ليس من المستحيل فرض طوق من العزلة السياسية على أميركا ذاتها. وليس ضرباً من الوهم أو خيال شاحب أن نتصور احتواء أميركا، أو تحول الانفراد بالقوة والنفوذ والهيمنة الى وحدة تشعر فيها واشنطن بالعجز وتتجرد من النفوذ وتتقوض معها الهيمنة. بل إن بعض توجهات أميركا الدولية وفلسفتها في القانون وسياساتها الخاصة بالاحتواء، يدعم من احتمالات فرض العزلة على اميركا نفسها، أو تفرض على أميركا تطويق ذاتها بذاتها. غير أن الوصول الى الاحتواء المضاد لأميركا ليس أمراً تجريدياً. فأميركا ليست مجرد أقوى دول العالم من الناحية العسكرية وأكبرها من الناحية الاقتصادية وأكثرها نفوذاً في المنظمات الدولية فحسب، وإنما يجب أيضاً أن تحسب لأميركا أنها المجتمع الأكثر تطوراً وديناميكية من الناحية التكنولوجية والأوفر انتاجاً للثقافة، بما في ذلك الثقافة الرفيعة، وبتعبير آخر، فالمسألة ليست هي حصار نزعات الهيمنة فحسب، وإنما الأهم هو تغيير أميركا وكسبها لمصلحة الإنسانية ولصف قوى التقدم في العالم. وليس في هذه الصياغة أدنى تناقض. فالضرورة التي يتطلبها تقدم الانسانية ليست هي الكفاح ضد قوة أميركا، وليست هي إعلان خصومة مع الشعب الأميركي، وإنما هي الكفاح ضد محاولة واشنطن فرض هيمنتها المنفردة على العالم، وتمرير طغيانها وشرعنة سياساتها التعسفية، وإنهاء ما يشتمل عليه ذلك كله من إجحاف ببقية شعوب العالم، وعلى رأسها الشعوب العربية، والشعب الفلسطيني بصفة أخص. والسؤال المزدوج الذي تطرحه هذه الصياغة هو: من يقوم بمهام الكفاح ضد الهيمنة الأميركية.. وكيف؟ هذا السؤال ينطلق من حقيقة نظرية وميدانية أكدتها ببساطة مظاهر التحول في النظام العالمي طوال هذا القرن، وهو القرن الذي شهد دخول الولاياتالمتحدة الأميركية بقوة الى ساحة العلاقات الدولية خارج المجال الحيوي الغربي. هذه الحقيقة هي أن ثمة علاقة ارتباط قوية بين صعود أميركا على سلم الهيمنة العالمية ونزول القوى العالمية الأخرى إلى هوة التدهور والانحطاط. ومعنى ذلك أن اميركا حققت هيمنتها عندما كانت بقية القوى العالمية مؤهّلة أو مستعدة للخضوع. فقد انهار نظام القطبية الثنائية عندما غاص الاتحاد السوفياتي في الوحل وقام بالانتحار السياسي بعد ذلك بقليل. وكذلك صعدت الولاياتالمتحدة الى قمة وقيادة "التحالف الغربي" اثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، لأن القوى الغربية الأخرى قفزت الى هاوية الحرب ولم تعرف كيف تخرج منها من دون أميركا، وكانت بالأصل غارقة في مستنقع الاستعمار. من يكافح الهيمنة؟ ويترتب على تلك الحقيقة نتيجة جوهرية. فمن يستطيع أن يكافح ضد الهيمنة الأميركية هي تلك القوى الآخذة في الصعود على سلم التقدم ومدرج القوة، وخاصة القوة الأخلاقية. وبتعبير آخر، فإن تطويق وكسب اميركا في النهاية لمصلحة التقدم العالمي هي مهمة تحالف ديموقراطي تقدمي على المستوى العالمي، والسؤال هو هل يوجد مثل هذا التحالف؟ أو بالأحرى هل نفجر عناصره وأركانه الأساسية؟ إن مسح الساحة العالمية يظهر بوضوح كافٍ حقيقة فراغ القوة المضادة للهيمنة والتي تملك قوة أخلاقية او برنامجاً لتحويل النظام العالمي، هذا وإن كانت العناصر الأساسية لهذا البرنامج قائمة. فإذا نظرنا إلى آسيا، سوف نجد اليابانوالصين والنمور الآسيوية كقوى صاعدة. ولكن تأملاً أعمق في الفلسفة السياسية والايديولوجية المضمرة أو المعلنة لهذه القوى يوضح أنها جميعاً مأزومة. فاليابان لا تطرح النضال ضد الهيمنة الأميركية. وأقصى ما طرحته في فترة الذروة هو أن تقول أميركا لا. والأهم من ذلك هو أنه باستثناء بعض مظاهر الثقافة اليابانية التقليدية والموروثة والتي لا تطمئن بالنسبة للآخرين على أية حال، فإن التكوين الاجتماعي والاقتصادي والايديولوجي الداخلي والخارجي لليابان لا يختلف كثيراً عنه في أميركا. أما الصين فلديها أسباب أقوى للنضال ضد الهيمنة الأميركية. كما أن لديها أحد أهم الأطروحات التقدمية والتحررية على المستوى العالمي وهي أطروحة حق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي. وفوق ذلك فإن التقدم السريع للصين في المجال الاقتصادي وتشابه معطياتها الاقتصادية والاجتماعية مع كثير من دول العالم الثالث يجعل لها لمعاناً خاصاً في عيون غالبية شعوب العالم. ومع ذلك كله، فإن الصين لاتقدم حلاً - على الاطلاق تقريباً - لإشكاليات ومعضلات العلاقات الدولية. ويكاد شعار حق تقرير المصير يتحول في الايديولوجية الصينية الى نوع من عبادة الدولة القائمة، بغض النظر عن التاريخ الاجتماعي والثقافي لتلك الدولة ولكونها قهرية أو غير ذلك. اضافة الى ذلك كله، فإن الصين لا تزال تعيش في أقوى تحول هائل له كلفته الخطيرة في الداخل والخارج، وانتهاكات حقوق الانسان والأقليات هي شيء من هذه الكلفة. واذا نظرنا الى العالم الثالث، فسنجد شتاتاً من الايديولوجيات والأنظمة المبعثرة التي لا تنسجم بالضرورة في إطار محتوى فكري أو رسالة إنسانية سامية. بل نجد العكس، حيث يسود ظلم اجتماعي أشد، ودرجة أكبر من عدم المساواة، هذا الى جانب سيادة أنماط صلبة من الاستبداد السياسي والاقتصادي لم تؤثر عليها موجة الدمقرطة إلا على نحو سطحي للغاية. والواقع أن أزمات التحول داخل العالم الثالث نفسه كانت تعبر عن نفسها خلال العقود الثلاثة الماضية بصورة منفرة للغاية. اذ تحولت محاور الصراع من القضايا الاجتماعية والسياسية والايديولوجية الى منافسات حول الهيمنة الداخلية بين الأعراق والقوميات والأديان والطوائف. وبذلك تفككت حركة عدم الانحياز والتي كان من الممكن ان تكون المرشح الطبيعي للنضال ضد الهيمنة الاميركية، وذلك بفضل صعود الايديولوجيات الاثنية بصورها كافة، وتفاقم الصراعات بين دول هذه الحركة وانفجار هذه الدول احياناً مثلما هو الحال في يوغوسلافيا السابقة. وقد مثّلت عملية التفكك الداخلي هذه، وخبو البريق الاخلاقي لحركة عدم الانحياز اتجاهاً موازياً لانهيار الاتحاد السوفياتي. وعمل الاتجاهان معاً على منح أميركا موقع القوة العظمى الوحيدة وتوطيد هيمنتها على الشؤون العالمية. وقد تبدو أوروبا الموحّدة هي الكتلة الأفضل حالاً. وهذا صحيح بكل تأكيد من حيث نجاحها في التخلص من ذهنية الاستعمار، وتحقيق مكانها الاقتصادي وتوجهها الى تبني قيم حقوق الانسان والديموقراطية