تختزن المسرحيات المشاركة في الدورة الرابعة والعشرين، من الأيام المسرحية في الشارقة، طاقات عالية من المشاعر والأفكار التي تدور حول ماهية الحياة والموت والولادة وتصالح الناس مع الحياة في أشكالها المختلفة. غير أن المسرحيات هذه، لا تزال تنبض بقلب، يبحث عن آليات تجاوز الأشكال القديمة المختبرة في الفرق، المتأثرة بالكثير من تجارب المخرجين العرب، الذين مرّوا بالتجربة الإماراتية بسرعة أو بإقامة طويلة. لا تزال التجارب، أقرب إلى المواقف الكبرى، من مفردات اللغة المسرحية وبلاغة التعبير وجمالية الفن. والحال، أن الجمالية الفنية، تقع في البلاغات اللغوية، وأن المفردات المسرحية، لا تزال تفخم حضورها، على رغم السنوات الطويلة، المستحقة في التجربة الإماراتية المسرحية. ثمة روح قيادية، في كشف التجارب، عن تناقضات التجربة في شهادات أصحابها على حضورهم الشخصي وعلى حضور الآخرين، وسط احتضان كامل لتجربة المسرح من المؤسسات الثقافية الحكومية في الإمارات، خصوصاً في الشارقة، تحت رعاية الشيخ سلطان بن محمد القاسمي. وأظهر الدعم بعض جوانب التجربة الإماراتية المتقدمة، وبعض تجلياتها المسرحية المتميزة. ثمة اختلاف بين التجربة والتجليات، ولا بدّ من التوقف عند هذا الاختلاف للتدقيق فيه. ذلك أن الشارقة، كتبت خطة نهوض المسرح. حوّرت في مفاهيم العمل في دائرة الثقافة والإعلام. لم تنشئ مؤسسات رديفة لها، تنافسها أو تسابقها على مغنم ثقافي أو حمل طيار. ظاهرة «أيام الشارقة المسرحية» أولاً، ثمّ «هيئة المسرح العربي» ارتقت بالتجربة المسرحية في الإمارات إلى مفاهيم المؤسسة الناهضة، الناشطة، غير المتكلسة، الحصن الأول في حماية أية تجربة. هكذا، اندفع المهرجان في دوراته، واحدة تلو الأخرى، في حين راح دور المهرجانات المسرحية العربية التاريخية يتراجع. مهرجان دمشق المسرحي، مهرجان قرطاج، مهرجان بغداد، مهرجانات بيروت الطيارة، حمت المهرجان ودفعته إلى أن يخوض معاركه على جبهات الحياة، لا على جبهات الموت. لم تفشل الخطط، لا على صعيد التنظيم ولا على صعيد الإحاطة. ذلك أنّ لجان المهرجان ما زالت تمارس أدوارها الحية، في قراءة النصوص، لا بهدف مسحها بالمعنى الرقابي للكلمة، بل بهدف قراءة شخصية للعرض على الورق وما يتمتع به من صفات تقدمه على العروض الأخرى، بهدف انتاجه... لأن مهرجان الشارقة المسرحي، ينتج العروض المسرحية المُدرجة على لوائحه من الألف إلى الياء، لكلّ من يستحق... قدر لا يخطئ من يستحقه، بكثافة وإيجاز. بذلك، اختارت اللجنة التنظيمية، أحد عشر عرضاً، إضافة إلى عرض الافتتاح. مزج الأشكال والمناهج كرّس المهرجان تقليداً لافتاً في افتتاح برنامجه، عبر العرض المتوّج في مهرجان المسرح العربي، الذي تنظمه سنوياً «هيئة المسرح العربي». فجاءت الافتتاحية مع مسرحية «ريتشارد الثالث» لجعفر القاسمي. عرض لا يصالح بحضوره العروض الأخرى، لا على صعيد المفهوم ولا على صعيد التشكيل ولا على صعيد اللغة. نقطة ليست في مصلحة العروض الخليجية. ذلك أن «ريتشارد الثالث» محاولة حرة في استنباط شكل مسرحي، يعمِّر حضوره على دمج الأشكال والمناهج في عرض واحد، بلغة محفوفة بالتجارب