تجرى في البلقان خلال هذه السنة انتخابات مهمة عدة لها دور أساسي في صوغ مستقبل المنطقة. وهذه "الدورة" الانتخابية تبدأ في الجبل الأسود وتنتقل في الصيف الى بلغارياوألبانيا ثم تنتهي في الخريف في كوسوفو. ومن هذه تتداخل في تجاورها وفي نتائجها الانتخابات في الجبل الأسود وألبانيا وكوسوفو، ويجمع بينها العنصر الألباني. فالألبان كأقلية لهم دور مهم في انتخابات الجبل الأسود، حتى يقال بامتعاض إن الأقليات الألبان والبشناق والكروات هي التي ستحسم مستقبل الجبل الأسود. وفي ألبانيا يستعد الحزب الديموقراطي برئاسة صالح بريشا للعودة الى السلطة وفي ذلك مؤشر مهم نظراً لاهتمام هذا الحزب بعلاقة أوثق مع الألبان في الجوار أي الجبل الأسود وكوسوفو ومقدونيا، وأخيراً ستأتي انتخابات كوسوفو بعد ان يكون الوضع تبلور على نحو ما في الجبل الأسود وصربيا وألبانيا لتساهم بدورها في تكريس الوضع الذي سيكون عليه البلقان بعد كل هذه الانتخابات. وفي ما يتعلق بانتخابات الجبل الأسود تبدو الآن هي الأهم لأسباب عدة، إذ يفترض ان تحسم مصير الدولة في قلب البلقان يوغوسلافيا والخيار أو البديل لها في المستقبل القريب. ويلاحظ هنا ان الغرب الذي دعم الرئيس الحالي ميلو جيوكانوفيتش في وجه سلوبودان ميلوشيفيتش خلال 1998 و1999، ونجح في تحييد الجبل الأسود تماماً خلال التدخل العسكري في ربيع 1999، أخذ يراجع حساباته مع الجبل الأسود بعد سقوط ميلوشيفيتش في خريف 2000. فقد أدى دعم الغرب للجبل الأسود الى نمو نزعة الاستقلال في هذه الجمهورية المتغيرة، ولكن ذات الموقع المهم بالنسبة الى استمرار أو عدم استمرار يوغوسلافيا، حتى أصبحت تعبر عن واقع مستقل بالفعل عملة مختلفة وسياسة خارجية مختلفة الخ. ولكن في المقابل طرح هذا التوجه القوي للاستقلال مستقبل كوسوفو المجاورة. فمع استقلال الجبل الأسود عن صربيا التي تربطهما اللغة والثقافة المشتركة لن يكون هناك ما يقنع الألبان في كوسوفو في الاستمرار مع صربيا في دولة واحدة إذ لا توجد لغة وثقافة مشتركة تربط بينهما. ونظراً لأن خيار الاستقلال الآن بالنسبة لكوسوفو لم يحسم بعد رفض روسي قوي وتحفظ أوروبي وتردد أميركي فقد برز من جديد خيار "تجديد" يوغوسلافيا. وهكذا بدأ الأمر مع تقدم يوغوسلافيا بطلب جديد لانضمامها الى الأممالمتحدة كدولة جديدة ليست وريثة ليوغوسلافيا السابقة في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، وتقديم الرئيس الجديد فويسلاف كوشتونيتسا مشروعاً جديداً للفيدرالية مع الجبل الأسود في مطلع كانون الأول ديسمبر الماضي، وتبع ذلك في سابقة لا مثيل لها دعوة كوفي عنان لإعادة ترتيب يوغوسلافيا ككونفيدرالية تضم صربيا والجبل الأسود وكوسوفو في 18/12/2001، وتتوج ذلك في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسيل الذي انتهى في البيان الختامي 22/1/2001 الى دعوة قادة صربيا والجبل الأسود الى التفاوض بشكل ديموقراطي لوضع نظام دستوري جديد للدولة المشتركة. وعلى عكس المتوقع أدى هذا الموقف الجديد للاتحاد الأوروبي الى تأجيج نزعة الاستقلال اكثر. فتتالت التصريحات والانتقادات على أعلى المستويات لهذا الموقف، الذي وصف ب"الجريمة" لأنه يصادر حق الشعب الأسود في تقرير المصير وقورن