يتسابق الممثل الأميركي روبرت ردفورد ومغني فرقة "رولينغ ستونز" ميك جاغر حول عرض الفيلم الذي حققه كل منهما عن تشي غيفارا. جاغر لم يثبت نفسه بعد في عالم الانتاج، ولم يجد موزعاً لفيلمه الأول "لغز" الذي عرض للمرة الأولى في مهرجان صندانس السينمائي الذي ينظمه ردفورد نفسه في يوتا، الولاياتالمتحدة الأميركية. واذا تمكن الأخير من انجاز الفيلم وعرضه أولاً يقضي على فيلم جاغر الذي يتناول علاقة المناضل الأرجنتيني بتمارا بنكه المعروفة باسم تانيا التي عملت جاسوسة لالمانيا الشرقية، وكلفت التوغل في حركة المقاومة الكوبية. لكنها وقعت في حب الطبيب الوسيم ورافقته الى بوليفيا حيث كانت المقاتلة الوحيدة في جماعته الضئيلة. كانت في التاسعة والعشرين عندما قتلت وهي تعبر النهر، وتردد انها كانت تحمل طفل غيفارا الذي قتل بعدها بشهرين. فيلم ردفورد يرتكز على "يوميات الدراجة" التي روى فيها ارنستو غيفارا رحلاته في أميركا الجنوبية في 1951 عندما كان عاشقاً للنساء والخمر والرقص والتجوال قبل ان يتحول الى "تشي" الذي كرّس نفسه للثورة والعنف وامتنع عن الشرب وان لم يمتنع عن النساء. والى هذين الفيلمين ثمة ثلاثة أفلام قيد التحقيق عن الرجل الذي صدرت عنه ستة كتب في السنوات الأربع الأخيرة التي تلت ذكرى مقتله الثلاثين. 8 تشرين الأول أكتوبر 1967. رجل قذر، هزيل، ملطخ بالدماء وقع في كمين في غابات بوليفيا. جرح في رجله وأسر مع رجاله الذين هبط عددهم من ثلاثين الى أقل من دزينة. بعد نحو أربع وعشرين ساعة دخل عسكري بوليفي غرفة المدرسة التي اعتقل فيها "تشي" واطلق عليه رصاصات عدة لكي يبدو كأنه قتل في معركة. بقيت عيناه مفتوحتين وبدا شبيهاً بالناصري بشعره الطويل وجسده الهزيل وصدره العاري. راهبات المنطقة قصصن خصلاً من شعره واحتفظن بها كما لو كان قديساً. لكن العسكر قطعوا يديه لكي يأخذوا بصماته ويثبتوا ان القتيل كان "تشي" حقاً، وقيل ان موظفاً بوليفياً متعاطفاً مع الكوبيين ارسل احدى اليدين المقطوعتين الى كوبا لكي يتأكد رفاق "تشي" انه قتل حقاً. عندما نظف الأطباء الجثة تحلق موظفون من ال سي آي ايه وجنود حولهم فبدت الصورة التي التقطت لهم شبيهة بلوحة "درس التشريح" لرمبرانت. صورة أخرى لتشي الميت بعينيه المفتوحتين وفمه الذي افتر عما بدا ابتسامة ماثلت لوحة "المسيح الميت" لأندريا مانتغنا. هل شابه موته الموت الذي هجس به قبل ان يبدأ نضاله؟ في رسالة الى والديه في 1955 كتب ان زعيماً كوبياً شاباً طلب منه الانضمام الى حركته المسلحة فقبل "بالطبع": "من الآن فصاعداً، لا تعتقدا ان الموت سيغدر بي". في أواخر أيار مايو توفي ألبرتو كورور اثناء اقامته معرضاً لصوره في باريس فأثيرت التساؤلات عن امكان حماية احدى أكثر صور القرن العشرين شهرة من الاستغلال التجاري. في أوائل آذار مارس 1960 أقام الثوار الكوبيون المنتصرون، في حضور جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، قداساً لأكثر من مئة شخص قتلوا في انفجار على سفينة سلاح بلجيكية. كان فيدل كاسترو يلوم في خطابه أعداء الثورة و"تشي" يقف خلفه على المنصة. رأى كوردا، الذي