مثلما كان والده يختار دائماً فرنسا ليطلّ عبرها على اوروبا والعالم الغربي، هكذا اختار الرئيس بشّار الأسد فرنسا للقيام بإرساء قاعدة تعاون يمكنه بواسطتها كسب الرأي العام الاوروبي. صحيح ان بوابة اسبانيا كانت المدخل الرئيسي الذي باشر منه الدكتور بشّار زياراته الرسمية للقارة الاوروبية... ولكن الصحيح ايضاً ان تلك الزيارة تمت على هامش المعرض الأموي في قرطبة حيث قدمت سورية نماذج من تراثها التاريخي كدليل على مساهمة العرب في إثراء الحضارة الاوروبية. وهذا ما ساعد على تحقيق سلسلة انجازات اقتصادية وسياسية أهمها الوعد الذي أعطاه رئيس الحكومة خوسيه ماريا أثنار بإبرام شراكة سورية مع الاتحاد الاوروبي خلال رئاسة اسبانيا للاتحاد الاوروبي مطلع السنة المقبلة. وبما ان اسرائيل نجحت في إبقاء سورية على قائمة الدول الراعية للارهاب بواسطة انصارها في الكونغرس، فهي ايضاً عازمة على منع دمشق من الدخول في شراكة مع الاتحاد. ووظّفت الوصف الذي أطلقه عليها الرئيس بشّار الأسد لتشن حملة واسعة ضد المسؤولين السوريين الذين يعتبرون ان "عنصرية الاسرائيليين تجاوزت النازية". ومن المؤكد ان ضخامة الحملة الصهيونية عكست مخاوف شارون من احتمال احياء القرار رقم 3379 الصادر عن الجمعية العامة للامم التحدة. اي القرار المُصادَق عليه عام 1975، والذي يعتبر الصهيونية شكلاً من اشكال العنصرية. ولولا الضغط المتواصل الذي مارسته واشنطن عام 1991 اثر انطلاقة عملية السلام، لما نجحت اسرائيل في الغاء أخطر قرار يدينها بالتعسّف والكراهية وتجاهل حقوق الانسان. وربما توقع وزير الخارجية شمعون بيريز من سفير سورية لدى الاممالمتحدة ميخائيل وهبه إعادة طرح مسألة حماية المدنيين في الحروب، خصوصاً وان صحف دمشق طالبت بضرورة بعث القرار المُلغى بسبب ممارسات الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. وتحاشياً لمناقشة هذه الاتهامات، قامت اسرائيل بتأجيج الحملة الاعلامية ضد الأسد بهدف تغطية اعمال العنف من جهة، وارغام الحبر الأعظم على الغاء زيارته لسورية، من جهة اخرى. وجنّدت من اجل هذه الغاية مختلف الوسائل المُتاحة، بما في ذلك دور الصحف وشركات الاعلان والعلاقات العامة. ونشرت جريدة ال"هيرالد تريبيون" اعلاناً ضخماً دفعت تكاليفه "اللجنة اليهودية الاميركية". ويعتمد الاعلان على ابراز روح العداء والكراهية للشعب اليهودي، مستشهداً بعبارات منقولة عن خطب تقول "ان الصهيونية اخترعت الهولوكوست لابتزاز المثقفين والسياسيين في العالم". وانضمّت الادارة الاميركية الى جوقة التهويل، مدّعية ان تصريحات الأسد بشأن عنصرية اسرائيل غير مقبولة لكنها تغذّي الأحقاد الطائفية. وقضت عملية استنفار الاعلاميين الى استغلال نفوذ مركز "سيمون ويزنتال" في لوس انجليس باعتباره المصدر المركزي لتوليد حملات التشويش. وبرّر مؤسس المركز الحاخام مارفن اييار تصريحات زميله الحاخام عوفاديا يوسف، الزعيم الروحي لحزب "شاس"، بالقول ان كلامه حول "ضرورة ابادة العرب بواسطة الصواريخ" لا يستهدف سوى الارهابيين فقط. واللافت في هذا الموضوع ان اعلانات الجمعيات اليهودية تصدّرت اهم الصحف الاميركية والاوروبية، في حين رفضت غالبية الصحف البريطانية نشر اعلان لمنظمات اسلامية بريطانية بحجة انه يُسيء الى الحساسية الدينية باستخدام تعبير "الهولوكوست الفلسطيني". بعد فشل حملة الاعلام والاعلان في حمل البابا على تأجيل زيارته لسورية، ركّزت المنظمات اليهودية انتقاداتها على زعماء اوروبا لأنهم يستقبلون بشّار الأسد، "الرئيس المعادي للسامية والبعيد عن القيم الديموقراطية وحقوق