الكتاب: "الحياة اليومية في العراق القديم بلاد بابل وآشور . الكاتب: هاري و.ف. ساجز . ترجمة: كاظم سعدالدين . الناشر: "دار الشؤون الثقافية العامة" بغداد 2001. يوفر كتاب أستاذ اللغات السامية في جامعة كارديف عضو معهد الدراسات الشرقية والافريقية في جامعة لندن هاري و.ف.ساجز والصادرة ترجمته العربية حديثاً في بغداد مرجعاً مهماً للقراء المأخوذين بحضارات العالم القديم، وخصوصاً وادي الرافدين. والكتاب الذي ترجمه كاظم سعدالدين وصدر عن "دار الشؤون الثقافية العامة" عرض لنشوء الحكم واختراع الكتابة والمدارس وإدارة شؤون الدولة والدفاع عنها، وما تداول الناس من صناعات وما احترفوا من مهن وما سنّوا من شرائع. في الفصل الأول الذي حمل عنوان "حضارة منسية" يقول المؤلف ساجز ان منجزاً "من أعظم المنجزات البشرية، حضارة بابل وأشور ظل مطموراً طوال أكثر من ألفي عام وكاد يكون منسياً في العراق ما بين النهرين قديماً. وبقي شيء من الوصف عنه، لا يعول على صحته، في الأدب الإغريقي، مع بعض الأقوال التوراتية، لعلها متميزة، عن الأشوريين". ومع "فحص اكثر علمية" لتلال العراق القديمة قام به كلوديوس جيمز رج الشاب الإنكليزي ممثل "شركة الهندالشرقية" في بغداد أثناء زيارته بابل عام 1811، وقيامه بمسح الموقع، بدأت مرحلة من التنقيبات التي عرضت شيئاً فشيئاً ل"علم الأشوريات". وكانت مجموعته من الآثار التي حملها من بابل وبيعت الى المتحف البريطاني "أساس مجموعة الأشوريات العظيمة فيه المتحف، وتعد الان من أنفس المجموعات في العالم". وفي عام 1840 وصل شاب انكليزي آخر الى العراق ليضع بعد احد عشر عاماً من التنقيب الآثاري الأركيولوجي علم "الأشوريات" على أساس سليم. وفي نمرود بدأ هنري اوستن لايارد تنقيباته متوقعاً أنه بدأ فتح الأسرار المغلقة لنينوى أحد العواصم الأشورية، فيما كان في الواقع ينقب في كالح المذكورة في "سفر التكوين". وبعد الإنكليزيين رج ولايارد جاء الفرنسي بول بوتا القنصل الذي بدأ تنقيباته عام 1842 في موقع عمله الرئيسي في خرساباد شمال شرق مدينة الموصل اليوم. وكانت التنقيبات التي جمعت لايارد وبوتا في مواقع خرساباد وقوينجق ونمرود أكدت أنهما عملا في خرائب المدن الرئيسية في حقبة العظمة الأشورية بين القرن التاسع والسابع قبل الميلاد، فيما ألقت المكتشفات أضواء جانبية على شيء من التاريخ التوراتي، وعلى الطبيعة المذهلة لكثير من اللقى الأولى ذاتها الثيران والأسود المجنحة التي تعد من المعالم المثيرة للإعجاب في المتحف البريطاني ومتحف اللوفر. كما أن اللقى الأولى التي جاءت من أشور هي التي أدت الى العلم الذي سمي علم "الأشوريات" على رغم ان أشور لا تشكل فيه إلاّ جزءاً فقط وليس أهم جزء من الحضارة التي يشير إليها. يحدد المؤلف بلاد بابل وأشور القديمة بأنها تشمل على وجه التقريب المنطقة التي تعرف بالآن بالعراق على رغم ان بعض الأماكن المهمة في تلك البلاد