اليوم، في 26 حزيران يونيو، تناقش الجمعية الوطنية الفرنسية، في قراءة ثانية، تعديلاً على مادة من قانون الجمعيات والاجتماعات العامة تقدم به وزير الداخلية. ويقضي التعديل هذا بحمل منظمي الحفلات الموسيقية "الحرة"، أو الأعياد الموسيقية على ما يسميها اصحابها، على التقدم من وزارة الداخلية بطلب ترخيص يسبق إحياءها. وإذا خالف المحتفلون المادة المعدّلة هذه جاز لوزارة الداخلية وقوات امنها ان تفرق الحفل والمحتفلين، وجاز لها ان تصادر الأجهزة الكهربائية والصوتية التي يتحلق المحتفلون حولها ويرقصون. وكان اقترح هذا التعديل، في أواخر نيسان ابريل المنصرم نائب معارض، من حزب الرئيس الفرنسي جاك شيراك. وناقش مجلس الشيوخ الاقتراح، وأقره، وزاد عليه اقتراحاً مشدداً باعتقال المحتفلين بالأعياد الموسيقية الحرة، إذا ثبت انهم كانوا السبب في إلحاق ضرر في موضع الاحتفال أو في جواره، أو قاوموا رجال الأمن في أثناء أدائهم مهمتهم، ولو بلغ عمر المحتفلين العشرة أعوام. ولم يلبث التشدد هذا، والمبالغة فيه، ان استوقف نواباً ووزراء، من زملاء وزير الداخلية. فأنكروا الإجراء، وطعنوا فيه. وذهبوا الى أن معاقبة الفتيان والأولاد من جمهور هذا الضرب من الموسيقى، "التكنو"، إنما يقمع فئة من الجمهور ذنبُه أنه خارج عن الاحتفالات الاستهلاكية المنظمة والتجارية. فاقتضت معارضة التعديل في صفوف الكثرة النيابية والوزارية القراءة الثانية. وفي الأثناء تداعى "أنصار" الأعياد الموسيقية الحرة الى التظاهر. وتظاهر الآلاف منهم، ولبوا نداء "مَجْمَعٍ" منهم الى التنديد بالإجراء. فسارت التظاهرات، في 16 حزيران، في كبرى المدن الفرنسية، باريس ومارسيليا وليون وغيرها. وكان الآلاف هؤلاء التقوا، في 24 أيار مايو النواب الاشتراكيين، وهم الكثرة النيابية والحكومية، وحملوهم على العودة عن موافقتهم الأولى على الإجراء. وصبغ هذا المسألةَ كلها بصبغة سياسية. فجمهور اعياد موسيقى "التكنو" الحرة معظمه من الفتيان. وهم من ناخبي انتخابات الرئاسة الفرنسية في ايار 2002 القادم، والإجراء المزمع يبعد هذا الشطر من الجمهور الفتي من المرشح الاشتراكي الى الرئاسة، وهو رئيس الحكومة السيد ليونيل جوسبان، ويفضُّه عنه. وفي ضوء عدد المستمعين الى محطة إذاعة "سكايروك" التي تبث موسيقى "التكنو"، وعددهم يبلغ الأربعة ملايين، الناخبون الشبان شطر راجح من جملة الناخبين. والوجه الانتخابي والسياسي ظرفي. وهو لم يفعل إلا تسليط الضوء على علاقة هذه الجماعة من الشبان، فتيات وشباناً، بالمجتمع الفرنسي الأوسع، مجتمع اهلهم، وعلى طور هذه العلاقة الأخير. ففي 1997 كانت الدعوات الى هذا الضرب من الموسيقى - وهو نوع منها ليس له "مؤلف" ولا تعزفه فرق مختصة وموسيقاه توليف وتركيب، بواسطة آلات المتطوعين، من مصادر وروافد مختلطة - كانت الدعوات تجمع نحو خمسمئة هاو، على ما لاحظ احد المراقبين. اما اليوم فيلبي الدعوة بواسطة ملصق على جدران حي من احياء الضواحي بضعة آلاف. وتمتاز أعياد "التكنو"، الى طريقة توليفها وتركيبها، بأماكن الاحتفال والاجتماع. فيختار الراقصون المحتفلون لأماسي رقصهم وموسيقاهم، ايام السبت الى الأحد، جوارَ الغابات الموحلة، أو أطراف الجادات السريعة حول الضواحي، أو المخازن الكبيرة المسقوفة والمهجورة في الأيام الماطرة. ويتوافد الى هذه الأماكن المشرعة الأبواب، والمجانية، والحرة، بعض من ترفض مرابع الرقص والموسيقى و"علبهما" استقبالهم. فالأعياد الموحلة والمبتلة بالمطر تجمع، على مثال انكليزي، هامشيين يشفعون الهامش الاجتماعي والمهني بهامش ثقافي. والموسيقى هي العَلَم والقرينة عليه، طبعاً. ولكن اللباس والقيافة عموماً من القرائن عليه كذلك. وأولها الحلق المتدلي من الأنوف والآذان وأطراف الحاجب. ويتوافد المشاركون الى الأعياد هذه، في سيارات معظمها من الشاحنات الصغيرة، "عشائرَ" ضيقة وقليلة العدد تصحبها كلابها الأثيرة. ويحمل بعضهم آلاته وأشرطته المسجلة وحصته من قوة الصوت. فإذا اجتمعوا تمازجوا من غير قيد ترخيص، أو رقابة أو ثمن تذكرة، أو معايير ذوق غير المعايير التي يرتضونها وتميزهم من غيرهم. فموسيقاهم تختلف عن موسيقى "الراب" التي يميل إليها الملونون، وعن "الراي" المغربي والعربي. ولعل اتفاق اقتراح التعديل "البوليسي" مع تحذير وجهه "المجلس الأعلى للمسموع والمرئي"، وهو هيئة الرقابة على التلفزة والإذاعة، الى محطة "سكايروك"، وأخذ عليها البذاءة، وخص بالتنبيه تعليقاتها على مسلسل "لوفت ستوري"، لعل هذا الاتفاق من الأمور التي أثارت حفيظة الشبان والفتيات. فالتعليقات التي صدرت عن المحطة، وصيغت بلغة تجمع البذاءة الى السخرية، تدل على أن المسلسل الجماهيري والمثير للغطٍ واسع، لا يستقبله جمهوره الأول بالانبهار. بل يجمع الجمهور هذا في استقباله الاهتمام الى التحفظ والنظرة الفاحصة. فالشبان والفتيات ليسوا "أغبياء" ولا هم قصّر، على ما يحسب وزير الداخلية ومعه بعض النواب والشيوخ. وهذا ما تريد تظاهرات اهل "التكنو" التذكير به والجهر به.