ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي إلى 43,603    NHC تعزز ريادتها العقارية في معرض "سيتي سكيب 2024" بعروض تصل قيمتها إلى 100 ألف ريال    «مجلس التعاون» يدين الاعتداء الإرهابي الغادر الذي استهدف قوات التحالف في سيئون    البرلمان العربي يدين الاعتداء الذي تعرضت له القوات السعودية في اليمن    بيشة: ضبط مخزن للمواد الغذائية الفاسدة داخل سكن للعمال    أمير الرياض يستقبل مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة    ممثلا "سلطان بروناي دار السلام و"جمهورية توغو" يصلان الرياض    تماشياً مع مستهدفات رؤية 2030 ولتعزيز مستقبل الرعاية الصحية في السعودية: المركز الطبي الدولي يعلن عن تأسيس كلية طب جديدة بمعايير عالمية    حساب المواطن: 3.4 مليار ريال لمستفيدي دفعة شهر نوفمبر    منسج كسوة الكعبة المشرفة ضمن جناح وجهة "مسار" بمعرض سيتي سكيب العالمي المملكة العربية السعودية    "السكري" .. عبء اقتصادي متزايد على الحكومات    هل نرى معرضاً للصحافة السعودية وتاريخها العريق؟!    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على تبوك والجوف والحدود الشمالية    "الصحة" تحيل ممارسين صحيين للجهات المختصة بعد نشرهم مقاطع غير لائقة    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تشارك في "ملتقى الترجمة الدولي" بالرياض    خلال الاجتماع الوزاري لدول مجموعة العشرين بالبرازيل:المملكة تؤكد التزامها بالحفاظ على التراث الثقافي    جمعية «صواب»: برنامج متخصص ل39 شاباً متعافياً من الإدمان بجازان    والدة الأستاذ علي زكري في ذمة الله    35.4 مليار ريال حصيلة الإطلاقات والاتفاقيات في ملتقى بيبان 24    بوتين يقر معاهدة الدفاع المشترك مع كوريا الشمالية    قنوات عين تحصد ثلاث عشرة في خمس مسابقات دولية خلال عام 2024    الرئيس الموريتاني يزور المسجد النبوي    الأمريكية "كوكو جوف" بطلة الفردي في نهائيات رابطة محترفات التنس    محافظ جدة يتوج الفائزين في فعاليات بطولة جمال الجواد العربي    8 توصيات طبية تختتم مؤتمر طب الأعصاب العالمي    20,778 مخالفاً في 7 أيام وترحيل 9254    ضمك يتغلّب على الوحدة بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    الأخضر يفقد كنو أمام «الكنغر»    برعاية خالد بن سلمان.. وزارة الدفاع تنظم الملتقى الدولي الأول لضباط الصف القياديين    هيئة العقار ل «عكاظ»: «فال» و«موثوق» شرطان لإعلانات المنصات    التفاؤل بفوز ترمب يدفع «S&P 500» لتسجيل أعلى مكاسب أسبوعية    الفيفي: 34 % من الطلب الرقمي الحكومي للمنشآت الصغرى.. بلغ 32 ملياراً    «فهد الأمنية» تستضيف مؤتمر الاتحاد الدولي لأكاديميات الشرطة    السعودية تختتم مشاركتها في منتدى «WUF12» بمشاركة 30 جهة وطنية    «ألفا ميسينس».. تقنية اصطناعية تتنبأ بالأمراض    5 نصائح لحماية عينيك من الالتهاب    يجوب مختلف مناطق المملكة.. إطلاق «باص الحِرفي» للتعريف بالفنون التقليدية    حديث في الفن    ياباني يحتفل بذكرى زواجه الافتراضي    نور ولي والبلوشي يحتفلان بعقد قران مها ورامي    مراسل الأخبار    فيسبوك وإنستغرام يكافحان الاحتيال بتقنية الوجه    انطلاق التمرين السعودي المصري«السهم الثاقب 2024»    وزارة الدفاع تنظم الملتقى الدولي الأول لضباط الصف القياديين نوفمبر الجاري    التعاون يقتنص فوزاً ثميناً من الأخدود    فطر اليرقات يعالج السرطان    لماذا فرغوا الأهلي ؟    