بصورة أكثر اخلاصاً قليلاً مما هو عليه الحال بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة. ومع ذلك كله، فإن أوروبا لا زالت منقسمة داخلياً وبخاصة حيال القضايا العالمية. وهي فائدة الارادة تقريباً عندما يتعلق الأمر بالنضال ضد الهيمنة الأميركية. وفوق، وأهم من ذلك، فإنه رغم أطروحات الشراكة الجديدة وغيرها، فإن أوروبا لا تنكر أن مصالحها هي تمثل المحور الوحيد لحركتها في الساحة العالمية في الأمد المنظور. أولوية الرؤية التحررية: هذا المسح السريع يظهر أننا لو ركزنا على البحث عن أركان وقوى تحالف ديموقراطي عالمي جديد مضاد للهيمنة الأميركية وقادر على محاصرتها وتطويقها، فقد لا نجد أساساً للتفاؤل. ويبدو الأمر على العكس لو ركزنا على السؤال كيف: أي الرؤى والتوجهات والأطروحات الضرورية لتفكيك نظام الهيمنة الواحدية الأميركية وإحداث تحول عميق في النظام العالمي. ويمثل القانون الدولي لحقوق الانسان إطاراً عريضاً مناسباً لهذه الرؤى والتوجهات والأطروحات، فيما لو فهمنا هذا القانون على أنه يرنامج عمل متكامل وشامل وكامل للتطبيق بصورة منسجمة ونزيهة. وفي داخل هذا الإطار العريض، سنجد القيم الأساسية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الممنوحة للفرد، كما سنجد الحق في تقرير المصير، والحق في التنمية وهي حقوق جماعية تمثل مفاتيح أساسية لنظام عالمي جديد حقاً. وهنا لا بد من التأكيد على أن ضرورة الكفاح ضد الهيمنة الأميركية لا تنشأ في مواجهة الخطاب الأميركي لحقوق الانسان، وإنما بالعكس تماماً: أي أن هذه الصورة تنشأ بسبب خيانة أميركا لقيم ومبادئ حقوق الانسان، وللحق في تطبيقها تطبيقاً نزيهاً ومنسجماً ومتكاملاً. وعلى صعيد آخر، فإن الحق في التنمية يمثل شعاراً عالمياً، وليس فقط شعاراً خاصاً لكل دولة أو مجتمع. وبتعبير آخر، فإن الحق في تنمية العالم كله هو مسؤولية وواجب جماعي يقع على كاهل المجتمع العالمي. بل إن تعبير المجتمع العالمي نفسه لا يكتسب قيمة حقيقية من دون تأكيد المسؤولية الجماعية عن التنمية واقتلاع الفقر في العالم. هذا الشعار: أي الحق والمسؤولية الجماعية عن التنمية والتقدم الشامل للانسانية يفند أطروحة أميركا التي تقول بسيادة قوى السوق. فقد نتصور أن تمثل قوى السوق ميكانيكية خاصة بالادارة الاقتصادية المحلية والدولية. غير ان هناك فارقاً بين العمل من أجل تمكين قوى السوق على الصعيد الاقتصادي العالمي من ناحية وتغليب قوى السوق كأساس لبناء مجتمع عالمي. فالمجتمع العالمي مثله مثل المجتمع المحلي لا ينشأ بفضل قوى السوق المطلقة من كل قيد، وإنما ينشأ بسبب التضامن والتعاطف والمسؤولية الاخلاقية والانسانية عن قضايا مشتركة وعن حل مشاكل متبادلة. ومن ناحية ثالثة، فإن أطروحة أميركا الخاصة بالتحول الى الديموقراطية في الداخل تطغى في الصميم من خلال تأكيدها على الانفراد بالنفوذ على المستوى الدولي، فالديموقراطية الحقة في الداخل لا تزدهر إلا في سياق ديموقراطية النظام العالمي. وفي المقابل، فإن تأكيد دول كثيرة في العالم الثالث على الحاجة الى دمقرطة النظام العالمي يبدو وكأنه