كان يغطي الحدث لصحيفته، تشي يتقدم وفي وجهه "تلك النظرة المطلقة للتحدي الفولاذ ... كانت لحظة خاطفة لكنني تمكنت من التقاط صورتين له اختفى بعدهما". استخدمت الصحيفة الصورة في صفحة داخلية، لكن صورة البطل السائر الى مصيره باتت جاهزة. العينان الناظرتان الى فوق، الثقة والعزم في الملامح، وذلك الضعف أيضاً الذي يجعل حتى الصغيرات يحسسن بالأمومة. تلك الصورة علقتها في غرفتي بعد تمرد الطلاب في ربيع 1968 لكي أقول ان حياتي أغنى من ان تكتفي بالبيتلز والمونكيز، وان عقلي أوسع من عقول المراهقات في عمري. لكن هل كان ذلك الرجل الميت سيحرك فيّ كل ذلك الشجن لو لم يكن طويل الشعر، ملتحياً، يرتدي ثياباً بسيطة كزاهد غامض وبعيد؟ صوره قبل الثورة تظهر شاباً وسيماً عادياً، وفي صورة كوردا يبدو كائناً يتسامى على طبيعته البشرية ويتجاهل جاذبيته الآسرة الغامضة بفمه المطبق، ونظرته البعيدة، وشعره المبعثر وقبعته العسكرية البسيطة التي توسطتها نجمة القواد في الثورة الكوبية. في رواية "باولا" التي تناولت فيها ايزابيل الليندي موت ابنتها تقول انها بدت أكثر جاذبية في اعين الرجال الذين اخبرتهم انها تناولت العشاء عند عمها الرئيس التشيلي وان غيفارا كان بين الضيوف. كأن مجرد اقترابها من هالته منحها تميزاً وخصوصية افتقرت اليهما في وجودها العادي قبله. كوردا الذي ولد في العام نفسه مع ارنستو غيفارا دي لا سيرا رفض الافادة مالياً من صور "تشي" لأنها "مقدسة". قبل موت الثائر بشهرين أعطى النسخة السلبية لصورتي "تشي" في القداس لناشر ايطالي فاستغلهما هذا بعد مقتله خصوصاً عندما تهافت الطلاب في الستينات والسبعينات على الصورة الشهيرة الأليفة، وجعلوا صاحبها بطلاً وشهيداًَ وقديساً. ولد ارنستو في 1928 في الأرجنتين، واطلق عليه مواطنون لقب "تشي" على عادتهم في تغيير الأسماء بعد انضمامه الى الكوبيين. كان والده مزارعاً ميسوراً يملك أراضي لزرع المتة، وأصيب ارنستو بالربو وهو طفل بعد ان غطس في ماء بارد، برع في الرغبي وكرة المضرب وأخذ دروساً في الطيران، ولم يذهب الى المدرسة قبل ان يبلغ التاسعة، لكنه قرأ كثيراً وكتب ملاحظات عن الحب والإيمان والعدالة والموت والله والشيطان. قبل تخرجه طبيباً طاف على دراجته مع صديق له في أميركا الجنوبية فأقنعه البؤس ان الاشتراكية وحدها الحل. غواتيمالا احدثت الانقلاب الجذري في حياته. كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قضت على حكومتها اليسارية في انقلاب فاقتنع نهائياً ان لا تقدم اجتماعياً من دون عنف. حلم انه التقى ثورياً مطارداً قال له ان "المستقبل للشعب... وهو سيتحكم بالسلطة... لكن السيئ في الأمر ان عليه ان يتمدن". مشكلة التمدن عند ارنستو انها لا توصل صاحبها الى غاياته. حدد الشاب ما يريده: "سأكون مع الشعب... أصرخ مثل شخص مسكون واهاجم الثكنات، سأغسل سلاحي بالدم، ومن جنون غضبي سأقطع حنجرة العدو الذي يقع بين يدي". لكن الثوري يخبره ان موته لن يكون هادئاً. سيموت "بقبضة مطبقة وفك متوتر في مثل كامل للكراهية والقتال". كان ماركسياً يعرف ما يريده عندما تزوج منفية بيروفية