فهم ما يجري بالمنطقة من اضطرابات.. !    استحالة الممكن وإمكانية المستحيل    «منطاد العلا»    فوز ترمب.. هل للعنصرية مكان في الانتخابات الرئاسية ؟    أنشيلوتي: حققنا فوزا رائعا على أوساسونا والحديث عن الانتقالات سابق لأوانه    أمين الرياض يلتقي مديرة برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية    وفاة والدة الفنان أحمد مكي    القبض على مواطنين في الباحة لترويجهما "الحشيش" و "الإمفيتامين"    مبادرة تطوعية لتبديل المصاحف المهترئة من مساجد وجوامع محافظة ضمد تطلقها إسلامية جازان    الشؤون الإسلامية تنفذ ١٣٣٥ جولة رقابية على جوامع ومساجد ومصليات ودور التحفيظ وجمعيات التحفيظ بمدينة جيزان    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربع قرن على حرب لبنان التي لما تنته ... على ألسنة ضحاياها . حين تتحول المأساة غصة خانقة ... حين تصبح قلادة ! 2 من 2 قسم اول
نشر في الحياة يوم 14 - 04 - 2000

بعد حلقة أمس عن ضحايا الحرب التي لما تنته في لبنان، هنا حلقة ثانية أخيرة... والحلقتان مجموعة قصص جمعتها "الحياة" بعد مشاركتها في تحقيق ميداني نظمته بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان، في أيار مايو 1999، في المناطق التي مازالت منه مسرحاً للحرب، وشمل لبنانيين عانوا آثارها، ولم تبرأ بعد جراحهم الجسدية والنفسية.
-7-
المعتقلون والأسرى في سجون خارج لبنان
المعتقلون والأسرى في سجون خارج الحدود اللبنانية، ليسوا فقط عسكريين أو مقاتلين، فبينهم أيضاً مدنيون، وقد تحولوا قضية خلال الحرب، وأنشئت من أجلهم لجان وجمعيات تتابع أوضاعهم وتعمل على إطلاقهم، أبرزها "لجنة دعم الأسرى والمعتقلين في سجون الإحتلال الإسرائيلي" ومنظمة "سوليدا" التي تعنى بأمر المعتقلين في السجون السورية.
فجمال محروم مسؤول الإعلام حالياً في لجنة المعتقلين في السجون الإسرائيلية، قضى 11 سنة عقوبة في أحدها، بعدما أسر خلال عملية ضد القوات الإسرائيلية في الجنوب. وينشط في إطار اللجنة لنصرة قضية رفاق له ما زالوا معتقلين. ويقول "إن مساعدتهم هدفنا، نتابع أوضاعهم من خلال الرسائل التي يتبادلونها مع عائلاتهم، عبر الصليب الأحمر الدولي أو التي يحمِّلونها لرفيق لهم أطلق، ونهتم بعائلاتهم. ونطلق سلسلة نشاطات ومؤتمرات في لبنان والخارج، لإبقاء قضيتهم حية في الضمائر، مشكلين بذلك حملة ضاغطة لإطلاقهم، فضلاً عن أننا نهتم بالأسرى المحررين، بإيجاد وظائف وأعمال لهم".
ويأسف لعدم تطبيق اتفاقات جنيف في شقها المتعلق بحقوق الأسير أو السجين، معتبراً أنها "حبر على ورق ولا تطبق"، وداعياً الى "عدم إدخال المدنيين في لعبة الحرب". ولا يمكن جمال أن ينسى معاناته خلال الإعتقال، وبالتالي لا يعرف هل هو قادر على مسامحة من اعتقله. ويرى أن "الحرب هدفها تسويق الأسلحة، ولا علاقة لها بأي أمر إنساني، لذا يجب وقفها".
