كتب عالم الاجتماع التركي اسماعيل بيشكجي مؤلّفه الذي يحمل عنوان: "كردستان مستعمرة دولية"* عام 1990. وبمجرد صدور الكتاب، اوعزت السطاتالتركية بمصادرته وايداع مؤلفه السجن من جديد. لقد أدى نشر الكتاب الى وقوع صدمة كبيرة في الوسط السياسي التركي بما فيه اليسار ايضاً المعروف بتزمته الشديد ازاء المسألة الكردية، نتيجة سيادة الفكر الكمالي فيه والذي ينكر منذ اكثر من سبعين عاماً وجود هذا الشعب كشعب متميز عن الشعب التركي، بل يعتبره جزءاً منه. يتكلم المؤلف بوجه خاص عن الوضع في كردستان الشمالية تركيا، لكنه يتطرق ايضاً لاوضاع الكرد في اجزءا كردستان الاخرى ويصف الامة الكردية بوجه عام ب"الامة المضطهدة المحرومة من حقوقها القومية والديموقراطية". مؤلف هذا الكتاب الذي هو اقدم سجين في تركيا، اذ بلغ مجموع الاحكام الصادرة بحقه منذ 1971 اكثر من قرنين ونصف القرن من السجن! ينزل حالياً في السجن المركزي الخاص في انقرة منذ اكثر من 16 عاماً. تخرج اسماعيل بيشكجي من جامعة انقرة/ كلية العلوم السياسية، ثم حصل على الدكتوراه بعلم الاجتماع من جامعة أتاتورك في أرضروم، وكان ذلك عام 1967. وتعرّف على الكرد اثناء فترة خدمته العسكرية في جنوب شرق تركيا حيث يعيشون. وكتب بعد وصوله الى هذه المنطقة: "رأيت بعيني وشاهدت بنفسي شعباً له لغة وتاريخ وتقاليد تختلف عما لدينا نحن الاتراك. وهذا الشعب لا يحمل الاسم الذي يطلقه عليه الاتراك، فهو لا يسمي نفسه أتراك الجبال، وانما يسمي نفسه: "نحن الكرد". ومنذ ذلك الوقت بدأ بدراسة اوضاع الكرد وتاريخهم ونشر 31 دراسة وبحثاً اجتماعياً وسياسياً عن احوالهم، صودر بعضها واحيل المؤلف الى المحاكم بتهمة "المسّ بكرامة الدولة التركية وشرفها". اما المؤلف فكان يقول دوماً: "انني اخوض نضالاً سلمياً حتى يفسحوا المجال للمناقشات العلمية التي ترفض المحرمات والرقابة وتستند الى حرية التعبير عن الرأي واحترام حقوق الانسان من اجل انقاذ الشرف التركي". لقد ادى اسماعيل بيشكجي خدمة كبرى لشعبه ولقضية الشعب الكردي ايضاً، لانه طرح باسلوب واضح وصريح افكاره الجريئة بشأن المسألة الكردية وشخص جوهرها بإمعان، بهدف ايجاد مخرج لها ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين. ولأهمية الافكار الواردة في الكتاب، فقد ترجم إلى لغات اجنبية منها الالمانية عام1991، والاسبانية عام 1992، والفرنسية عام 1996، واخيراً العربية عام 1998. وترجم الكتاب من الفرنسية الى العربية باحث قدير ملمّ بأكثر من لغة اجنبية هو الدكتور زهير عبدالملك، الأديب والباحث الاجتماعي ايضاً. يقول المترجم ان عنوان الكتاب اجتذبه منذ اطلاعه عليه، ولدى قراءته له ازداد اعجاباً بمؤلفه "لجرأته في تشخيص جوهر المسألة الكردية ما يستحق كل اهتمام وامعان في التفكير يتحليان بعنصري الموضوعية والانفتاح على آراء بيشكجي ووجهات نظره التي يصوغها بشفافية وصراحة تنال اعجاب كل من يهتم بايجاد مخرج لهذه المسألة التي ظلت مستعصية على الحل منذ نشأتها في مطلع القرن العشرين". ولا يخفي المترجم شعوره عن القارئ، وتردده في استعمال كلمة الاستعمار وامتعاضه منها بسبب "ارتباط الفكرة بالبريطانيين والفرنسيين حصراً ومن ثم الاميركيين والكفاح ضد هيمنتهم الاستعمارية وكفاح الشعب من اجل التحرر من الاستعمار واحراز الاستقلال الوطني الناجز واقامة نظام ديموقراطي متحرر". لكنه