الانسان". وطالب المؤتمر اليهودي الاوروبي رؤساء الدول بقطع كل علاقة مع الرئيس السوري بسبب التصريحات التي أدلى بها في اسبانيا وخلال زيارة البابا لدمشق. ودعا المؤتمر في بيانه الى مقاطعة الأسد الى ان يعتذر عن اقواله، مشيراً الى امكانية رفع شكوى قضائية في اسبانيا لأن تصريح الرئيس حمل دعوة العداء والتحريض، واعتبر رئيس أساقفة باريس الكاردينال جان ماري لوستيجيه ان الدكتور بشّار أضاع اعتباره باستخدام اقوال يرفضها البابا، علماً بأن الكاردينال إياه وُلد يهودياً، ثم اعتنق المسيحية في شبابه. ولم ينسَ الحاخام مارفن ان يذكّر بالكتاب الذي اصدره وزير الدفاع مصطفى طلاس، وفيه يروي حادثة تاريخية جرت في دمشق عام 1840 يوم اتُهم ابناء الحي اليهودي بقتل كاهن ارثوذكسي. ولسبب مجهول أيّد القنصل الفرنسي في حينه اتهامات الدولة لطائفة يهودية متعصّبة أُشيع انها استعملت دم الكاهن لصنع خبز بلا خميرة. وتذكر "دائرة المعارف اليهودية" هذه الحادثة مع تفسير سياسي خلاصته ان فرنسا كانت تنافس روسيا وبريطانيا على موقع متقدم في الشرق الاوسط، وتؤكد ان محمد علي باشا تدخّل للإفراج عن المعتقلين. في مطلق الاحوال لم ينجح المجلس التمثيلي اليهودي في فرنسا، الناطق باسم 15 جمعية، في تأجيل زيارة الرئيس بشّار الأسد المقررة يوم الاثنين المقبل 25 الجاري. كما لم تفلح الانتقادات الموجّهة للدكتور بشّار حول تشبيهه الصهيونية بالنازية، في التغطية على مسؤولية شارون عن جريمة صبرا وشاتيلا، خصوصاً عندما تصدّى للمعترضين على الزيارة ناشطون فرنسيون يمثّلون مختلف القطاعات، مُطالبين بتدخّل فرنسا لحماية الشعب الفلسطيني من حرب التصفيات العرقية. والمؤكد ان الدولة استفادت من هذه المبارزة العلنية لتحصر طلبات التظاهر باثنتين فقط، على اعتبار ان الشارع لا يمكن ان يقرر سياسة الدولة. والملفت ان الرئيس جاك شيراك ورئيس وزرائه ليونيل جوسبان اتفقا على تنسيق الجهود من اجل إنجاح الزيارة، ولم يسمحا للمجلس التمثيلي اليهودي بأن يملي ارادته عليهما. لكن تعاونهما في هذا المجال لم يمنع سلطات الامن من تأخير نشر الاعلام السورية في جادة الشانزيليزيه خوفاً من حدوث صدامات بين الجاليتين العربية واليهودية. ويبدو ان المقابلة التي اجراها الدكتور بشّار مع القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي ساعدت على تنفيس الاحتقان المُصطنع، واوضحت جوانب الغموض في الامور المتعلقة بتصريحاته عن اليهود. قال انه ملتزم خط مؤتمر مدريد مع كل ما يحققه من سلام عادل وشامل على اساس قراري مجلس الامن 242 و338. وكرر ما قاله والده مرة اثناء زيارته لفرنسا، من ان تحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة يقود تلقائياً الى الاعتراف باسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها. ومن دون ان يحدد تاريخ انسحاب القوات السورية من لبنان، اعلن ان وجودها موقت، "لأن مكان عملها الطبيعي هو حدود سورية". وهكذا طمأن اللبنانيين من فوق منبر اعلامي فرنسي ان هذه القوات متواجدة في بلد آخر، وان بقاءها "مرتبط بالظروف الاقليمية والداخلية اللبنانية". اي انه أعاد صوغ الردود التي صدرت عن الرؤساء اللبنانيين الثلاثة بهذا الشأن، معتبراً ان ازمة الشرق الاوسط لها حجم كبير في تحديد موعد الانسحاب السوري. واستشهد باتفاق الطائف ليفسّر عملية اعادة الانتشار ويقول ان مثل هذه التحركات تقررها لجنة عسكرية لبنانية سورية مشتركة، علماً بأن التحركات الاخيرة فاجأت العسكريين قبل السياسيين لكونها تمت بطريقة غير متوقعة، الامر الذي أطلق عنان الخيال لدى المُحلّلين