وكما جمال، ابراهيم كلش الذي أمضى في سجن الخيام خمس سنوات ونصف السنة، عندما أوقف على حاجز وهو في طريقه الى بلدة الخيام الجنوبية، مسقط رأسه، واعتقل "بطريقة إرهابية لم تخفني وحدي، بل أخافت كل من كان في نقطة الحاجز، وهم مدنيون بالعشرات". ويروي أنه تعرض لأبشع أنواع التعذيب، لإجباره على الإعتراف بمساندة رجال المقاومة أو بمعرفة معلومات عن تحركاتهم أو عن مخابئ أسلحة ومتفجرات. ويرى أن هذا النوع من الإعتقالات مخالف لحقوق الإنسان والقوانين الدولية "خصوصاً إنني كنت وحيداً وليس معي من يدافع عني". ويأسف لأن عدد السجناء في العالم يزداد ووضعهم يسوء، من دون أن تؤدي التدخلات الدولية الى خفض العدد وتحسين الوضع. ويركز مع رفاقه في "لجنة دعم المعتقلين" على اعتبار هؤلاء "رهائن لدى العدو"، خصوصاً أن بعضهم يموت في شكل بطيء، بحرمانه متابعة علاج أو بترك إصابة فيه تتضاعف، أو بموته تحت التعذيب. ويوجه نداء الى المجتمع الدولي لوقف الإعتقال، رافضاً "معاملة العدو كما عاملني، ولكن في داخلي لن أسامحه". وأكثر ما كان يعزيه خلال اعتقاله، أمل بأن يرى أحداً من أفراد عائلته أو أن يتلقى رسالة منهم، وهذا ما أتيح له في السنة الأولى، ولم يعد متاحاً في المدة المتبقية "حتى كدت أنسى أشكال وجوه أخوتي".
وكما في السجون الإسرائيلية، ثمة معتقلون لبنانيون في السجون السورية، شكلت قبل سنوات قليلة منظمات عدة خارج لبنان وداخله، للمطالبة بإطلاقهم، بينها "سوليدا" التي يقول ممثلها في لبنان غازي عاد "أن عدد هؤلاء الذين اعتبرهم مخطوفين، كبير وثمة عائلات لا تفصح أن أولادها بينهم، خوفاً من السجن أو من منعها من زيارتهم". ويوضح "أن وضعهم لا يتوافق مع القوانين اللبنانية، فهم ليسوا أسرى ولا محكومين، ولا نعرف شيئاً عن مصيرهم، معظمهم خطف على حواجز عسكرية من مختلف المناطق اللبنانية، معظمهم رجال، وقلة بينهم من النساء، وتتفاوت أعمارهم بين السابعة عشرة والأربعين".
ويلفت الى ما تعانيه عائلات هؤلاء "إذ يعيش أفرادها حياة مزرية، فلا يعرفون شيئاً عنهم ولا يتمكنون من زيارتهم، فضلاً عن أن بين المعتقلين من كانوا مسؤولين عن إعالة عائلاتهم". ويقول أن مهمة "سوليدا" تتركز على "مساعدة أهالي المعتقلين ورفع الصوت الى المراجع الرسمية لإطلاقهم". ويضيف أن اتفاقات جنيف "لا تطبق على وضع هؤلاء المعتقلين، لأن من خطفهم يفترض به أن يكون صديقاً للبنان، وليس بيننا وبينه حال عداء". ويشير الى "أن حالات الخطف ما زالت مستمرة حتى الآن الى خارج لبنان"، داعياً الى تفعيل القوانين والإتفاقات الدولية لتؤتي ثمارها "خصوصاً أن معلومات ترد علينا أن هؤلاء المعتقلين يتعرضون لتعذيب".