يعترف بأن تردده لم يكن ما يبرره بعد قراءته الكتاب ووضوح مفهوم الاستعمار الداخلي لديه "كمصطلح معروف في ادبيات علم الاجتماع السياسي لوصف النتائج المتفاوتة للتنمية على الصعيد الاقليمي، كما تستخدمه نظرية العلاقات العرقية في بيان حالة الحرمان والاستغلال التي تتعرض لها الاقليات في مجتمع ما". ثم يشير الى ان الماركسيين سبق ان استخدموه لدى نظرتهم "لحالة اللامبالاة السياسية والاقتصادية في ما بين الاقاليم في المجتمع". ان التفاوت بين الاقاليم ظاهرة ليست عابرة وانما ملازمة لتنمية المجتمع الصناعي، لذلك "اذا كانت العلاقة بين البلد المستعمر والمستعمر - في حالة الاستعمار الخارجي - تتسم باللامساواة والاستغلال، فإن العلاقة ذاتها بين المركز والطرف تتسم بالامساواة ايضاً". وهكذا "فإن من شأن الاستعمار الداخلي تحقيق ثروة لصالح المناطق الاكثر ارتباطاً بالدولة من غيرها. وقد يتميز سكان المستعمرة الداخلية عن بقية السكان عرقياً او دينياً او لغوياً او بعوامل ثقافية اخرى". الهوية والطبقات يقسّم المؤلف كتابه الى جزئين اساسيين، يحمل الجزء الاول عنوان: تأملات حول هوية الاكراد وكردستان، بينما يحمل الجزء الثاني منه عنوان: تأملات حول الطبقات الكردية السائدة. ويتطرق المؤلف في بداية الجزء الاول الى الاوضاع السياسية التي كانت سائدة في تركيا عام 1971 الذي يسميه ب"عام الاعتقالات الجماعية والمحاكمات" لان "السجون العسكرية كانت مكتظة بعدد كبير من المعتقلين من مختلف طبقات المجتمع الكردي". ويقول المؤلف ان الحكّام العسكريين في معظم المناطق الكردية كانوا يصرّون على اعتبار هؤلاء المعتقلين اتراكاً، رغم انهم كانوا يوجهون اتهاماتهم لهم بواسطة مترجمين، لانهم لم يكونوا يتكلمون سوى اللغة الكردية ولا يفقهون كلمة تركية واحدة. ويضيف المؤلف ان هذه المحاكم الاستثنائية كانت تصرّ مع ذلك على عدم وجود لغة كردية واعتبارها مجرد "لهجة مشتقّة عن اللغة التركية". ويوجه المؤلف لومه الى "الاساتذة" و"الجامعيين" الاتراك الذين كانوا يحاولون تبرير وجهة نظر هيئات المحاكم العسكرية وكتابة "بحوث علمية" حول صحة تلك الطروحات العنصرية. ويرى ان تلك المحاكمات كانت "إحدى الاسباب التي مهّدت لبداية مرحلة مهمة جداً في تاريخ الاكراد ولغتهم وثقافتهم وآدابهم" لأنها جعلت الكرد يتأملون في ماضيهم وحاضرهم ويفكرون بكردستان، ويقارنون مجتمعهم الكردي بالمجتمعات المماثلة. وهكذا فان تلك الاعتقالات والمحاكمات والسجون عملت على تنامي الوعي لدى الكرد وتبادل المعلومات بشأن تلك المواضيع. فكان المعتقلون يحاولون اقناع هيئات المحاكم "بأن اللغة الكردية لغة اخرى تختلف عن اللغة التركية". ومع الثمانينات ازداد تطور المجتمع الكردي واخذ الكرد ينظرون الى مواقفهم وسلوكهم بشكل يختلف عما كان سائداً في الماضي، فقد اخذوا يتكلمون بلغتهم القومية امام المحاكم والهيئات الرسمية الاخرى ويفرضون مواقفهم عليها علناً. ويبدو ان المؤلف كان يستهدف من ذكر هذه المقدمة القصيرة لكتابه الوصول الى الحقيقة التي يؤمن بها وهي "ان كردستان بلد لا يتمتع حتى بصفة البلد المستعمر، وان الاكراد شعب يجد نفسه في وضع اسوأ من حالة الشعوب المستعمرة الاخرى". ولأجل تبرير وجهة نظره تلك، يعمد المؤلف الى تخصيص جزء من مؤلفه لدراسة موضوع "تكوين المستعمرات في القرن التاسع عشر"، وكيف ان تاريخ نشوء الكولونيالية