يحتل الجيش مكان الصدارة في تاريخ الآشوريين، لا سيما في العصرين الوسيط والحديث، اذ كان له الدور الاول في حماية أمن الدولة وتثبيت اركانها ومواجهة الاخطار والتحديات التي احدقت بها من كل جانب، وكادت تقضي عليها. وأكدت الخطوط العامة التي تحكم سياسة الملوك في عصرهم الوسيط على تأسيس دولة مركزية قوية تهيمن على منطقة شملت وادي الرافدين، على غرار الدولة الاكدية ودولة اور الثالثة ودولة حمورابي. وحرص الآشوريون على تنفيذ هذه السياسة لكي يتمكنوا بعدها من حماية دولتهم من الاعتداءات الخارجية وضمان امن طرقهم التجارية وسلامتها الموصلة الى مصادر المواد الخام. وكان عليهم من اجل تحقيق ذلك ان يخوضوا حروباً كثيرة مع اقوام تختلف عنهم عرقياً وحضارياً وتحيط بهم من كل جانب، غير انهم خرجوا من كل ذلك وهم اصلب عوداً وأقوى عزيمة. وكان للخبرة الممتازة التي اكتسبوها من جراء دخولهم المعارك مع اقوام مختلفة وفي بيئات متباينة اكبر الاثر في زيادة قوتهم العسكرية وتفوقها على الاعداء حتى اصبح الجيش الآشوري في العصر الحديث اقوى قوة ضاربة في الشرق الادنى القديم. فامتدت رقعة الدولة لتشمل اجزاء من آسيا الصغرى وبلاد الشام ومصر اضافة الى وادي الرافدين بما فيه منطقة عيلام على الحدود مع ايران وسواحل الخليج العربي. واتصف الآشوريون الى جانب قوتهم العسكرية بالشدة التي عالجوا بها الفتن التي كانت تقوم في بعض الاقاليم، لا سيما الحدودية، ضد الدولة المركزية. لم تكن التنظيمات العسكرية الآشورية واضحة الحدود، فبعض هذه الصنوف لا استقلال ادارياً واضحاً لها كالطبابة والتموين والنقل ...الخ. وعلى هذا يمكن تقسيم تنظيمات الجيش الى ثلاث مجموعات هي: الصنوف المقاتلة، الصنوف المساعدة، والخدمات الادارية. وتندرج المخابرات في مجموعة الصنوف المساعدة. وما ورد في الكتابات المسمارية يعطينا صورة بسيطة نوعاً ما عن اعمالها وتنظيماتها، التي تشتمل على الاستخبارات والشرطة والبريد والهندسة. المخابرات والتجسس أولى الآشوريون المخابرات والتجسس اهمية كبيرة اذ كانت الشبكات منتشرة في انحاء الامبراطورية وفي مختلف مدن ومراكز الاعداء. واتبعت مختلف الوسائل لتحقيق اهدافها في ضمان سلامة الامبراطورية وأمنها. ويعرف من يقوم بالاستطلاع والتجسس باسم دالي DA-A-A-LI ويعرف رئيسهم او آمرهم براب دالي RAB DA-A-A-LI. وهؤلاء العملاء منظمون في شبكات عدة تناط ادارتها وتوجيهها في الغالب بأحد حكام احدى الولايات او ممثلي الملك فيها الذين يقومون بدورهم بارسال التقارير باستمرار الى الملك يعلمونه عن كل جديد في اخبار وتقارير هؤلاء المخبرين. ومعظم التقارير أتت من الجبهة الشمالية الشرقية، اذ كانت بلاد آشور في نهاية القرن الثامن تواجه مملكة اورارتو ارمينيا الحالية. وتقدم رسائل الضباط من هذه الجبهة ادلة عدة على استخدام الجواسيس والعملاء للحصول على معلومات عن مواقع قوات اورارتو. وعلى رغم الحملة العسكرية التي جردها تغلاتبليزر الثالث وغزوه للنواحي الشرقية من