ويروي أن آخر دفعة أطلقت من السجون السورية، بعد تدخل من السلطات اللبنانية لدى دمشق، قيل أن عديدها سيبلغ 130، فإذا ب121 فقط يخرجون "فأين التسعة الباقون؟ لا أحد سأل عنهم، ولا أحد تكلم في الموضوع". ويدعو، في مناشدة الى المجتمع الدولي، الى وقف كل أنواع الآلام البشرية "إذ يجب ألا تحصل خروقات للقيم والقوانين والإتفاقات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وإذا حصلت يجب ألا تبقى بلا عقاب لمرتكبيها".
- 8-
المقاتلة والمدرِّسة والأرملة
إنهن مقاتلة ومدرِّسة وأرملة. نساء نماذج لما قاسته المرأة خلال الحرب في لبنان، ولكل منهن تجربتها.
فكفاح عفيفي الفلسطينية اللاجئة في لبنان وعت على الويلات. كانت صغيرة حين شاهدت كيف قُتل الأطفال والشيوخ والنساء في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. وأثر فيها ذلك، حتى عندما أصبحت في مطلع صباها قررت أن تنخرط في العمل العسكري لمقاتلة إسرائيل، متشجعة بجو بيتها، ومعاهدة ثلاثةً من أخوتها قضوا في الحرب أن تنتصر لهم. بدأت النضال طالبة، ولما علمت أن ثمة نية لتشكيل مجموعات مقاتلة التحقت بإحداها، سراً، وخضعت للتدريب اللازم في لبنان وخارجه وبدأت تعمل - في انتظار أن تشكل الى جبهة ما - في مساعدة المقاتلين المصابين والعائلات المتضررة بالقصف. وكانت باكورة مهماتها القتالية عمليتي استطلاع لمواقع العدو في الجنوب. تبعتها عملية ثالثة اشتبكت خلالها مجموعتها مع دورية من العدو، فوقعت في الأسر، وبقيت ست سنوات في معتقل الخيام "حيث حرمت، كما تقول، أبسط حقوق الإنسان، وكنت أعامل كالحيوان"، ساردة صنوفاً من التعذيب تعرضت له جسدياً ومعنوياً، واجهته أحياناً ورفاقها المعتقلين بالغناء الجماعي "الذي كان يفقد السجانين صوابهم". وراحت تتأقلم رويداً رويداً مع الواقع، قابلة بمصيرها الذي كان ضمن توقعاتها حين اختارت هذه الطريق. خرجت كفاح من المعتقل، وتزوجت من لبناني كان أيضاً معتقلاً، ورزقا بولدين، وهما يعيشان معاً بسعادة ليعوضا سني عذابهما.
ولا ترى كفاح فارقاً بين الرجل المقاتل والمرأة المقاتلة، وتعتبر أن في إمكان المرأة، إن لم تقاتل، أن تسهم في المعركة من خلال نقل السلاح والعمل في مجال الإسعافات الأولية مثلاً وإعطاء المعنويات لعائلتها ولمجتمعها. لكنها تدعو الى احترام القوانين التي تحمي المدنيين في الحرب، وتؤكد أنها تلتزمها "حتى لو كان العدو يضرب بها عرض الحائط". لا تغفر لمن أسرها فعلته، خصوصاً أنها لم تفده في شيء. لكنها تأمل بأن يحل السلام العادل والشامل منطقة الشرق الأوسط "ليتمكن أولادنا من التنعم به، فلا يعانون ما عانيناه نحن".
... وفاطمة ماروني مدرِّسة في بلدة أرنون المحاصرة. آثرت أن تبقى فيها، على رغم أن عدد تلامذة المدرسة ستة فقط، وكلهم صغار. "وحتى لو بقي منهم واحد أنا مستمرة في رسالتي"، كما تقول. تقسّم ساعات النهار بينهم، لأنهم ينتمون الى ثلاثة صفوف مختلفة الدرجات، فتشغلهم بدروس وفروض، وتعاملهم "كأم، لأنسيهم الجو الذي يعيشون فيه، فهم لا يفهمون لماذا هم محاصرون، بل يدركون أن خروجهم من قريتهم صعب".