يشهد على وجود نوعين من المستعمرات: المباشرة منها وغير المباشرة ليصل الى القول بأن أياً منها لا ينطبق على الوضع في كردستان. ذلك ان الكرد في البلدان التي يعيشون فيها حالياً يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية وتمارس ضدهم "سياسة مكثقة للتتريك والتفريس والتعريب" ويجري انكار هويتهم الكردية ووجود وطن لهم باسم كردستان. لقد أنشأ المستعمرون بعد نهاية الحرب العالمية الاولى دولاً مستعمرة واقعة تحت الانتداب كما كان الحال في معظم البلدان العربية، ولكنهم لم يؤسسوا دولة كردستان. وادى ذلك الى عدم استعمار كردستان، بل تقسيمه بين دول عديدة ساهمت جميعها في تزوير تاريخهم وانكار حقوقهم القومية، مع اخفاء هويتهم وازالة لغتهم وتراثهم العريق، مما ادى الى وقوع ثورات وانتفاضات مسلحة فيها اغرقت جميعها في بحر من الدماء، من خلال عمل منسق وعمليات عسكرية مشتركة ساهم البريطانيون في معظمها. وهكذا "لم يعد بالامكان الحديث عن حدود واضحة المعالم لكردستان" لان عمليات التهجير الشاملة التي تعرض لها الكرد، بالاضافة الى عمليات الابادة وسياسة "تتريك الاكراد وتعريبهم وتغريسهم" أدت في النهاية الى جعل كردستان مستعمرة مشتركة مع اجراء تحول عميق في هيكلها السكاني واحداث تغييرات ملموسة في حدودها الطبيعية. وهكذا يصل المؤلف الى الاستنتاج التالي: "عندما يطرد الكرد من ديارهم، وتتخذ قراهم موطئاً لفئات من الاتراك والعرب والفرس، وعندما تتولى المؤسسات الزراعية التابعة للدولة استغلال الاراضي الكردية الخصبة او تنشئ فيها ثكنات عسكرية، فان الامر يتعلق دون شك بانتهاج سياسة معينة بتبصر واصرار". ويشير الى ان تلك السياسة شملت حتى الاكراد الذين يعيشون في ارمينيا ودول الاتحاد السوفياتي السابقة. فقد نظمت ضدهم اكبر عملية تهجير قسري جماعي عام 1944. من التقسيم الى السلاح الكيماوي وفي معرض اشارته الى تجزئة كردستان، يقول المؤلف ان السنوات 1915 - 192 التي شهدت صراعاً على كردستان واتسم بعضها بالصدامات والنزاعات المسلحة، سرعان ما انتهت الى التقسيم. ثم تعاونت الدول التي ساهمت في عملية التقسيم من اجل الحفاظ على مصالحها المشتركة، ويذكر على سبيل المثال حالات من اوجه تعاونها العسكري والامني والاعلامي. يقارن المؤلف بين موقف النظام العراقي بمهاجمته مدينة حلبجة بالاسلحة الكيماوية عام 1988، ومواقف دول اخرى لم تتجاسر على الاستعانة بهذا السلاح المحرّم دولياً ويقول: "لم تجرؤ الولاياتالمتحدة في حرب فيتنام على استخدام الغازات السامة ضد السكان، ولم يستخدم الاتحاد السوفياتي اثناء حربه في افغانستان مثل هذه الاسلحة ضد المجاهدين، ولم يستخدم الاسرائيليون هذا السلاح ضد الفلسطينيين". ويذكر المؤلف ان صدام حسين استخدم هذا السلاح ضد الكرد لانه كان يعلم ان عمله هذا لن يثير البلدان المجاورة ولا البلدان العربية ولا تركيا ولا البلدان الاسلامية، وبإمكانه صمّ آذانه كي لا يسمع ردود فعل الرأي العام العالمي الديموقراطي. لقد قصف النظام الفاشي العراقي مدينة حلبجة يوم 17/3/1988، وانعقد مؤتمر القمة الاسلامي في الكويت يوم 20/3/1988، "وناقشت هذه القمة كافة الموضوعات… بما فيها مسألة وجود الاتراك في بلغاريا المضطهدين بسبب انتمائهم العرقي، لكنها لم تتحدث عن الإبادة التي ذهب ضحيتها اكثر من 5000 طفل وامرأة وشيخ من الاكراد واكثر من 10000 جريح في