الانتفاضة الآن في شهرها التاسع. وقتل اكثر من 500 فلسطيني واصيب 14 الف آخرون بجروح، ومن بينهم حوالي 2000 اصبحوا مقعدين مدى الحياة. ورغم سياسة "ضبط الاعصاب" التي اعلنها ارييل شارون اخيراً، يستمر العدوان الاسرائيلي ضد الفلسطينيين. ومن نتائج ذلك فقر هائل وبطالة وعائلات محطمة ومنازل مدمرة وحرمان شامل. ورغم انها تسمى انتفاضة فلا شك انها حرب تحرير من استعمار. وإن وجدت اطلاقاً لحظة في التاريخ ينبغي فيها للعرب، سواءً كانوا في ميدان المعركة او خارجها، ان يتوحدوا فإنها قد حانت. لا ترغب القوى الغربية ان تسمع هذه الرسالة. فهي تفضّل ان ترى ما يحدث بمنظور "الارهاب" و "المتطرفين على كلا الطرفين"، كما لو كانا متكافئين. انها تتمسك بالفكرة القائلة بأن النزاع يمكن ان يُضبط باستخدام وسائل قديمة. انها تتحدث عن "وقف العنف" و "اجراءات بناء الثقة" واعادة اطلاق عملية السلام رغم انها فقدت صدقيتها منذ وقت طويل، ولكن يجري هذا الآن تحت العنوان الجديد المتمثل بتقرير ميتشل. ورغم ان الاخير لم يكن سوى محاولة اخرى للتملص من القضايا الحقيقية التي تكمن وراء هذا النزاع، فإنه اصبح "عملية اوسلو" الجديدة التي يُعد تنفيذها قمة الانجاز. وتبدو هذه القوى غير مستعدة او غير قادرة على ان تتعلم من أزمة الاشهر التسعة الماضية ان اجراء بناء الثقة الوحيد الذي يحتاج اليه الفلسطينيون هو نهاية كاملة للاحتلال والاستعمار الاسرائيلي. الحقيقة المحزنة هي ان الفلسطينيين في الاراضي المحتلة، الذين يكافحون ضد قوة عسكرية تمتاز بتفوق هائل، يقفون بشكل أساسي لوحدهم. ورغم مواقف مشجعة عدة اتخذتها الدول العربية اخيراً - النداء الصادر عن وزراء الخارجية العرب في ايار مايو الماضي في القاهرة الداعي الى قطع الصلات السياسية مع الدولة العبرية، او تعهدات الجامعة العربية تقديم دعم مالي للسلطة الفلسطينية - فإن اياً من ذلك لن يوقف اعمال القتل اليومية في الاراضي الفلسطينية او القصف بواسطة طائرات "إف -16" الاسرائيلية او الحصار الاقتصادي الوحشي الذي تفرضه اسرائيل منذ ايلول سبتمبر الماضي. كما لا توجد أي مساعدة من الدول الغربية التي تكتفي بتوجيه تحذيراتها الى احد الطرفين او كلاهما، او تبعث بموفدين غير فاعلين الى المنطقة. ويبدو ان الجميع يراقبون الانتفاضة باهتمام كما لو كانت مسلسل إثارة تلفزيونياً، من دون اي استعداد للتدخل. اذا اجذنا في الاعتبار هذه العزلة الفلسطينية، ماذا ينبغي ان يكون دور جاليات الشتات العربية، وبشكل خاص الفلسطينية، في هذه المأساة؟ وخصوصاً تلك التي تعيش في العالم الغربي. فهذه الجاليات تحظى بامتيازات لا تتوافر لغيرها. انها تعيش في مجتمعات متقدمة حيث تتمتع بحياة آمنة ومريحة وقدرة، خصوصاً في اميركا، على تحقيق رخاء مالي. وهي تستطيع ان تتمتع بكل الامتيازات التعليمية والاجتماعية التي توفرها الحياة الغربية، وبحرياتها الديموقراطية والليبرالية: حرية الكلام والاجتماع، وامكان الوصول الى المعلومات، والقدرة على التأثير في العملية السياسية عبر ممثلين منتخبين. الأكثر اهمية انها في وضع يتيح لها، اذا شاءت، ان تستوعب وتحاكي مستوى التطور السياسي والثقافي الذي يعتبر السمة المميزة للمجتمعات الناضجة المتقدمة. كان ينبغي لهذه الجاليات، مع امتيازات كهذه، ان تكون في مقدم الكفاح المشترك وتصبح العون الذي لا غنى عنه في المعركة التي