دعوة زائفة مادامت هذه الدول تقاوم التحول الديموقراطي على المستوى الداخلي. كما ان دعوتها إلى اعادة توزيع الثروة على المستوى العالمي تبدو نوعاً من النفاق الرخيص مادامت تقاوم إعادة توزيع الثروة بهدف اقتلاع الفقر وتسريع التنمية على المستوى الداخلي. وفوق ذلك كله، فإن الشكوى من الهيمنة الأميركية تصبح محرومة من أدنى صدقية مادامت هذه الدول غارقة في صراعات عرقية ودينية وثقافية محتواها الأساسي هو التنافس على الهيمنة. معنى جديد للسياسة الدولية: ومعنى ذلك كله هو أنه سيكون من المستحيل إنهاء الهيمنة الأميركية أو تطويقها مادام استمر الواقع والمضمون الراهن للسياسة الدولية، فالمنافسات الاستراتيجية بين دول آسيا هي التي تخلق موقع قدم لتلك الهيمنة ، بل إنها تستوعبها. وكذلك تفعل المنافسات والصراعات الدينية والعرقية والقبلية في افريقيا الاستوائية. أما في أميركا اللاتينية، فإن النضال ضد الهيمنة الأميركية يمثل شعاراً فارغاً من المضمون، إن لم ينطو في الوقت نفسه على تصفية الاحتكارات شبه الاقطاعية للمال والصناعة، وهي الاحتكارات التي تتسم بالقسوة في مجال السياسة. وبتعبير آخر، فإن تطويق الهيمنة الأميركية سيكون مستحيلاً إلا في إطار رؤية عالمية تتحرر من النزعة القومية الضيقة، وتبدأ بتصفية خطاب الهوية وخطاب الكراهية وما يجيش به من عنف ومشاحنات ومنافسات استراتيجية وثقافية. ومن هذا المنظور، فإن تصفية الهيمنة الأميركية يدعونا الى معنى جديد للسياسة على المستوى العالمي يترجم مرحلة ما بعد القومية ويسرّع تحول دولة ما بعد الاستعمار الى دولة التنمية المتوازنة في الداخل والخارج. الخطاب العربي: ويصدق هذا الاستنتاج على حالتنا العربية بأكثر مما يصدق على غيرها من الحالات. فنحن العرب أصحاب المصلحة الأولى في تطويق ا لهيمنة الأميركية. ولكن الخطاب العربي الراهن يصور القضية على نحو يقود بالضرورة الى الهزيمة الداخلية. فالنضال الناجح ضد الهيمنة الأميركية لا يمكن أن يبدأ بتأكيد الخصوصية في مواجهة العالمية، ولا يمكن أن يتطور طالماً أنه مطروح على أرضية الشرق في مواجهة الغرب، ولا يمكن ان ينتصر بالبحث عن نماذج أنجح للاستبداد الشمولي في الداخل. فالإنسان العربي يكتشف أنه لا معنى لتحرره من الهيمنة الأميركية، إلا إذا تحرر من هيمنة الاستبداد والقسوة والعنف في الداخل. كما أن ازدهاره الثقافي الخاص لن يتحقق قط إلا إذا طرح على أرضية التسامح والقبول المتبادلة لبقية الثقافات العالمية. والتنمية الاقتصادية العربية لن تتحقق من خلال أسوار العزلة والحماية، وإنما من خلال المسؤولية الجماعية العالمية والاقليمية عن النضال ضد التخلف والفقر. وفي اليوم الذي نتحرر فيه من نزعتنا الاثنية الخاصة نستطيع ان نطوق النزعة الاثنية الأميركية المهيمنة لأننا سنتمكن عندئذ من تكوين تحالف عالمي ضد كل النزعات الاثنية، وضد كل نزعات الهيمنة،. وعندما نتحرر من انكماشنا ومخاوفنا سُنقدم على بناء هذا التحالف. هذه هي مصالحنا وهذه هي مسؤولياتنا الحقيقية. * نائب مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية والاستراتيجية - القاهرة.