} يشهد المسرح في دولة الامارات العربية نهضة تبرز سنوياً في أيام الشارقة المسرحية. هنا قراءة لهذا المسرح العربي الناشئ وعناصره وآفاقه. كانت البعثات التعليمية العربية في الخمسينات تدرّب طلاب المدارس في الامارات على فن التمثيل، وتحثّهم على اقامة الاسكتشات والبرامج الترفيهية والتمثيليات القصيرة على خشبات متواضعة، قبل أن تستقل هذه النشاطات عن ادارات المدارس والنوادي، وتؤول الى أمكنة مخصصة لقيام العروض المسرحية، وقاعات تتوافر فيها التجهيزات والتقنيات الفنية الضرورية. وعلى رغم ضعف الامكانات أذكت عهد ذاك بعض المسرحيات الشعبية المرتجلة نفوس أهل الامارات، وأوغرت صدورهم ضد المستعمرين البريطانيين. مثل "وكلاء صهيون" التي أقيمت على خشبة نادي الشعب في الشارقة عام 1959 وأثارت حفيظة الانكليز. ولم يتوانَ الاماراتيون لتنشيط الثقافة المسرحية من الاستعانة بالخبرات العربية فاستقدموا من مصر زكي طليمات وسعد أردش، ومن الكويت صقر الرشود، ومن تونس المنصف السويسي، ومن البحرين خليفة العريفي. وتعاقدت الدولة مع تقنيين ومصممي ديكور وفنيي اضاءة ومخرجين قاموا بعقد دورات تدريبية للممثلين وتنفيذ الأعمال والمشاريع المسرحية، وعكفوا على تربية المواهب وصقلها، وتوعية الجمهور على دور المسرح وأهميته في تنمية الشعور الجمعي والتعبير عن الارادة العامة ومحاربة الفساد والظلم. ولم يكتف الاماراتيون بالاستعانة بالفنانين العرب. إنما استكمل بعضهم، على ندرتهم، اختصاصه في الخارج في التمثيل والاخراج والديكور والاضاءة وسائر وسائل السينوغرافيا. ودعمت وزارة الاعلام والثقافة مادياً الفرق المسرحية النشيطة. وتراوح الدعم للفرقة بين مئة ومئة وثمانين ألف درهم سنوياً. ووضعت لائحة بأجور الفنانين المسرحيين منذ عام 1988. وشكّلت لجان اختصاص لفحص النصوص ومراقبة العروض. وسعت الوزارة الى وضع قوانين وتشريعات تنظم العمل المسرحي، وتكفل استمرار نشاطه ورفع مستوى اداء الفرق. وشاركت الامارات في الكثير من المهرجانات والفاعليات المسرحية العربية منذ 1975، وتمثّلت في مهرجان أيام قرطاج في تونس، والمسرح التجريبي في القاهرة، والمهرجانات الخليجية، وأقامت النشاطات المسرحية داخل الدولة عبر "أيام الشارقة" في دورات بلغت احدى عشرة. وتراوحت النصوص الاماراتية بين الكتابات المحلية والعربية والمترجمة والمقتبسة. وعبّرت بموضوعاتها عن تطور المجتمع الاماراتي والمجتمعات الخليجية بين حقبتي ما قبل النفط وما بعده. وما طرأ من ظواهر وتحولات اقتصادية ونفسية مثل استيراد خدم المنازل، وانتشار عادات التبذير، وتفاقم المحسوبيات والوساطات وغير ذلك من مثالب اجتماعية واخلاقية. وتناولت العلاقة مع الخبراء الأجانب، وموضوع المرأة والرجل وحياة الأسرة. كذلك طرحت بعض هذه المسرحيات القضايا القومية كقضية فلسطين، والقضايا الوطنية مثل قضية الجزر الثلاث "طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى" التي احتلتها القوات الايرانية. وفي مسرحية "الرسالة وجزر السلام" التي وضع فكرتها وأشرف عليها الشيخ خالد بن صقر القاسمي ولي عهد رأس الخمية، تُرجمت الوثائق والمعلومات والمعطيات الميدانية