ب"الجريمة" الأولى لأوروبا في 1920 حين وافقت على ضم مملكة الجبل الأسود الى صربيا/ يوغوسلافيا. وفي هذا السياق الانفعالي وافق زعماء الأحزاب السياسية بعد يومين فقط 23/1/2001 على الدعوة الى انتخابات مبكرة تكون بمثابة الاستفتاء على الاستقلال، وترك للبرلمان الجديد ان يقرر موعد الاستفتاء على الاستقلال فيما لو كانت الغالبية تؤيد ذلك بطبيعة الحال. ولم يمض سوى شهر حتى بدأت التطورات تتلاحق وتضغط بدورها على هذه الانتخابات التي تأتي الآن وسط تجاذبات محلية وإقليمية ودولية حول مستقبل البلقان. وفي هذا الإطار لا بد من ذكر اهم هذه التطورات خلال شهر آذار مارس السابق فقط: 1- الاتفاق بين صربيا وجمهورية الصرب في البوسنة على إقامة "علاقة خاصة"، الذي جوبه بنقد شديد من زغرب باعتباره الخطوة الأولى نحو "صربيا الكبرى". 2- إعلان الكروات عن تأسيس كيان لهم في البوسنة اسوة بالصرب جمهورية الصرب، ورفض الغرب لذلك خشية انهيار البوسنة انضمام جمهورية البوسنة الى صربيا وانضمام الكيان الكرواتي الى كرواتيا في المستقبل. 3- انفجار العنف في مقدونيا المجاورة بعد هدوء مميز لهذه الجمهورية اليوغوسلافية السابقة، وتصعيد متعمد لخطر "ألبانيا الكبرى" في البلقان وتلميح الى تحرك مماثل للألبان في الجبل الأسود. 4- اعتراف بلغراد المفاجئ بالوجود القومي للبشناق عوضاً من المسلمين في يوغوسلافيا، الذي أحيا من جديد مصير السنجق المقسم بين صربيا والجبل الأسود وأخذ يدفع بعض البشانقة المسلمين في الجبل الأسود للتصويت على الاستمرار مع يوغوسلافيا لكن يبقى السنجق في دولة واحدة عوضاً عن ان ينقسم الى دولتين. 5- تعظيم دور ومصير المونتنغريين في صربيا تضخيم العدد حتى 300 ألف أي حوالى 50 في المئة من عدد المونتنغريين في الجبل الأسود، سواء في ما يتعلق بحسم موضوع الاستقلال أو مصيرهم ما بعد الاستقلال. 6- الخلاف المتزايد بين قطبي السلطة في بلغراد، وبالتحديد بين رئيس الحكومة الصربية زوران جينجيتش وبين رئيس يوغوسلافيا الموجودة وغير الموجودة فويسلاف كوشتونيتسا، الذي بدا بشكل واضح ليلة القبض على ميلوشيفيتش 31/3/2001. وهذا الخلاف يمثل خيارين واضحين ليبرالي مؤيد للغرب وقومي صربي محافظ بتداعيات على تطور الأوضاع في الجبل الأسود وكوسوفو. وإضافة الى ذلك تميز النصف الأول من شهر نيسان ابريل الحالي ب"حرب التصريحات" بين كوشتونيتسا وجوكانوفيتش و"تدخل" جديد للاتحاد الأوروبي مع اقتراب موعد الانتخابات. وهكذا صرح جوكانوفيتش انه يعتبر ان يوغوسلافيا لم تعد موجودة كدولة 6/4/2001 بينما رد كوشتونيتسا بنوع من التحذير أنه لا يعارض استقلال الجبل الأسود "إذا صوتت الى جانبه غالبية سكان الجبل الأسود مع وجود مؤشرات الى أن الأقلية الألبانية فيها ستحذو حذو مثيلتها في مقدونيا". وبعبارة أخرى فإن تصريح كوشتونيتسا يحمل من التحذير اكثر من الترحيب بمثل هذا الاستقلال. ومن ناحية أخرى تزامن هذا التصريح لكوشتونيتسا 9/4/2001 مع انعقاد اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ الذي أعلن في هذه المناسبة أيضاً عن دعمه لبلغراد. وعلى رغم كل هذه التطوات والتصريحات المتلاحقة التي توحي بأهمية هذه الانتخابات لمستقبل الجبل الأسود أو يوغوسلافيا أو البلقان إلا أن