يخوضها اولئك الموجودون في الداخل. وهناك الكثير مما كان يمكن ان تفعله في الخارج: الدعاية لقضية فلسطين، وتسليط ضغوط على حكومات الدول التي تعيش فيها، وارسال المال او المعدات او المتطوعين، وعرض الخبرات في مجالات مختلفة، وهلم جراً. وقد تحقق شيء من هذا بالفعل، وكان المبادر هو جيل الشباب من عرب الشتات. فقد ظهرت مواقع على الانترنت وشبكات اتصال عبر البريد الالكتروني، خاصة بالانتفاضة. ونشأت جماعات نشطاء كثيرة للتعريف بقضية الحقوق الفلسطينية، ونُظّم عدد من التجمعات الجماهيرية والاعتصامات في مدن غربية. لكن لم يحدث أي شيء يقرب من المستوى المطلوب، ولا شيء بالتأكيد بالمقارنة مع انشطة الجاليات اليهودية التي تدعم اسرائيل. ما هو السبب وراء ذلك؟ ماذا يفسّر هذا المستوى من سلبية عرب الشتات وعدم فاعليتهم؟ من المفيد ان نشير هنا الى تجربة اميركية لعرب الشتات، كما كشف عنها شاب اميركي عربي اسمه راغب داميان. فقد لاحظ في مقالة نشرها على الانترنت الشهر الماضي، عما وصفه ب "خزي وفشل" منظمات الاميركيين العرب، ان هذه المنظمات تنشط بشكل اساسي للدعاية لرؤسائها واعضائها القياديين بدلاً من تمثيل مصالح الاميركيين العرب. وقال ان هذا هو السبب وراء ضعف المشاركة في التظاهرات التي تنظمها هذه المؤسسات دفاعاً عن قضايا عربية وانضمام جزء ضئيل من الجالية الاميركية العربية الكبيرة الى عضويتها. ورغم انها تنشط منذ 20 عاماً فهي لا تلقى أي دعم من وسائل الاعلام الاميركية الاساسية او من الجمهور الاميركي غير العربي. كما انها لم تطوّر لائحة اهداف او أي استراتيجية سياسية للتأثير في صانعي القرار الاميركيين. ويعزو راغب داميان هذا الوضع الى التناحر بين الجماعات التي لا تستطيع ان تتوحد بشأن أي قضية، وكذلك حقيقة انها تنشط كواجهات لأنظمة عربية مختلفة وهي موجودة للدفاع عن مصالح هذه الانظمة. وللأسف فإن الكثير مما يقوله داميان ليس مقصوراً على الجالية الاميركية العربية. فهناك سمات مشتركة كثيرة تتخلل سلوك جاليات الشتات العربي في كل مكان. ومن المدهش ان اياً من هذه الجاليات لم ينجح حتى الآن في ان يترك تأثيراً على الحياة العامة للمجتمعات التي يعيش فيها. وهي لم تنظم نفسها سياسياً او اجتماعياً بمستوى مؤثر، وتمثل اقليات غير منظورة في البلدان المضيّفة. ولم تشكل أي تحالفات مع اقليات اخرى يمكن ان تساعد على دعم قضيتها وما تزال عاجزة عن التأثير على العملية السياسية. قد لا يكون السبب وراء هذا كله مستساغاً، لكن العثور عليه ليس صعباً. انه يكمن في ما يمكن تسميته بداء العرب. واعراض هذا الداء معروفة جيداً: الشقاق، والشكوك المتبادلة، والحسد، والتنافس، وعادة تشويه سمعة الزملاء العرب الذين ينجحون في حياتهم، وحتى احياناً الى حد يتخطى اسقاط شخص ناجح من دون أي تقدير لمزاياه الفعلية. في هذا المستنقع من الشقاق والعداوات الشخصية غالباً ما تضيع المصلحة الاكبر للجماعة. والشتات الفلسطيني ليس أقل تأثراً بالداء العربي من البقية. في اوروبا، تعاني هذه الجاليات غياب التنظيم، وهي غير مؤثرة. ولا توجد منظمة واحدة للجالية استطاعت ان تسمو فوق همومها الخاصة الضيقة، التي تقوم على المصالح الشخصية والتنافس والدعاية للذات. وليس مثيراً للاستغراب ان يحول سلوك هذه المنظمات دون اجتذاب عضوية كبيرة ويمنع اشخاصاً قادرين من القيام بدور نشيط. ونتائج هذا