حالة خطرة". ويقول المؤلف ان الوضع السياسي في كردستان أسوأ من وضع المستعمرات واشباه المستعمرات لانه "ليس لكردستان وضع سياسي محدد، ولا تتمتع بأية هوية سياسية". ولاجراء المقارنة بصورة اوضح بين الوضع في كردستان والاوضاع في الدول المستعمرة يذكر على سبيل المثال العلاقة التي كانت قائمة بين بريطانياواوغندا كمستعمرة معروفة، لكنها محددة الحدود ويعيش عليها شعب هو غير بريطاني ولا تشكل اوغندا جزءاً من بريطانيا ولا توجد محاولات لتحويل الاوغنديين الى بريطانيين. ويضيف المؤلف أن اوغندا حصلت على استقلالها في نهاية الستينات من دون اجراء تغيير في حدودها. وهكذا الأمر بالنسبة إلى كل من الصومال وغيرها، أو في علاقات فرنسا مع كل من تونس والجزائر والمغرب، أو في علاقات البرتغال مع كل من أنغولا وموزامبيق وغينيا - بيساو. أما كردستان التي لجأ ابناؤها إلى الكفاح المسلح للحفاظ على هويتهم ورفض الصيغ الامبريالية والعنصرية التي فرضت عليهم، فهي محاطة بدول معادية بسبب تقسيمها بين تلك الدول. لذلك فإن وضع الكرد يختلف كلياً عن وضع الفلسطينيين المحاطين بدول صديقة أو تدعي ذلك على الأقل، ويعتمدون في خوض كفاحهم أيضاً على الدعم المادي والمعنوي للبلدان العربية. وتختلف المسألة الكردية عن المشكلة الفلسطينية في أمر آخر أيضاً وهو ان هذه الأخيرة تعتبر مشكلة عربية، لذلك تحاول الدول الراغبة في إقامة وإدامة علاقات جيدة مع الدول العربية، تقديم دعم ملموس للفلسطينيين ولمنظمة التحرير الفلسطينية. وبالعكس، فإن المسألة الكردية تبدو كما لو كانت معادية للعرب وللأتراك وللإيرانيين، لذلك تقبل جميع البلدان التي ترغب في تطوير علاقاتها مع هذه الدول، خصوصاً في ميادين الاقتصاد والتجارة والاستثمارات والمناقصات التي تطرحها في الخارج، السياسة العنصرية والاستعمارية التي تتبعها الدول التي تقتسم كردستان ضد الكرد. ويجري ذلك أيضاً على نطاق السياسة الدولية والمؤسسات الدولية. فرغم ان كفاح الكرد مشروع شأن كفاح الفلسطينيين، واستطاعت منظمة التحرير الفلسطينية أن تحصل بسرعة على صفة مراقب في المؤسسات الدولية بفضل دعم الأصدقاء المؤثرين على صعيد السياسة والمؤسسات الدولية، إلا أن الكرد لديهم الكثير من الأعداء ويتردد حتى أصدقاؤهم في دعم كفاحهم المشروع سياسياً ودولياً خوفاً على مصالحهم وامتيازاتهم في الدول العربية وفي تركيا وإيران. وموقف البلدان الشيوعية أو الاشتراكية لا يختلف في هذا الميدان عن موقف الدول الرأسمالية. إن المشكلة تكمن إذن في "النظام الاستعماري العالمي المطبق في كردستان واستغلالها كمستعمرة مشتركة". تخرصات وعنصرية ويثير المؤلف نقطة مهمة أخرى في كتابه، وهي أن الكرد ليسوا أقلية، لأنهم "يعيشون في وطنهم وعلى أرضهم، وهم السكان الاصليون لهذه البلاد، ولم يأتوا إلى كردستان من اقليم أو منطقة أخرى". وعلى العكس من ذلك "وصل الأتراك على سبيل المثال إلى الاناضول في القرن الحادي عشر الميلادي. فالأكراد ينتمون، شأن العرب والفرس، إلى السكان الاصليين في الشرق الأدنى". ثم يضيف: "ان من الصعوبة بمكان الحديث عن أقلية يتراوح عددها بحدود 30 مليون نسمة". ويناقش المؤلف باقتدار علمي تخرصات بعض الساسة الأتراك مثل بولنت أجاويد في قوله إن الكرد ليسوا أقلية "لأنهم ينتمون، شأن جميع الأتراك، لأغلبية أسست الجمهورية التركية. لذلك لا يحق لهم المطالبة بحقوق لغوية وثقافية وقومية وديموقراطية. وإذ هم يطالبون بمثل هذه الحقوق إنما يدعون إلى ايجاد وضع خاص لهم، وعلى ذلك، فهم انفصاليون"! يقول بيشكجي في رده على أجاويد وغيره من السياسيين العنصريين: "أين يا ترى توجد أغلبية لا تتمتع حتى بحقوق الأقلية شأن الأرمن واليونانيين واليهود؟ ناهيك عن الاعتراف بالحقوق الديموقراطية والقومية للأكراد". إن المقولة العنصرية التي تقول: "لا توجد أمة كردية، انهم جميعاً من الأتراك"، لا تهدف إلا إلى انكار وجود الكرد ومنعهم من المطالبة بأي حق، "وهذا الموقف هو بكل بساطة موقف عنصري خالص". إن المسألة الكردية بالنسبة لإسماعيل بيشكجي "ليست مسألة اقليات، والأمر لا يتعلق بحقوق أقليات. إن جوهر المسألة الكردية يكمن في حقيقة ان الأمة الكردية وبلادها كردستان قد قسمت ووزعت من قبل الدول الامبريالية وأعوانها في الشرق الأدنى. لقد سلبوا حق الأمة الكردية في تأسيس دولة مستقلة". ويشير المؤلف في معرض تأكيده على أن الدول التي تقتسم كردستان وتستغلها بصفة مشتركة وتتعاون في ما بينها لحماية مصالحها، إلى معاهدة لوزان التي جزأت كردستان عام 1923. ويصف المؤلف تلك المعاهدة بأنها تعاقد امبريالي على تقسيم كردستان والأمة الكردية، لذلك "فهي تكتسي أهمية مختلفة جداً لكل من الكرد والأتراك". ففي ما يتعلق بالأتراك أدت هذه المعاهدة إلى انشاء دولة تركية مستقلة. أما بالنسبة إلى الكرد، فقد رسخت "الاضطهاد والعبودية واستعمار كردستان، بل اخضاعها لنظام استعماري دولي". ويضيف المؤلف: "ان أكبر مصيبة يمكن ان تحل في تاريخ أمة ما أن تصبح هدفاً لسياسية فرق تسد، وذلك لأن هذه السياسة تدمر كيان الأمة وتقطع أوصالها"، وهذا ما حدث بالنسبة للأمة الكردية في الربع الأول من القرن العشرين. وفي معرض رده على الذين يرددون أنه "لم يكن لكردستان دولة مستقلة على امتداد تاريخها"، يقول بيشكجي إن هذا الكلام لا معنى له. ففي افريقيا مثلاً "قسم الامبرياليون الأوروبيون افريقيا عام 1885، وانشأوا فيها نظاماً استعمارياً، ولم يتحقق ذلك من خلال تفكك دول مستقلة". لقد هيمن الاستعمار على "مجتمعات تقليدية لم تبلغ الأوضاع فيها بعد مرحلة تأسيس دول مستقلة". ويعود المؤلف لمواجهة المسألة الكردية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ويقول: "لماذا لم تؤسس مستعمرة في كردستان على نسق المستعمرات التي انشئت مثل العراق وسورية وبين دول قديمة مثل تركيا التي انسلخت عن الامبراطورية العثمانية وإيران؟". ثم يضيف انه يجب اطهار جوانب الضعف لدى الكرد التي أدت إلى تجزئتهم بين تلك الدول، بدلاً من انشاء كيان خاص بهم. ولا يتردد في الإجابة بأن ذاك كان كامناً "في البناء الاجتماعي الكردي لتلك الفترة، وفي عنصر التوازن الداخلي والخارجي". إن موقع كردستان الاستراتيجي في قلب الشرق الأدنى والموارد النفطية الموجودة فيها كانا من العوامل الرئيسية الخارجية لتقسيم كردستان. وقد "تعاونت الحكومات العربية والتركية والإيرانية مع الامبرياليين الانكليز والفرنسيين لخلق هياكل اقتصادية وسياسية وعسكرية داخل أربعة بلدان على الأقل من بلدان الشرق الأدنى تتوافق ومصالح الامبريالية". وبعد ان يصف الكاتب النظام السياسي الاستعماري الذي فرض على الكرد في الربع الأول من القرن العشرين ب"واقعة مأسوية بكل ما في الكلمة من معنى"، يشير إلى رفض الأكراد هذا المصير الذي فُرض