ترجمة درامية حركت المشاعر الوطنية لدى الحضور. ولقيت التربية المسرحية اذاناً صاغية في قاعة التدريس والمحيط المدرسي. حيث تُؤطَّر المفاهيم والسلوكيات التربوية والتعليمية في قوالب درامية ترمي الى تنمية قدرات التلميذ العقلية والوجدانية، وتوسيع مداركه وملكاته الذوقية والجمالية، وتنشيط الذاكرة وتمارين التخيل وترسيخ القيم السامية واكتساب المتعة الفنية. بيد أن خطة وضعتها وزارة التربية والتعليم منذ أوائل السبعينات للنهوض بالمسرح المدرسي حددت فيها ظام العمل والأهداف والأساليب الاجرائية والتنفيذية ما لبثت أن أخفقت، بل أسقطت الوزارة مطالبة البعض في اعتبار المسرح مادة من مواد المنهاج المدرسي. هوية خاصة التجربة المسرحية الاماراتية التي تحاول أن تجد لها موطئ قدم بين التجارب العربية، تسعى الى خلق هويتها الذاتية الخليجية فتواصل عبر احدى وعشرين فرقة موزعة على المدن والمناطق توثيق أواصرها بجمهور ما زال يتهيب إرتياد المسارح، والتفاعل مع ما تطرحه من موضوعات. لكن جل ما استطاعت أن تستقطبه دورات "أيام الشارقة المسرحية" التي لم يتجاوز حضورها يومياً في أفضل الأحوال اربعمئة شخص. ويقتصر المسرح الاماراتي اليوم على النخبة، ولم يتحول الى مسرح جماهيري لأنه عاجز عن تشكيل قاعدته الواسعة، وعن حمل الناس على التعلق بما يدور على الخشبة. وهذا الاحجام من الجمهور يوقع الكثير من العروض في الخسارة المادية، حيث لا يمكن تغطية نفقة المسرحيات التي تبلغ أحياناً على ما يقول رئيس مجلس ادارة مسرح رأس الخيمة الوطني عبدالله علي الطابور 150 ألف درهم في المتوسط. ويعزو الطابور علة هذا الانقطاع بين الخشبة والجمهور الى غياب النصوص المحلية التي تعالج قضايا الناس وشجونهم، وركونها الى الأعمال المستوردة. ومن معوقات الحركة المسرحية أيضاً موسمية العروض، والصعوبات الادارية والفنية والمالية والأمور التنظيمية، وغياب الكوادر المسرحية المتخصصة حيث لا يتعدى عدد الحائزين على درجات علمية جامعية في التمثيل والاخراج والديكور أحد عشر إماراتياً. وعلى رغم التطور الملموس الذي طرأ على البدايات الخجولة المترددة، فإن النشاط المسرحي في الامارات يواجه معوقات ناجمة عن النظرة الضبابية الى بنية العمل المسرحي التي تعتري أذهان العاملين فيه، بمقدار ما تعتري أذهان الجمهور. وكثير من الفرق الحكومية والأهلية تتقاعس عن مواصلة نشاطها، وتنقطع عن تقديم العروض إلا في مناسبات متفرقة. عدا قلة ضئيلة لا تزال تواصل أعمالها مثل مسرح رأس الخيمة الوطني، ومسرح الشارقة الوطني، بل ان عدداً من الممثلين يمتنعون عن المشاركة في أعمال سبق أن قاموا فيها بأدوار. ولا يقتصر ضعف الحركة على عدم تأسيس الهياكل المسرحية الملائمة وعدم المقدرة على تطوير التربية المسرحية أو توفير التجهيزات والبناء المعدات وأدوات التقنية والمؤثرات الصوتية والاضاءة والديكور ومقاسات الخشبة ومواصفاتها، بل يتعلق أيضاً بخلل بنيوي، على صعيد الشكل والمضمون. ولم تتوان لجان التحكيم التي استضافتها دولة الامارات عن طرح المعضلات، ووضع الإصبع على مكمن الداء. فلاحظت عدم استواء التجربة والتحصيل العلمي والاستفادة من الخبرات العربية والدولية، وغياب الكوادر الفنية، وضعف اداء الممثلين وهبوط الايقاع العام للعمل المسرحي. وحضّت اللجان التحكيمية على تجاوز ركاكة العروض وعثرات البداية، وأخذ المبادرات المسرحية الصحيحة القائمة على أساس علمي ومعرفي، والبعد عن الهزل اللفظي الحسي المكشوف الذي يسود عادة المسرحيات الكوميدية، والامتناع عن تكرار الموضوعات الاجتماعية المتماثلة التي سبق أن طُرحت بصورة أو أخرى، والسعي الى تكوين هوية شعبية، وتشكيل احتفالي يتفاعل مع الجمهور، ويحقق له متعة الفرجة. ودعت الى مراعاة جمالية العرض الموجه للطفل، والأسس التربوية والنفسية والتقنية التي يرتكز عليها، وإيلاء المسرح المدرسي مكانة مهمة لما يشكله من حجر أساس في بناء قاعدة مسرحية راسخة ترفد العمل المسرحي مستقبلاً بقدرات متمرسة وجمهور متذوق. وقد أعادت دورة الشارقة الحالية التعويل على ضرورة تبني مسرح خاص بقضية الأطفال والتنشئة المدرسية. وكانت الدورات السابقة نصحت بالعمل على ايجاد نصوص تلائم البيئة الخليجية، وعلى المعالجة الدرامية، والتفاعل مع الموروث الشعبي المحلي والتجربة الحضارية الانسانية. وصارحت المتصدين لكتابة النصوص بأنهم لا يمتلكون أدوات الكتابة المسرحية وتقنياتها الدرامية وأبعادها الجمالية والفنية مما يفضي الى تسطيح المقولات التي ينشدونها، وضعف تجسيد الأفكار التي ينطلقون منها. مسألة العناصر كذلك نبّه الدارسون المسرحيون الى قيام كثير من المسرحيات الاماراتية على عنصر واحد أو عنصرين في كل عمل، وإهمال سائر الكفايات والمجالات والعناصر الأخرى، وتفشي الخطابية التي تصبو الى إحداث الأثر أو الانطباع المقصود في نفوس الجمهور المتلقي بتسخير الخشبة من دون المرور عبر قنوات التقنية المتعددة والمتميزة في الفن المسرحي ووسائله التعبيرية التي تشكل جوهر هذا الفن وعلة وجوده. ويعاني المسرح الاماراتي الذي يتحرك بلا بوصلة نقدية رصينة تثري مفرداته، وتصوّب أداءه، وتقوّم عروضه، خلال تجربة نقدية قصيرة الأجل لمجلة "الرولة" في الشارقة من قصور الأدوات الاخراجية وعدم توظيفها التوظيف الدقيق الذي يستند الى أساس علمي وفهم عميق لمقتضيات الدراما. وقد لفتت "أيام الشارقة المسرحية" في دورتها السادسة عام 1994 الى واقع المخرجين والمسرحيين الذين تنقصهم المعرفة والتأهيل في مجالات الاداء والتمثيل والمرونة الجسدية، والتعبير الحركي الذي يحقق الاقناع والصدقية. ومثل هذا الافتعال يزيد من عمق الفجوة بين هذا المسرح الوليد، والجمهور غير المتفاعل كفاية. وتتضافر هذه العوامل السلبية الداخلية والخارجية لتعطل حركة المسرح الاماراتي وتضعف دوره، وتهمّش فاعليته، وتحبط حماسة ورغبة لفيف من المسرحيين الاماراتيين الذين يصبون الى خدمة الحركة المسرحية، وتوطيد العلاقة بينهم وبين جمهورهم من خلال تطوير خبراتهم، واغناء ثقافتهم لخلق مسرح متجانس مع حياة المجتمع الاماراتي وفكره، ومرتبط بحركة التنمية الثقافية داخل اطار الدولة والناس، ويعبّر عن ضمير المواطن وأسئلته المؤرقة. معطيات المقال مستمدة من الكتاب التوثيقي "المسرح في الامارات" لعبدالله علي الطابور - منشورات دائرة الثقافة والاعلام/الشارقة.