيليبين وتعصف اليوم بشكل خطير باندونيسيا.