عليهم، "فمنذ الربع الأول من القرن العشرين والأكراد يكافحون بعناد المصير الذي فرضته عليهم الدول الامبريالية الكبرى والمتعاونون الاقليميون معهم". شعارات الكمالية ويفضح المؤلف الشعارات المزيفة للكمالية التركية ويكشف عن التعاون الوثيق الذي كان قائماً بين الكماليين والامبرياليين خلال عملية تجزئة كردستان، رغم أنهم كانوا يرددون بأنهم هم أول من قاوم الامبريالية والاستعمار. ومن الأساليب الأخرى التي مارسها الكماليون ضد الكرد بهدف إنهائهم نهائياً، "تحريم اللغة والثقافة الكردية، وإجبار الأكراد على تعلم اللغة التركية واخضاعهم لعملية الصهر والتتريك بطريقة مكثفة، وتغيير اسماء الأكراد وأسماء المواقع الكردية وتتريكها، وفرض غرامات على من يتكلم الكردية والقضاء على الأكراد وعلى ثقافتهم القومية". إن جميع هذه الممارسات العنصرية من وجهة نظر الكماليين "أساليب ثورية وديموقراطية". ويصف النظام الكمالي مطالبة الأكراد بحقوقهم القومية "بأنهم يسلكون مسلك الشوفينيين". ولكن عندما يطالب أتراك بلغاريا الشيء ذاته، فإنهم "يعتبرون تقدميين يكافحون ضد العنصرية والاستعمار والفاشية". ويناقش بيشكجي مزاعم حكام تركيا الذين يدعون ليل نهار ان الكرد يتمتعون بالحريات العامة وبالمساواة. يقول بيشكجي ان ذلك مرهون بشرط أساسي وهو "إنكارهم لهويتهم القومية". ويتم ذلك عن طريق الإكراه الذي يمارس في مراكز الدرك والشرطة ومراكز الحرس والسجون. إن الادعاء في تركيا بأن كل الناس متساوون يعني ممارسة المسيحيين واليهود لشعائرهم الدينية، شأن المسلمين. وهذا التأكيد يعني أيضاً ان الناس متساوون لأنهم جميعاً أتراك ولا يوجد فرق بينهم في اللغة! إن المساواة لا تكون مضمونة إلا بشرط الخضوع لعملية التتريك، وكل الذين يقبلون بالتتريك هم أتراك حسب الايديولوجية الرسمية الكمالية. ويذكر أنه في الفترة ما بين 1981 و1984 مات ما يزيد على 40 ثورياً كردياً في سجن ديار بكر وحده، لأنهم أصروا رغم التعذيب القاسي الذي تعرظوا له على رفضهم لارهاب الدولة "الذي يتعرض له الكرد في تركيا الكمالية. في تركيا لا يستطيع الكردي المشاركة في أي نشاط كان ولا الحصول على أي عمل رسمي إلا إذا انكر هويته وأعلن أنه تركي وهو سعيد بذلك. أما الكردي الذي يتمسك بهويته ويدافع عنها فيلاحق قضائياً بتهم عديدة". وينتقل المؤلف إلى موضوع آخر مهم، وهو المسألة الكردية في المحافل الدولية وإمكانية طرحها على هيئات الأممالمتحدة. ويقول إن هذه المنظمة لعبت دوراً كبيراً في إزالة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها فشلت في لعب أي دور ايجابي بالنسبة للقضية الكردية بسبب تجزئة كردستان، وبفضل الجهود المشتركة للدول التي تقتسم كردستان لعرقلة أي جهد يهدف على عرضها أمام إحدى هيئات الأممالمتحدة. لقد تعرض الكرد لمئات المجازر ولعمليات التهجير واستعملت بحقهم الأسلحة الكيماوية، لكنهم لم يستطيعوا "اقتحام الستار الحديدي المفروض عليهم عن نقل صرخاتهم وأصواتهم إلى أسماع المنظمات الدولية". ثم يضيف: "انها لفضيحة حقاً أن تتخذ الأممالمتحدة قرارات ضد سياسة التمييز العنصري في جنوب افريقيا، وتغض النظر ازاء السياسة العنصرية والاستعمارية المطبقة في كردستان". ويكمن السبب لدى بيشكجي في "أن الأكراد أمة بلا دولة، والهدف الرئيسي للاستعمار الدولي أن يحول دون تأسيس دولة كردية، الأمر الذي يسهل