الوضع متوقعة. فغالبية الجالية - وهم اشخاص يمتازون بالكفاءة والنزاهة والتفاني - تنأى بنفسها عن المنظمة. وهذا يخلي الساحة لأقلية صغيرة من اشخاص ضعيفي الكفاءة وذوي دوافع ذاتية لا يؤدون العمل المطلوب، مستعدين للقيام بأي شيء كي يبقوا في مناصبهم. هكذا، فهذه المنظمات تستخدم تكتيكات كالتلاعب بالاصوات وتشويه السمعة، وهي اشياء مألوفة تماماً في العالم العربي. لا عجب اذاً ان تعجز جاليات الشتات هذه عن تقديم أي مساهمة فاعلة لدعم الكفاح في فلسطين. فمع انغماسها المدمر في الصراعات الفئوية وإبراز الذات والغيرة من الاخرين والتنافس على المواقع، لا يوجد مكان لأي شيء آخر، وبالتأكيد ليس لذلك النوع من النشاط المطلوب لمساعدة اخوتهم الفلسطينيين في كفاحهم. فهذا يقتضي توافر سجايا مختلفة تماماً، من النوع الذي لا يهواه كثيرون في هذه الجاليات، من المتعطشين الى الشهرة: الانضباط، ونكران الذات، والعمل المثابر بعيداً عن الاضواء، واستعداد لاداء المهمات غير الجذابة والمتعبة والروتينية التي لا تحقق ثماراً فورية. لكن الاكثر اهمية ان هناك حاجة الى وجود قيم تؤكد المصلحة الجماعية، وهو ما يبدو غائباً على نحو مدهش من منظور الفلسطينيين والعرب الى العالم. ويدرك علماء الاجتماع العرب هذه الفكرة ولا يكفون عن مناقشة التأثيرات السيئة للنزعة القبلية العربية والفردانية في المجتمع العربي. لكن مثل هذه التحليلات اصبحت تمارين اكاديمية يكررها الناس مثل المحفوظات، في حين ان المطلوب هو استراتيجيات لمعالجة المشكلة. يمثل تاريخ العرب والفلسطينيين شهادة على النتائج المدمرة للتناحر والانقسام. ولو كان هناك موقف عربي موحد تجاه قضايا مهمة في الماضي، من المستبعد ان يكون الاستعمار او الصهيونية قد حققا اختراقات كما جرى في الحياة السياسية العربية. الحقيقة هي اننا كفلسطينيين ناهيك عن كوننا عرباً لا يمكن ان نتحمل استمرار هذا السلوك بعد الآن. ان الفردانية، والاهتمام بنفسك وعائلتك واصدقائك فقط بينما يمكن للبقية ان يذهبوا الى الجحيم، ترف لم يعد في الامكان ان نتحمله. واذا كان التصرف على هذا النحو مفيداً في وقت مضى في مجتمعات قبلية او قروية، فإن الأمر لم يعد هكذا في الوقت الحاضر. لا يمكن ان نجمع بين الاثنين: الطموح الى العيش في مجتمعات متطورة وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بعادات تقليدية. لقد تطورت المجتمعات الغربية الى المرحلة التي بلغتها عبر ادراك لمفهوم الصالح العام تجاوز الاعتبارات الضيقة للعائلة والقبيلة. ومن بين سمات مجتمعات العالم الثالث انها تعجز عن القيام بالشيء ذاته وتحمل معها هذا السلوك حيثما رحلت. هكذا، ينتهي بهم الحال في الخارج مثل العرب، مشتتين، يفتقرون الى التنظيم، ويغار أحدهم من الآخر، وعاجزين عن التأثير. سيكون شيئاً لطيفاً لو استطعنا ان نرضي انفسنا بالاعتقاد بأن الشتات الفلسطيني ليس أسوأ بكثير من الاقليات الاخرى. لكننا نخوض حرباً مع عدو يملك، رغم ما يبدو من انقساماته الاخلية ومهما كان ازدراؤنا لسلوكه، منظوراً غربياً بشكل اساسي ولديه فكرة واضحة عن المصلحة الجماعية لشعبه. في مقابل ذلك، تصبح الفردانية القبلية والاحتراب الداخلي والعجز عن وضع الخصومات الشخصية جانباً من اجل المصلحة الأعلى، مجرد اسلحة لتدمير الذات. * الرئيسة السابقة لجمعية الجالية الفلسطينية في المملكة المتحدة.