الأيام الأخيرة تمر هادئة في بودغوريتسا وغيرها من مدن الجبل الأسود. أما السبب في ذلك، كما يراه تقرير معهد الحرب والسلام IPWR 12/4/2001 فيكمن في ان الناخبين قد حسموا امرهم تقريباً خلال الشهور الماضية، وهم ينتظرون اليوم المحدد 22/4/2001 للإدلاء بأصواتهم. وحسب تقديرات هذا التقرير فإن نسبة المؤيدين للاستقلال ارتفعت من 40 في المئة الى 53 في المئة بينما تراجعت نسبة المؤيدين للاستمرار في يوغوسلافيا من 35 في المئة الى 30 في المئة وهناك فقط 5 في المئة لم يحسموا امرهم بعد. وفي إطار التنافس بين الطرفين في الحملات الانتخابية يركز فريق الاستقلال على أن "استقلال الجبل الأسود يعني نهاية مشروع صربيا الكبرى"، بينما يركز دعاة الاستمرار في يوغوسلافيا على أن صالح الشعب المونتنغري إنما هو في الاستمرار لكي لا يتفسخ هذا الشعب بين صربيا والجبل الأسود ولكي لا يكون المونتنغريون في الجبل الأسود تحت رحمة الأقليات. وفي هذا الإطار يأتي تصريح كوشتونيتسا الذي يحمل الترحيب في ظاهره والتحذير في باطنه ليثير من جديد التخوف من تدخل بلغراد. فالتوقعات الحالية لن تعطي غالبية كبيرة لفريق الاستقلال، وهذا يذكر بالاستفتاء على الاستقلال في البوسنة الذي عارضه حوالى 35 في المئة وهي النسبة المتوقعة في الجبل الأسود، ولذلك يبقى موقف بلغراد مهماً من "الغالبية" التي ستصوت للاستقلال. فدعاة الاستقلال يقولون إن كل شيء سيسير على ما يرام، ولكن المهم ألا تتدخل بلغراد في الجبل الأسود كما تدخلت في البوسنة بتحريض الأقلية المؤيدة لها على رفض التوجه الى الاستقلال. وبالاستناد الى هذا يمكن القول إن الانتخابات ستفتح المجال امام احتمالات عدة: 1- فوز فريق الاستقلال شبه مؤكد بالاستناد الى استطلاعات الرأي، ولكنه لن يحصل على غالبية كبيرة من الأصوات. وفي هذه الحال فإن من المهم تحديد موقف بلغراد، إذ إن هذا الموقف يدخل أيضاً ضمن الخلاف بين جناحي السلطة كوشتونيتسا وجينجيتش. 2- يبدو الغرب مؤيداً لاستمرار يوغوسلافيا، ولكن فوز فريق الاستقلال إنما يلغي وجود منصب كوشتونيتسا رئيس يوغوسلافيا في بلغراد ويبرز بقوة جينجيتش المؤيد للغرب، وهذا ما سيكون لصالح الغرب لأن استمرار كوشتونيتسا يعني في ما يعنيه استمرار هواجس "صربيا الكبرى" في المنطقة. 3- مع إعلان فوز فريق الاستقلال لا بد من الانتظار شهرين على الأقل لتنظيم الاستفتاء على الاستقلال، وهذه ستكون فترة كافية لممارسة الضغوط على بودغوريتسا للاستمرار في يوغوسلافيا. وحتى في هذه الحال فإن الاستقلال لن يتعارض مع أي ترتيب كونفيدرالي يثبت ما حصلت عليه جمهورية الجبل الأسود من استقلال في السنوات الثلاث الأخيرة، ويسمح لكوسوفو أيضاً بالاستمرار في هذا الإطار المشترك والفضفاض. وفي غضون ذلك، لا بد لبلغراد ان تنطلق مما تحقق في الجبل الأسود وكوسوفو وتقدم مشروعها للرابطة الجديدة كونفيدرالية يوغوسلافيا الجديدة التي تشجع الجبل الأسود وكوسوفو على الاستمرار في الإطار المشترك. فمشكلة بلغراد أنها تباطأت، بسبب تركة ميلوشيفيتش، في تقديم مشروع وأساس مقبول للتفاوض حول المستقبل. ومن الأفضل لاستقرار المنطقة ان تقدم بلغراد مثل هذا المشروع الآن على أن توجه مثل ذلك التحذير المبطن من الإقدام على الاستقلال.