جبال زغروس وتوغله في الاراضي الايرانية وفي بلاد الماديين، حافظت اورارتو على وضعها القوي في الشمال واستمرت تلعب دور المنافس الرئيسي للآشوريين وتتربص بهم. ومع اعتلاء حفيد تغلاتبليزر الثالث، سرجون الثاني، العرش، حاول بتدخلاته المتكررة فرض سيادته على تلك المنطقة. إلا ان روساس الاول، ملك اورارتو افلح في استبدال الحكام المانايين الموالين للآشوريين بحكام آخرين متحالفين معه وذلك في الفترة الواقعة بين عامي 719 - 715 ق.م. اضافة الى تحريض الممالك الاخرى كتوروشبا وفيرجي وملكها ميداس. وازاء هذا الوضع، لم يجد سرجون بداً من التدخل لإعادة الامور الى نصابها فجرّد في العام 714ق.م. حملة قادها بنفسه عرفت باسم حملة سرجون الثامنة في عام حكمه الثامن. ودونت اخبارها المفصلة وجاءت على هيئة رسالة بعثها الملك الى الاله آشور والآلهة الاخرى على انها تقرير حربي من سرجون بصفته القائد الأعلى للجيوش. وتعد هذه الرسالة على مقدار كبير من علو الاسلوب الأدبي، كما يتجلى ذلك في الوصف الشعري للجبال والأنهار والغابات التي مرّت بها جيوش سرجون وما لاقته من اهوال ومصاعب. طبعاً لم يتخذ سرجون قرار المباشرة بالحملة معتمداً على المنجمين والفصل المناسب وحسب بل على رسائل الضباط ورجال المخابرات الذين ارسلوا تقارير يتحدثون فيها عن حركة جنود اورارتو مع تفصيل الاعداء وطرق المسار والمواقع النهائية للتحركات. وتفيد احدى الرسائل ان خمسة من ولاة المناطق في اورارتو، تذكرهم بالاسماء، حشدوا جيوشهم في مدينة معينة استعداداً لشن حملة ما. ثم تأتي اضافة مهمة "في ما يخص الامر الذي ارسل لي الملك سيدي، رسالة بشأنه قائلاً: ارسل رجل استطلاع دايالو الى هناك، فإنني ارسلت اناساً مرتين. بعضهم عاد وقدّم هذه المعلومات وبعضهم الآخر لم يعد حتى الآن". ولأجل الحصول على تفاصيل مثل اسماء ولاة العدو، من المفروض ان "الدايالو" كان يقيم اتصالات مع السكان المحليين داخل الاراضي المعادية، اما من طريق أسر البعض واستجوابهم او من طريق الجواسيس المأجورين، وهنالك امثلة على استعمال الاسلوبين كليهما. وفي تقرير ارسله احد العملاء بواسطة عامل سرجون في أورارتو أوباحربيل يقول فيه بأنه مستمر في مراقبة الحاكم من مدينة الى مدينة حتى وصوله الى مدينة توروشبا. وكذلك معرفته فحوى الرسالة التي بعثها الملك الاورارتي الى احد الحكام يأمره فيها بالتوقف عن العمل المتفق عليه الى حين وصول رسالة اخرى منه وعليه ان يطعم الجياد جيداً اثناء ذلك. ومن اشهر عملاء سرجون ايضاً المدعو آشور ريسوا الذي يذكر في احدى رسائله للملك بأن القائد الأعلى للجيش الاورارتي المدعو ككدانو اعتقله الملك الاورارتي. هذه التقارير وغيرها كان لها الفعل الكبير في النصر الذي احرزه سرجون على اورارتو. وهناك مثل آخر على دور المخابرات في ترجيح كفة الحرب لمصلحة الدولة الآشورية. فقد ثار اورزان ملك مدينة مصاصير الواقعة في الشمال قرب بحيرة وان. ولأن التقارير التي وصلت من جهاز المخابرات كانت كافية