عقدت الأحد الماضي 8/7/2001 الدورة الثانية للانتخابات الألبانية، التي طال انتظار نتائجها نظراً الى اهميتها المحلية والاقليمية في هذا الظرف بالذات. ومن اهم نتائجها بروز وهم "ألبانيا الكبرى". وكان شعار مشروع "ألبانيا الكبرى" طُرح بقوة طيلة العام 2000 مع اندلاع النشاط الألباني المسلح في جنوب صربيا وخلاله، ثم في مقدونيا مع بداية 2001، حين اوحت الصحافة الصربية والمقدونية والروسية وغيرها الى ان كل هذه التحركات تصب في مصلحة مشروع "ألبانيا الكبرى"، الذي اصبح يُعتبر "الخطر الأكبر" على البلقان. ومع أن الأحزاب الألبانية الرئيسة في ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا كانت تنفي باستمرار وجود مثل هذا "المشروع" وتعتبر انه من صنع الدعاية المضادة للألبان وترويجها في البلقان والعالم، وذلك لخلق الانطباع بأن الألبان وراء كل توتر في البلقان. إلا ان الانتخابات الأخيرة في ألبانيا جاءت في الوقت المناسب لتوضح الموقف على الأرض في اهم دائرة ألبانيا. فوجود مشروع مثل "ألبانيا الكبرى" مرتبط اساساً بألبانيا الحالية، إذ لا وجود له اذا كانت ألبانيا ذاتها غير معنية به. من هنا كان من المهم قراءة مثل هذا "المشروع" في الانتخابات الأخيرة للتعرف الى مدى وجوده على الأرض او عدم وجوده. وفي الواقع، بدأ هذا "المشروع" يتبخّر منذ شهر ايار مايو الماضي، اي في الوقت الذي كان فيه البعض يروّج لخطر "ألبانيا الكبرى"، وذلك بالاستناد الى الصحافة الألبانية نفسها في تيرانا او بريشتينا. فكان من المتوقع، كما كان الأمر في انتخابات 1992 و1997، ان تهتم الصحافة الألبانية في الجوار كوسوفو ومقدونيا اكثر بهذه الانتخابات نظراً الى ضراوة المنافسة فيها بين الحزب الديموقراطي بزعامة صالح بريشا والحزب الاشتراكي بزعامة فاتوس نانو، اذ ان لكل حزب اجندته الخاصة في ما يتعلق بألبان الجوار. فالحزب الديموقراطي، الذي يعتمد في تأييده على ألبان الشمال - الغيغ الذي يتداخلون بقوة مع ألبان كوسوفو، انتهج خلال وجوده في الحكم خلال 1992 - 1997 سياسة مؤيدة لألبان الجوار بما في ذلك تأييد استقلال كوسوفو واتحادها ديموقراطياً مع ألبانيا. اما الحزب الاشتراكي الشيوعي السابق، الذي يعتمد في تأييده على ألبان الجنوب - التوسك حوالى نصفهم من الأرثوذكس، فهو يميل الى سياسة "واقعية" تشجّع الألبان على التمتع بحقوقهم كأقليات في الدول التي يعيشون فيها، ويفضل، بالاستناد الى ذلك، سياسة تعاون مع الدول المجاورة اليونان ومقدونيا ويوغوسلافيا. ولكن، كان من المثير للانتباه هذه المرة ان الصحافة الألبانية في كوسوفو، التي تنافس صحافة ألبانيا من حيث الكمّ والنوع، لم تهتم كثيراً بالانتخابات في ألبانيا التي بدأ العد التنازلي لها الى حد أنني سألت صديقاً صحافياً معروفاً في بريشتينا: "هل نسيتم ان الانتخابات المقبلة على الطريق، ولماذا هذا التجاهل لها في الصحافة؟". وفي انتظار الجواب الذي لم يصل كان يبدو بوضوح ان احداث مقدونيا تثير من الاهتمام في صحافة كوسوفو اكثر بكثير من الانتخابات في ألبانيا. وربما كان هذا يعود في ما يعود الى التداخل القوي بين ألبان كوسوفو وألبان مقدونيا نتيجة 50 سنة من العيش في دولة واحدة يوغوسلافيا كانت الحدود بينهما ادارية، وإلى القلق المبرر من انعكاس الأحداث في مقدونيا على الوضع في كوسوفو. فقد كان القلق ينبع أساساً من تدفق الألبان - اللاجئين من مقدونيا الى كوسوفو الذين تجاوز عددهم 50 ألفاً عشية الخوف من اندلاع "حرب