تقع في تركيا وسورية. وما بين مئة ميل شمال بغداد وصولاً الى الخليج العربي امتد سهل رسوبي عظيم نشأت فيه الحضارة القديمة وازدهرت حين جاء شعب غريب من مكان ما في الشرق أو الشمال الشرقي ليستقر في منطقة الأهوار جنوبالعراق قبل نحو خمسة آلاف عام، ويبدأ معها السومريون بناء حضارتهم من ثلاثة أشياء هي الشمس والماء والطين عوضت افتقادهم المواد الأساسية للوجود الحضاري: الخشب الصلب والحجر وخامات المعادن. على الطين كتبوا مدوناتهم فكشفت الرقم الطينية وقائع الاستيطان السومري، وما ابتكروه من وسائل وتقنيات في الزراعة والري وبناء المدن. ويرى المؤلف ساجز أن الشكل المميز لنمو المجتمع السومري بدأ في الألف الثالث قبل الميلاد وكان في صورة المدينة السومرية المسورة وعدد من القرى التابعة في الريف المحيط بها، مؤكداً ان أساس المدينة السومرية هو نظام الري ومعبدها الرئيسي المبني على دكة حتى تطور هذا المعبد بمرور الزمن ليصبح البرج المدرّج المعروف ب"الزقورة"، فمعبد المدينة حجري فخم وسكانها يعيشون في بيوت طينية صغيرة. ويتوقف ساجز عند الكاتب بوصفه "أهم رجل، بلا ريب، في مجتمع بلاد النهرين"، مشيراً ان ملوك بابل كانوا سيبسطون سيطرتهم وأن التجار سينظمون استيراد سلع نادرة من بلدان بعيدة، وأن موظفي الري سيتمكنون من جلب الخصوبة الى التربة، ولكن ما من أحد مثل الكاتب جعل إصدار الأوامر وتوفير المعطيات الفلكية لتنظيم التقويم السنوي وحساب قوة العمل الضرورية لشق القنوات وتحديد الأرزاق التي يحتاجها الجيش، أمراً ممكناً. ويوجز المؤلف دور الكاتب والكتابة في بلاد النهرين عبر إشارته "وكانت حضارة بلاد ما بين النهرين حضارة مثقفة قبل كل شيء". ومن الكتابة الى المؤلفات الأدبية السومرية يأخذنا المؤلف قائلاً منذ عام 2000 قبل الميلاد وبدأت المؤلفات الأدبية السومرية تظهر بأعداد كبيرة، فصرنا الآن نعرف نحو 5000 لوح، أو قطعة أدب سومري، مؤكداً أن "التراث الأدبي لم يعد يمكن نقله شفوياً كالسابق وغدا من الممكن حفظه حفظاً يعول عليه في شكل مكتوب". ومع الكتابة وحفظ المدونات الأدبية والحياتية تطور علم اللغة، فتعزز الميل الى تدوين النصوص لحاجة الطلبة الى دراسة اللغة التي كانت أمراً حيوياً في تراثهم الثقافي، ولم تعد اللغة تعلم في أحضان الأمهات، كما لم تعد تستعمل استعمالاً تلقائياً في أمور الحياة اليومية. ومع الكتابة والمعارف واللغة كان لا بد من المدرسة. وتعطينا الوثيقة السومرية فكرة عن إدارة المدرسة وتوزيع مراتب الطلاب فيها، ففي المرتبة العليا يأتي مدير المدرسة "الخبير" أو "أبو بيت الألواح". ويساعده معلم صف مدرسي، فضلاً عن مختصين بموضوعات اللغة السومرية والرياضيات وغيرهما. في المدرسة أيضاً الطلاب المفوضين أو المعلمين التلاميذ و"العرفاء"، الذين يسمون أيضاً "الأخوة الكبار" وهم مسؤولون عن إدخال مقدار من المعلومات واللغة السومرية في عقول التلاميذ الأصغر منهم سناً. وثمة تفصيل ممتع للحياة المدرسية اكتشفه البروفيسور كريمر يخص مقدار الوقت الذي يجاز فيه الطلبة للعطلة في كل شهر 3 ايام. النص كتبه أحد الطلاب في لوح اكتشف في أور وفيه: "حساب بقائي الشهري في بيت الألواح يكون كالآتي: أيام حريتي ثلاثة أيام كل شهر/ واحتفالاتها ثلاثة أيام كل شهر/ وتمثل حياتي في بيت الألواح/ أربع وعشرون يوماً كل شهر/ إنها أيام طويلة. في قمة مهنة الكتابة كان الكهنة من ذوي الرتب العليا، والكاتب كان من يوثق الصفقات التجارية، وهو من كان يعمل في خدمة الحكومة أو المعبد، ولكل موظف له كاتب واحد أو أكثر. وفي الجيش كانت الحاجة تدعو الى الكتبة ليقوموا بوظيفة أمناء الإمدادات والتموين. ومهنة أخرى تتطلب تدريباً كتابياً هي الطب، وكانت الرياضيات جزءاً مهماً من منهج مدرسة الكتابة لا سيما ان الرياضيات البابلية بلغت أوج عظمتها فيما كان الفلك من النشاطات الكتابية البابلية الأخرى المتعلقة بالرياضيات. ولعل أكثر النشاطات الكتابية التي لها صدى لدى الإنسان المعاصر هو أدب بلاد ما بين النهرين القديم حفظ اكثر هذا الأدب في المكتبة العظيمة التي جمعها في نينوى أشور بانيبال وأسلافه. ويعتبر المؤلف "ملحمة جلجامش" أشهر هذه المؤلفات الأدبية، مشيراً أنها في الحقيقة أربع أو خمس قصص سومرية أقدم متداولة، وتتناول معالم مختلفة من موروثات جلجامش. وقام الشاعر البابلي بدمج هذه المؤلفات وخلق مأساة، في قصة واحدة تتحرك قدماً على نحو لا يفتر نحو خاتمتها النهائية. ويوفر ساجز عرضاً وافياً في كتابه للحرف والصناعات القديمة قبل ان يتوقف عند القانون، منوهاً بمسلة حمورابي المسلة الشهيرة التي تحمل قوانين حمورابي الموجودة حالياً في متحف اللوفر. وتم العثور عليها في عيلام جنوبإيران عام 1902، ويعزى وجودها هناك الى أنها نهبت أثناء غزوة عيلامية لأن محتوياتها تبين انها صنعت في بلاد بابل وأقيمت فيها مع ان بعض العلماء يرى أنها جاءت من سبار جنوببغداد. ويثبت المؤلف نصوص المسلة القانونية وموادها وزاد المترجم كاظم سعدالدين غنى نصوص القوانين باعتماده في ترجمتها على مصدرين مهمين يعتبران مرجعين أساسيين في هذا الباب وهما: "الشرائع العراقية القديمة" للدكتور فوزي رشيد و"قوانين حمورابي" للدكتور محمد الأمين. ويدرس المؤلف حال بابل في عهد نبوخذ نصّر، لافتاً ان بابل بلغت عظمتها المادية وروعتها اثناء حكم نبوخذ نصّر 605 - 562 ق.م. وأن ما يثبت هذه المؤشرات، المقدار الطيب من المعلومات غير الذي كشفه الكتاب المقدّس والإغريق بل هو المأخوذ من كتابات نبوخذ نصّر المعمارية ومن السجلات الإدارية والحرفية، ومن ما كشفته التنقيبات التي قادها الألماني روبرت كولدفي بين الأعوام 1899 و1917. وخص ساجز الفصل التاسع والأخير في كتابه للدين، مؤكداً أن "دين الإنسان القديم لم يكن أمراً اختيارياً فائضاً، وإنما كان سمة للوجود تشكل أساس الحياة كلها".