مناضلة وعندما رزق بطفلة قال بفخر في رسالة الى أمه التي عبدها انها كانت "صورة طبق الأصل عن ماو". انضم الى الثورة الكوبية التي بدأت بثمانين رجلاً بقي منهم دزينة بعد الاشتباكات مع السلطة. تميز بثقافته و"كان رومنطيقياً". أتى من أجل فكرة "لكنه كان عنيفاً أيضاً بلا تردد. اعدم الخونة بين الثوار في الغابة وبدا الشخص المناسب للقيام بالتطهير بعد نجاح الثورة ضد باتيستا فأمر بقتل المئات بعد محاكمات سريعة، لكنه لم يجد نفسه في السياسة. عين وزيراً للصناعة ورئيس المصرف المركزي ففضل تلبية نداء القتال في أماكن اخرى من العالم. مهمته في زائير انتهت بفشل ذريع والمرض بالزحار والربو. لم يستطع الثوار الأفارقة ضد الحكومة التي تلت الاستعمار البلجيكي هضم روحه القتالية الشديدة، وقرف هو من كسلهم في القتال وافتقارهم الى النقاء الثوري، عاد الى كوبا فاقترح كاسترو عليه تصدير الثورة الى بوليفيا التي كان وضع الفلاحين فيها الأكثر تخلفاً في أميركا اللاتينية. لكن الشيوعيين هناك أبدوا الحماسة نفسها للقتال التي شاهدها في زائير، ولم يهتم الفلاحون بتحريرهم بل وشوا بتحركات جماعته للسلطة لخوفهم من الجنود. كان في التاسعة والثلاثين فولدت الأسطورة من التلازم المرفوض، والرهيب، للموت والشباب، وكانت صورة كوردا جاهزة لخدمتها. هل كان كل ذلك الانشغال في الرياضة والتجوال والقراءة والقتال ليقول ان المرض لم يجعله ضعيفاً أو عاجزاً؟ كان تزوج ثانية في كوبا وأنجب أربعة أطفال، وقلنا بعد موته مثل عجائز مستسلمين انه كان يعرف ان حياته قصيرة فملأها بسرعة. بقي فيه "التحدي الفولاذي" الى النهاية، اذ رفض ان يستجوبه ضابط ال سي آي ايه فيليكس رودريغز الذي كان من أصل كوبي، ووافق على "تبادل الأفكار"، تأثر الضابط بكبرياء الأسير المثقف الذي تحول الى هيكل عظمي بعد جوع أشهر في الغابة ورفض مع ذلك ان يقول كلمة واحدة سيئة عن كاسترو، اعترض رودريغز على أمر السلطة البوليفية بإعدام "تشي" لكن الضابط المحلي أصر على التنفيذ. تعانق "تشي" ورودريغز، ودخل رقيب رش الثائر برصاصات عدة لكي يموه ظروف موته، فأصابت احداها قلبه. في الذكرى الثلاثين لمقتله، في 1997، لم تجد بوليفيا ما يمنع المتاجرة باسمه فدشنت للسياح "خط تشي" الذي يمتد 500 ميل ويقتفي الدرب الذي اتبعه في كفاحه البوليفي المشؤوم. كاسترو اصدر اسطوانة قرأ عليها رسائل "تشي" اليه وعنوانها "وداعاً يا رفيق". وفي جامعة بيونس ايرس مادة "دراسات غيفارا" الذي انضم الى قافلة ابطال اميركا اللاتيتية من ثوباك امارو الى سيمون بوليفار واميليانو زاباتا. على انه يتميز عنهم بسحر شبابه ووسامته ونقائه وشراسته ضد الضعف فيه وفي الآخرين. لم تصلح طهارته للحياة، ولا نستطيع ان نتخيله اليوم ختياراً في الثانية والسبعين يتمسك بالسلطة والشيوعية مثل كاسترو الذي ضاهاه في الشعبية وان لم يستطع مجاراته في السياسة. في رسالة الى والديه قبل مشوار بوليفيا الأخير قال: "كثيرون يعتقدون انني مغامر، وانني لكذلك لكنني من صنف مختلف، ذلك الذي يخاطر بحياته لكي يبرهن صحة حقائقه. هذه المرة قد تكون الأخيرة... أعانقكما.