لتقدم صورة واضحة عن وضع المدينة، قام سرجون، بعد الانتهاء من الحملة الثامنة، وهو في طريق العودة، بارسال الجزء الاكبر من جيوشه الى ارض الوطن ولم يبق معه إلا المشاة وألفاً من الفرسان. وراح يتقدم شرقاً وكأنه يريد الساحل الغربي من بحيرة اورميا. وكانت الخدعة موفقة تماماً، اذ لم يجد سكان مصاصير متسعاً من الوقت للاستعداد ولإخفاء كنوزهم فسقطت المدينة ورحّل سكانها كما امر سرجون بأن يضم الى الكنوز تمثال الإله هالدي وهو الإله الاسمي للمدينة. اما في منطقة عيلام على الحدود الشرقية مع ايران فكان هناك الكثير من رجال المخابرات واتصفت الاخبار التي ارسلوها بالوضوح خصوصاً عن مدى تأييد سكان المناطق المحتلة. وكان بيل أبني مسؤولاً عن جميع المنطقة الجنوبية لبلاد وادي الرافدين وبلاد عيلام وتحت امرته الكثير من الرجال المنتشرين داخل بلاد عيلام يزودونه دائماً بتقارير مستمرة تعلمه بآخر التطورات في تلك المنطقة الذي بدوره يرفعها الى الملك آشور بانيبال. وربما يكون من واجبات رجال الاستخبارات مراقبة موظفي الدولة في البلاد فهذا احد رجال المخابرات يخبر الملك في تقرير خاص بأن حاكم مدينة دور-شروكين سرق بيت المال. وتتبع شبكات التجسس مختلف الوسائل لمعرفة الاخبار وقد تلجأ الى خطف الرجال وتهديدهم بالقتل اذا امتنعوا عن اعطاء المعلومات المطلوبة منهم. وجاء في احد التقارير من زمن آشور بانيبال بأن عامل الملك في مدينة اوروك أسر عدداً من الجنود وآمرهم واستجوبهم فأجابوا ارسلنا سخدوا اخ نابو أوشيزب مع هذا الامر: "اذهبوا وأسروا الرجل الذي بالقرب من منطقة اوروك لأتمكن من سؤاله عن عدد ومقدار القوة الآشورية التي هناك وما هي اهدافها". ويستدل من هذا التقرير على التقدم الذي بلغته الاستخبارات الآشورية في حذرها ويقظتها وتمكنها من ضرب تحركات الاعداء. وتدل ايضاً الى ما تفرضه من سرية على تحركات قواتها ومناطق حشودها. وربما كانت رسائل المخبرين السبب في عدد من الحروب التي نشبت بين الآشوريين وأعدائهم اذ كثيراً ما كانوا يقومون بالهجوم عند سماعهم اخباراً عن قيام ملك ما يحشد جيوشه او التحرش بإحدى الحاميات. وجاء في رسائل بيل أبني، مسؤول المنطقة الجنوبية وبلاد عيلام، الى آشور بانيبال بأنه علم من رجال استخباراته بأن الجيوش العيلامية اعتدت على مدينة نفر. ويعتبر بيل أبني هذا الحادث بداية لشن حرب واسعة ضد الآشوريين. ويتوقع ايضاً ان يعلن بعض سكان المناطق المعادية للسيطرة الآشورية العصيان تضامناً مع العيلاميين عند سماعهم بهذا الهجوم. وأخيراً لا بد من ذكر العملية الناجحة التي نفذتها المخابرات الآشورية حين استطاع رجالها كشف التحالف السري بين ملك بابل وبعض المدن الفينيقية ومملكة يهوذا وبعض القبائل العربية في بادية الشام والكلديين الآراميين في الاجزاء الجنوبية من العراق والعيلاميين ومصر للقضاء على الدولة الآشورية وملكها آشور بانيبال الذي فاجأ المتحالفين وقضى عليهم الواحد تلو الآخر وخصوصاً عيلام التي دمرها نهائياً.