اهلية"، إذ ان هذا العدد يمكن ان يتضاعف مرات بسرعة ويخلق وضعاً خطيراً لا تستطيع فيه كوسوفو لوحدها السيطرة عليه. ولكن هذا السبب الوضع في مقدونيا لم يكن يكفي وحده لفهم هذا "التجاهل" المستمر في الصحافة الألبانية في كوسوفو للانتخابات في ألبانيا. من هنا لا بد من البحث عن سبب آخر في الصحافة الألبانية في ألبانيا ذاتها. إلا ان تتبع الحملة الانتخابية في هذه الصحافة، وبالتحديد مدى حضور كوسوفو وألبان الجوار في هذه الحملة، كان يزيد من الاستغراب اكثر. ففي انتخابات 1992 و1997 كانت كوسوفو هي احدى القضايا المركزية في الحملة الانتخابية بين الحزبين الرئيسين الحزب الديموقراطي والحزب الاشتراكي، حيث ان الحزب الديموقراطي ركز على هذه القضية اكثر لكسب المزيد من الأصوات. ولكن، في هذه الأيام لم تعد كوسوفو حاضرة في الحملة الانتخابية الضارية بين الحزبين الرئيسين، ولم تعد من القضايا الرئيسية التي يحاول كل حزب ان يسجل موقفه منها ليكسب المزيد من الأصوات. وربما يعود هذا الى ان كوسوفو خلال انتخابات 1992 و1997 كانت في وضع صعب نتيجة للحكم الصربي المتعسف آنذاك، وبذلك كان كل حزب يحاول تسجيل المواقف لمصلحتها سواء على الصعيد البلقاني او الدولي. ولكن، بعد التدخل الدولي في 1999 أخذت كوسوفو تتجه نحو الاستقلال بسرعة، وهو لا يعني بالضرورة الاتحاد مع ألبانيا لاعتبارات فرضت نفسها مع مرور الزمن. ولكن، ربما السبب الأهم في ذلك ان المواطن الألباني لم يعد يعنيه كما كان الأمر قبل عشر سنوات الوضع الإقليمي الألباني - الألباني والبلقاني بمقدار ما يهمه الوضع الداخلي وبالتحديد المستوى المعيشي. من هنا انصب التنافس في الحملة الانتخابية بين الحزبين الرئيسين على الوضع الداخلي في الدرجة الاولى وليس على كوسوفو ومقدونيا. وهكذا ركز الحزب الاشتراكي خلال الحملة الانتخابية على جذب الشباب للتصويت له بالاعتماد على سجله في الحكم خلال 1997 - 2001 في بناء البنية التحتية وفتح فرص عمل جديدة للشباب في البلاد. اما الحزب الديموقراطي فركز في حملته الانتخابية على رفع الرواتب وتحسين مستوى المعيشة. استمرت هذه المؤشرات الجديدة والمهمة حتى اليوم الأخير من الحملة الانتخابية، ولفتت مع مرور الأيام نظر الكثيرين، ولكن كانت تحتاج الى جرأة للتعبير عنها والاعتراف بها كمتغيّر مهم على الصعيد الألباني - الألباني. وهكذا اخذ "مركز الاعلام في كوسوفا" تشيك على عاتقه مثل هذه الجرأة ليقول في بيان - تعليق له عشية الدورة الأولى للانتخابات في ألبانيا 23/6/2001: "هذه اول حملة انتخابية في ألبانيا يتم فيها "تجاهل" كوسوفو الى هذا الحد، كما انها اول انتخابات في ألبانيا تقابل بمثل هذه اللامبالاة في كوسوفو"!. وهكذا يمكن القول ان الانتخابات الأخيرة في ألبانيا، التي ساد فيها ما هو داخلي - ألباني على ما هو خارجي - قومي ألباني، والتي فاز فيها لذلك الحزب الاشتراكي، تؤشر الى ان "ألبانيا الكبرى" لم تعد موجودة إلا في مخيّلة - ماكينة المصرّين على وجودها لخدمة الأجندة الخاصة بهم التي لم تعد راهنة. وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة الى ان الحل الذي يبدو في الأفق في مقدونيا تعديل دستوري يحوّل مقدونيا الى دولة مدنية - تعددية للجميع و"الإطار الدستوري" الذي اصدرته الادارة الدولية في كوسوفو الذي سيتوضح مع اجراء الانتخابات العامة في 17 تشرين الأول/ اكتوبر المقبل ستضع آخر النقاط على حروف نعش "ألبانيا الكبرى". * باحث وأستاذ جامعي - الأردن.