وتختصر فاطمة، بعملها هذا، معنى التضحية والتفاني في خدمة الآخرين، وتدعو الى حماية الأطفال والمعاقين والأيتام، وتطبيق الإتفاقات والقوانين الدولية التي تجنب المدنيين أخطار الحرب. ولا تتمنى إلا أن يعم السلام بلدتها ووطنها والعالم أجمع.
... أما هيام الخوند فلم تهنأ في حياتها، ولما تبلغ السادسة والعشرين من عمرها. هي من قرية صيدون الجنوبية الواقعة على خط تماس بين رقعة السيطرة الإسرائيلية والمناطق اللبنانية الأخرى. تزوجت في الثامنة عشرة رجلاً ينتمي الى الميليشيا المتعاونة مع اسرائيل. ورزقا بطفلة. وكانت قلقة دائماً على زوجها الى أن تسلل عناصر من خارج المنطقة الى منزلهما وخطفوه. بقي في الأسر لديهم نحو ثمانية عشر شهراً، "استطعت خلالها أن أقابله مرات بواسطة الصليب الأحمر الدولي. وعندما أفرج عنه عاد والتحق بالميليشيا، الى أن قتل في عملية عسكرية، بعد سنة من إطلاقه. تحملت مصيبتي - كما تقول - فأنا مؤمنة بربي، وبالإيمان يمكننا التغلب على كل شيء. غيابه عني أسيراً، كان صعباً أما الآن فهو أصعب".
الحرب، كلمة تغضب هيام لسماعها. "فالإنسان عندما يفكر بالسلام، لا يعود يفكر بالحرب. للسلام قواعد، أما الحرب فلا. والحياة أمل ورجاء، والأمل مستقبل. أتعلم وأعلم ابنتي ليكون مستقبلاً سلاماً دائماً".
وتتعزى هيام، انطلاقاً من المثل القائل "أن من ير مصيبة غيره تهن عليه مصيبته". فمنطقة جزين التي تتبع لها صيدون عرضة لعمليات عسكرية من خارجها يذهب ضحيتها أبرياء أحياناً كثيرة. وتقول "أن الدم صار جامعاً للعائلات، فتأتلف بعضها على بعض. فالأرامل كثيرات، واليتامى كثر. والعاطفة تجمعنا وتقربنا. نعزي بعضنا، ونساعد واحدنا الآخر. ونحيا بإيمان وصبر، في انتظار سلام موعود، لنشعر، ولو للحظة، أن لنا كياناً ووجوداً، وإننا نحيا فعلاً".
- 9-
القلادة
لو كان للقذيفة عقل وإدراك، لرفضت أن تنفجر إذا ما عرفت أنها ستستهدف طفلاً أو بريئاً، أو على الأقل لاعتذرت.
يكفي أن ينظر المرء الى السيدة خديجة بدير التي بعدما كان أولادها زينة حياتها الدنيا، جعلتهم زينة في قلادة ذهب تتدلى من عنقها، ولكن زينة حزينة على خسارتهم بقذيفة مسمارية، محرمة دولياً، وهم يتناولون طعام العشاء.