الاستغلال المستدام للموارد الطبيعية ولآبار النفط والمياه والمعادن الأخرى من ثروات كردستان". لقد وصل الأمر بتركيا أنها منعت مجموعة من خبراء الأممالمتحدة من التحقيق في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد الكرد في كردستان العراق الذين لجأوا إلى تركيا في أيلول سبتمبر 1988. لقد وضعت السلطات التركية الأكراد الفارين من العراق في مخيمات محاطة بالأسلاك الشائكة وعاملتهم معاملة السجناء ووضعت العراقيل أمام الصحافيين الأجانب وممثلي بعض المنظمات الخيرية منعاً للالتقاء بهم. والغريب أن تركيا لم تتلق أي استنكار من أية دولة أو من المنظمة الدولية بسبب معاملتها السيئة لهؤلاء اللاجئين الكرد. وحاولت السلطات الأمنية التركية تسميم ما يزيد على 500 كردي لاجئ من الخبز الذي قدمته لهم في مخيم كيزيلتيه التركي في حزيران يونيو 1989، وتبين ان المخابرات التركية والعراقية تعاونتا في دس السم في الخبز الذي أعد لهؤلاء اللاجئين الكرد. تحولات في المجتمع و... عملاء يشير المؤلف بعدئذ إلى أوضاع كردستان منذ الثمانينات نتيجة توسع العمل السياسي فيها، ويقول: "لم يعد الكرد ضعفاء كما كانوا، ويشهد عصرنا الحاضر يقظة فكرهم ووعيهم القومي". وتركت هذه التغيرات بدورها تأثيرها على اليسار التركي وعلى المثقفين الأتراك، إذ أخذوا يغيرون آراءهم بصدد المسألة الكردية. لقد أدى صدور بعض المجلات والنشرات خلال هذه الفترة إلى تطوير الوعي الوطني الكردي. ويضيف الكاتب ان الدعاوى الجنائية التي اقيمت على بعض تلك المجلات ومحرريها زادت من وعي الكرد وكشفت زيف "الديموقراطية" المطبقة في تركيا. ثم يقول: "في تركيا سرعان ما تظهر بوضوح شخصية المرء وسماته حالما تدرس القضايا من زاوية الجماعات العرقية". إن هناك أشخاصاً يتشدقون بالديموقراطية، بل وحتى بالثورية، لكنهه يكشفون عن هويتهم العنصرية عندما يتكلمون عن الوضع الكردي. وبعد أن يشير المؤلف إلى دور العديد من التنظيمات السياسية الكردية السرية في شرح الحقائق المتعلقة بكردستان ووضع تحليل جديد للتاريخ الكردي بعيداً عن التزييف اعتباراً من منتصف السبعينات، يركز على دور حزب العمال الكردستاني وتأثيره في بلورة الوعي القومي الكردي في تركيا. لقد شكّل الصراع المسلح الذي بدأ في 15/8/1984 حدثاً مهماً في التاريخ الكردي، وكان بمثابة "الشرارة الأولى". وكان الانقلاب العسكري الذي نفذ في 1980 قد أدى إلى نزوح عدد كبير من المثقفين الأكراد إلى أوروبا الذين لعبوا دوراً أساسياً في عرض المسألة الكردية أمام الرأي العام الأوروبي. إن العمليات العسكرية والممارسات العنصرية والتهجير الجماعي للسكان والمذابح التي قامت بها السلطات التركية من 1925 إلى 1938 جرى تنفيذها بهدوء من دون أن يشعر بها أحد. لكن العمليات العسكرية التي نفذها الجيش التركي منذ أواسط 1983 كشفت عن حقيقة الوضع في كردستان، وبدأ قطاع واسع من الرأي العام العالمي يهتم بتلك الأحداث الدامية. ويلاحظ بيشكجي ان الكرد أصبحوا يهتمون بجميع أجزاء كردستان، ويبتهجون لأنباء الانتصارات التي يحققها المقاتلون الكرد أينما كانوا ويحزنون لأي هزيمة تلحق بأي جزء من وطنهم. إن "الشراكة في الأحزان والأفراح والشعور بالفخر" أصبحت ملازمة لهم أينما كانوا. ومقابل ذلك، أخذت الدول التي تقتسم كردستان بتوثيق صلاتها بالقوى التقليدية الكردية وتدعم رؤساء العشائر والشيوخ وكبار المالكين حتى يضمنوا السيطرة بواسطتهم على عدد كبير من الناس. لقد تحول هؤلاء إلى فئات عميلة تحصل على مكافآت مادية ومعنوية. مهمتهم تنحصر في تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من قبل الأجهزة العسكرية والأمنية والمخابراتية، وهذه الظاهرة ليست خاصة بتركيا، بل بجميع الدول التي تقتسم كردستان. هذه الدول نجحت إلى حد ما في التحكم بكردستان والقضاء على الفئات التي تتحدى سلطاتها بواسطة خلق فئة من العملاء الأكراد. ويتمتع هؤلاء الاشخاص الذين ينتمون في الواقع لمختلف الشرائح والفئات الاجتماعية بامتيازات كثيرة وفرتها لهم الدولة. ويطلق اسماعيل بيشكجي عليهم اسم "طبقة العملاء". ويحصل هؤلاء أحياناً على امتيازات أخرى، كتعيينهم نواباً في البرلمانات المركزية أو وزراء أو موظفين كباراً في الدولة لقاء تخليهم عن هويتهم القومية والخدمات الأخرى التي يقدمونها للدولة ولأجهزتها القمعية. لهذا السبب بالذات، فإن هذه الدول تعمل على بقاء هذه المؤسسات التقليدية في المجتمع الكردي واستمراريتها. فتنظيمات "حماة القرى" في كردستان تركيا و"افواج الدفاع الوطني" في كردستان العراق لا يزال النظام العشائري قوياً فيهما. فيكفي ان تكسب الدولة الى جانبها رئيس العشيرة وتحوله الى عميل لديها، ثم يتولى هو اقناع رجال عشيرته بحمل السلاح دفاعاً عن مصالح الدولة لقاء مكافآت مادية ومعنوية، خاصة وانهم لعبوا منذ الاساس "دور جهة الوصل بين الشعب والدولة"، رغم ادائهم لهذا الدور بطريقة غير امينة، لمراعاتهم لمصالحهم الخاصة وحدها. إن هذه الطبقة من العملاء التي تخون قضية شعبها وتزداد ثراء اصبحت ظاهرة عامة وتعكس تحولاً سياسياً في المجتمع الكردي. ومع ذلك فإن الدولة والبورجوازية التركية لا تقبل شراكة هؤلاء الا جزئياً وذوبانهم في ايديولوجية الدولة وتنكرهم لهويتهم القومية وتحولهم الى عملاء للاجهزة القمعية ازاء الحركة القومية الكردية. ثم يضيف انه لا يصح اطلاقاً اطلاق صفة البورجوازية الكردية على كبار ملاكي الاراضي والتجار ورجال الاعمال والصناعة وكبار المقاولين لانهم يتنكرون جميعاً لهويتهم القومية. لقد ذابوا في البورجوازية التركية وليس لديهم اي اهتمام بمصالح بني قومهم. والغريب ان الدولة التركية "العلمانية" تركز على المبادئ الدينية في المنطقة الكردية، وتعمل جاهدة على تقوية نفوذ المؤسسات الدينية فيها. وتعمل الدولة ايضاً على نمو رأسمالية مشوهة في كردستان، فلا تسمح الا باستثمار رؤوس اموال الدولة او العائدة لمستثمرين من اصول غير كردية. والسياسة الكمالية في كردستان تقوم على اعتبار كل امر ذا صلة بكردستان جزءاً من سياسة الدولة العليا. وهذه السياسة تقرر بمستوى اعلى من اية سياسة حكومية اخرى، والحكومات لا تعمل شيئاً سوى تطبيق تلك السياسة التي تمليها الدولة. ويؤكد اسماعيل بيشكجي على القول اكثر من مرة: "لكي يتمتع الكردي بالعدالة التركية وتتساوى حقوقه مع حقوق الاتراك عليه التنكر لقوميته وتبني القومية التركية وان يقول بأنه سعيد لان يكون تركياً". ان كتاب اسماعيل بيشكجي: كردستان مستعمرة دولية جدير بالقراءة، خاصة وان معظم قراء العربية لا تتوفر لديهم معلومات كاملة عن وضع الكرد في تركيا وعن السياسة العنصرية المطبقة ازاءهم. * كردستان مستعمرة دولية لاسماعيل بيشكجي، ترجمة زهير عبدالملك، دار APEC للطبع والنشر، السويد 1998.