التونسية المتقدمة، تجربة الفاضل الجعايبي على وجه التحديد. لا غاية في ذلك، باختلاف القيم والمعايير بين عرض الافتتاح العربي «ديكتاتور» في الدورة الماضية (إخراج لينا أبيض عن نص الكاتب الراحل عصام محفوظ - تمثيل جوليا قصار وعايدة صبرا)، والعروض الخليجية الباحثة عن وجودها الأغلى والأثمن على المنصات المسرحية في الخليج والعواصم العربية. هكذا بدا التفاوت واضحاً في مصلحة عرض الافتتاح، تقابله العروض الإماراتية، مع أسماء حفرت حضورها في التجربتين العربية والخليجية. حسن رجب مع «مسرح كلباء» في مسرحية «صاحبك»، أحمد الأنصاري مع «مسرح رأس الخيمة» في مسرحية «خلخال»، مبارك ماشي مع «مسرح خورفكان» في مسرحية «أوركسترا»، محمد السلطي مع «مسرح العين» في «القبض على طريف الحادي» عن قصة قصيرة لممدوح عدوان، عبدالله زيد مع «مسرح دبا الحصن» في «سمرة وعسل»، رامي مجدي مع مسرحيته «الواشي» المنتخبة من «مهرجان المسرحيات القصيرة»، محمد صالح مع «مسرح بني ياس» في «الحصالة»، محمد العامري مع «مسرح الشارقة الوطني» في مسرحية «طقوس الأبيض»، إبراهيم سالم مع «المسرح الحديث» في مسرحية «ماكبث». ثمة من قدّم مسرحيتين في الآن ذاته، مثل أحمد الأنصاري الذي عرض «لو باقي ليلة» أيضاً مع «مسرح دبي الشعبي»، وحسن رجب «الغافي» مع «مسرح الفجيرة». جاورت بعض الأسماء المعروفة في الكتابة أسماء المخرجين، ومنهم أحمد الماجد وسالم الحتاوي وحميد فارس وعبدالله زيد ومحمد الضنحاني ومحمد صالح. القائمة طويلة، وجاء طولها في مصلحة توسع انسانية التجربة وتصاعدها إلى صلاحها وتجاوز التجسيدات المسرحية السابقة، إلى القدرة على الإصغاء إلى المنجزات الكثيرة المتحققة على مدى السنوات الماضية والاستفادة منها، في الصناعة المسرحية، برصد بوحها ونبضها الداخليين، وتكريسهما بالأشكال والمناهج المختارة، من دون عثرات أو هنّات على ما أظهرت التجارب الأخيرة، على منصة «قصر الثقافة» وعلى منصة المعهد العالي للفنون المسرحية. لا شك في أن في عودة المسرح ببعض العناصر السابقة إثراءً له. عودة أحمد الجسمي في «طقوس الأبيض» عودة مثيرة. عودة حكيمة وشجاعة، ولو أن المسرحية، ذات الإنتاج الضخم، لم تضف إلى اللحظة المسرحية في الإمارات بريقاً منتظراً، في بذلها عراقة العاملين على خشبتها وكل ما تحتاجه من عناصر وأدوات فنية. كأنها راوحت بين الكلمة والمعنى. لأن الكلام على انكسارات المرأة في المسرحية بجرأة غير معهودة، لم يسد ثغرة العرض الأساسية. ثغرة بلورة الحضور في وحدة، ترتب حضور الفنون الكثيرة في دراما اتساع الإحاطة بالفنون هذه، بما يخرجها من حضورها الاستقلالي إلى اندغامها في بناء متماسك، يسيطر على العناصر، بدل أن تسيطر العناصر عليه. غياب الكيان واضح في «طقوس الأبيض»، لأنها تراوح بين المناهج، المعكوسة الحضور على الفضاء الشاسع للعرض أو مداه المترامي. بقيت المناهج والأدوات، مناهج وادوات، بعيداً من تجسيدها في نمط. لم يتطور حضور المفيد مترجماً بالإمتاع. كلمة طيبة ومشاعر نبيلة، لم يكفِ هذا، في كتابة نص بصري واحد، مع حضور القسوة من طقس آرتو والاحتفالية الطقسية والتعبيرية والواقعية