والمُنظّرين. بعضهم عزاها لضرورات عسكرية تتعلق باحتمال تجنّب ضربة انتقامية كرد اسرائيلي على اعلان مسؤولية عملية "تل ابيب" من مكتب "حماس" في دمشق، والبعض الآخر ربط توقيت اعادة التمركز بموعد زيارة الأسد لفرنسا، وما يمكن ان تحدثه هذه الخطوة من وقع حسن على الرأي العام الاوروبي. وبما ان الأسد عازم على القيام بزيارة رسمية للبنان قبل قمة الفرنكفونية، فإن انتقاله الى بيروت وسط اجواء هادئة، يمكن ان يعطي الزيارة فكرة الاعتراف بسيادة لبنان المستقل، اي فكرة "الوطن النهائي" كما نصّت العبارة الاولى من الدستور. لاحظ المراقبون ان النيّة الحسنة لم تكن متوافرة لدى القناة الفرنسية الثانية، وان الحديث الذي اجرته مع الرئيس الأسد لمدة 37 ساعة اجتزأت منه اهم العبارات واكتفت ببث عشر دقائق فقط. وبما ان الدكتور بشّار كان يتحدث بالعربية، فان المترجم اختصر الاجابات وتصرّف بالنص على نحو مشوّه. وبعد مرور فاصل قصير على عرض المقابلة، بثّت القناة ذاتها خبر اعتقال الصحافي السوري نزار نيوف، وقدمت خبر الاعتقال بطريقة مثيرة أوحت من خلالها ان سورية ليست كما يصفها رئيسها، وان السجن هو المكان المعدّ لاصحاب الاتجاه المعاكس. وربما ينتطر الضيف من مضيفه الرئيس جاك شيراك معاملة سياسية مختلفة تنسيه حال التشنج التي افتعلت بعض التشويش على الزيارة. ومع ان حاشية شيراك تتمنى لو ان باستطاعته خرق البروتوكول، كما فعل اثناء استقبال الرئيس النيجيري وملك المغرب، الا ان السوابق المستثناة لم تسمح له بمعاملة مشابهة يوم وصول الرئيس اميل لحود. ومع ان ثقل سورية السياسي يطغى في نظر فرنسا على ثقل العلاقات التاريخية مع لبنان، الا ان قاعدة التوازن بين البلدين لا تعفي الرئاسة الفرنسية من اي خطأ تقترفه بحق ورثة محبة "الام الحنون". لهذه الاسباب وسواها ستقتصر المعاملة الخاصة على برنامج مكثّف ينتهي بتوقيع ثمانية اتفاقات تشمل قطاعات الاقتصاد والصناعة والسياحة والثقافة والادارة. وبما ان حجم سورية السياسي اكبر بكثير من حجمها الاقتصادي فإن الرئيس بشّار عازم على ردم هذه الهوة عن طريق الانفتاح، واكتساب الخبرات واجتذاب رساميل البورجوازية السورية المهاجرة التي أبعدتها الاجراءات الاشتراكية خلال الخمسينات والستينات. عندما استقبل جاك شيراك الدكتور بشّار الأسد الذي زار باريس للتعرّف على صديق والده، اخبره الرئيس الفرنسي ان زيارته لدمشق تركت في ذهنه انطباعاً حسناً يصعب محوه. وحدّثه عن خمسة لقاءات جرت مع والده الذي حرص على نقله بسيارته من فندق "ميريديان" وسط دهشة الجمهور وارتباك رجال الامن. وكان دائماً يشجعه على الاقتداء بمواقف الجنرال ديغول الذي رفض الهيمنة الاميركية على اوروبا، مؤكداً ان لفرنسا دوراً كبيراً تلعبه في سبيل ايجاد حلول عادلة لمجموعة المشكلات العالقة. ومن المؤكد ان الدكتور بشّار سيكرر ما قاله والده حول دور فرنسا، ودور الاتحاد الاوروبي وذلك بهدف كسب العالم العربي والانعطاف نحو بناء علاقات اكثر وثوقاً واقوى ارتباطاً، خصوصاً وان دور سورية الاقليمي يساعد اوروبا على لعب دور قيادي في ازمة الشرق الاوسط. وربما يردد هذا الكلام في برلين اثناء زيارته الشهر المقبل لالمانيا، على اعتبار ان هذه القارة يجب ان تخرج من بيت الطاعة الاميركي. الرئيس شيراك مثل صديقه المستشار شرودر يعرف ان الدولتين محكومتان بعقدة المحرقة ومحاكمة الفرد دريفوس، وان الخروج كثيراً على الوصاية الاميركية سيؤدي حتماً الى ظهور بانديت كوهين آخر يهدد مستقبل شيراك كما هددت تظاهرات كوهين نفوذ عملاق فرنسا واقتلعته عن شعبيته! * كاتب وصحافي لبناني.