الأدائية والاختزالات الزمنية بالتنقلات السريعة المصنوعة من كبرياء، بأداء أحمد الجسمي، المضيف إلى لحظات حضوره حساسيته الشخصية. الميلودراما لم تتألق علاقة حب نظيفة بين التغريب ولمحات الكوميديا المؤسلبة واللمحات الواقعية في «القبض على طريف الحادي» وهي تنتقد فساد الأجهزة. لم يزاوج الحضور الآخر، في ولادة جديدة، حين انتهكت الرغبة بالإضحاك أجزاء من العرض المسرحي، في حين تكفلت الميلودراما بالأجزاء الأخرى. أما «الاستعماليات» المبررة، فتلك قضية أخرى. لا أريد أن أختصر ذلك بالدراماتورجيا التعبير الدائر على ألسنة كثيرين من العاملين في المجال المسرحي، من دون كثير دراية أو تمحيص. مزيج من السخرية والرثاء في عرض واحد، لم يستعمل أدواته وعناصره، بما يستحق الاستخدام، حتى بالطرق الخادعة. أنزل العرض، في نهايته، قضبان زنزانة عملاقة، لم تضئها الإنارة المسرحية، ما يغيب مفاهيم التنفيذ الدقيق. نزول القضبان السود، من عرض المسرح إلى عرض المسرح، حدث بلا إضاءة، على تلاوة صوتية، غيبت الطاقة المفترضة في المشهد الأخير هذا. تلك حال «أوركسترا» غير العابئة بالعلاقة بين المساحة والفراغ، غير المهتمة إلا بنقل سيرة موسيقيين إلى خشبة المسرح، على خلفية محاولات المايسترو، باستخدام علاقته بهم، بهدف عودته إلى رئاسة النقابة (الإسقاط دائماً). فوضى الروح هنا، أو ربما فوضى الجسد. لا أنكر أن «أوركسترا» مساحة جاهزة لتطور المصوغ المسرحي في الإمارات، بيد أنها رهنت حضورها على الإبداع الحر، غير المضبوط برغبة الضبط. راح الموسيقيون يعزفون قطعاً، تؤكد وقائع حضورهم اليومية، على ديكورات تنقلت بين الواقعية والتعبيرية. لا دقة ولا حرص، يقود حضورهما، إلى قراءة العرض بأدواته، قراءة جمالية أخرى، تقوم على المنطق، لا على فوضى الارتجال. ولا على ثنائية الأداء، وهي تتكرر في مجمل العروض. الطبيعية والتراجيدية غير المخففة، ما حمل العربية الفصحى، إلى الوقوع في الخطابة بأحيان وبالغنائية البرانية في أحيان. تراوح الأعمال أمام الديكورات الضخمة، بلا فائدة، منهجية في بناء العرض وبين كثرة عدد الموجودين على الخشبة. «الواشي» المقتبسة عن واحدة من مسرحيات بريشت القصيرة، كتب إطارها بجوّ بريشتي. تغريب مصفى، بعيداً من مختلف القيم والاعتبارات الجمالية. ما جعل الشكل واضحاً والعلاقات الإنسانية شفافة، بتغييب كل ما هو غير مجدٍ عن العرض، الراوي خوف معارض للنظام من الوشاية به من إبنه، أقرب الأقرباء. لكل عرض رهانه. هذه ميزة العروض في الدورة الرابعة والعشرين من مهرجان الشارقة المسرحي. بلوغ درجات معقولة، تم تخطيه، مع تلك الحوارات السابقة والحالية بين المسرحي الإماراتي والمُصادر. لا أحادية رؤية. إنجاز ضخم، يعتبر هذا إنجازاً ضخماً. حكمة وقدرة على تحمل المصاعب والتعامل مع مختلف الظروف، مهما جاءت الظروف قاهرة ودافعة للقيام بقراءات غير مضمونة أو مأمونة، في أحلك الأوقات وأشدها وطأة. نزعة نحو جموح، نحو رفض واقع ثابت أو مراوح. القطوف الكبير للتجربة الإماراتية بات قريباً. ثمة استعراض، من دون تكلف. ثمة وجوه، بلا أثقال. الحضور يتضاعف. لم تعد التضحيات الجسام بلا مردود.