"مأساة صعبة جداً"... كلمات تختصر ما تعانيه عائلة بدير، ترددها السيدة خديجة منذ أربع سنوات. وتتذكر: "كان الجو هادئاً، في منطقتنا القريبة من خطوط التماس في النبطية الفوقا جنوب لبنان. طلب الأولاد أن يتناولوا طعام العشاء في الباحة الفسيحة أمام منزلنا. فأعددته لهم وما إن بدأوا بتناوله، حتى تركتهم أنا وزوجي لنتمشى في القرية. وبعد دقائق سمعنا أصوات أربعة انفجارات. فصرخت: مات الأولاد". إحساس غريب انتاب السيدة خديجة، في حينه، هو نفسه الذي تروي به معاناتها. وتقول "هرعنا الى المنزل، فوجدناهم، خمستهم ورفيقاً لهم، مطروحين أرضاً مضرجين بدمائهم. صرخت أنا وزوجي علي، ولم نعرف كيف نقلناهم الى المستشفى. كانت جيهان مصابة في قلبها وسيلفانا في بطنها وزكريا في رأسه، فقضوا جميعاً ونجت رباب وعباس، ولكن أصيبا بمسامير القذيفة المحرمة دولياً".
وتتذكر رباب ساعات ما قبل الحادث: "رأت المرحومة سيلفانا دبابة بين موقعين عسكريين عدوين يشرفان على منزلنا، فقالت أن وجودها هناك غير طبيعي"، ويقول عباس أن الدبابة أطلقت قذائف عشوائية، وشاهد هو شهباً نارياً، الى أن أفاق على الفجيعة التي حلت بالعائلة.
لم يدر أحد منهم سبب استهداف العائلة التي أصيب منزلها، إلا ما يقوله الأب والأم: "نعمل المستحيل لحماية أولادنا، ونحن مسالمون ولا دخل لنا بالحرب، وإلا لما مكثنا دقيقة في المنزل. لكن عدونا يتلذذ، على ما يبدو، بقتل الأطفال والأبرياء". وتقول خديجة "أن كل القوانين الموضوعة لحماية المدنيين والأبرياء لم تنفعنا، ويجب أن يكون الأطفال محميين من الغدر والإستهداف الغاشم".
كل شيء تغير في حياة آل بدير. فخديجة "لم يعد أي أمر يعنيها" بعد مقتل أطفالها الثلاثة. ورباب تعيش القصة في داخلها على مدار الساعة. وتقول "أكلم أخوتي دائماً وأنا أتفرس في وجوههم، في صورهم الموزعة في منزلنا. وأحلم بهم دائماً. وأدخل في حوارات معهم". وتعتقد أن حياتها دمرت وأنها عصفور بلا جناح وأن الفرح هجر المنزل. ولكن في المقابل تحاول تجاوز التجربة المرة من أجل أخوتها الباقين، وقد اختارت التخصص في التمريض للمساهمة في إنقاذ الجرحى. أما عباس فقد غاب عن المدرسة سنة لأنه لم يحتمل أن يكون في ملعبها من دون شقيقه وشقيقتيه الراحلين. وعلى رغم ما يسببه تذكر الحادث في نفسه من ألم، يقول "ولكن إذا لم أتذكرهم، فما نفع حياتي".
وإذ يشعر عباس أن كل طفل يموت في الجنوب يعمق جرحه، يدعو هو ورباب الى تحييد الأطفال والأبرياء خلال الحروب وإلى بناء ملاجئ لحمايتهم، وتتمنى الوالدة خديجة لأطفال العالم أياماً سعيدة، قائلة "نحن لا نحب الحرب، ولكن لينسحب عدونا من أرضنا".
ولا تستطيع خديجة أن تغفر لمن قتل أطفالها فعلته "إذا رأيته أقتله لأنه سلبني أغلى ما في حياتي". تسمع رباب غضب أمها، وعلى رغم لوعتها الشخصية وضعفها حيال المأساة، تسعى الى أن تكون قوية في حضور والديها وتقول "أشعر أني في حاجة الى تعزيتهم دائماً، ولو كنت أكثر من يحتاج الى تعزية. لو فقدت شقيقة واحدة لهان الأمر... ولكن شقيقين وشقيقاً...". ويحس عباس أن في داخله إنساناً سيقاتل من أجل السلام، ومن أجل جروحه وأخوته الراحلين والباقين، ومن أجل أرضه وبلاده.
- 10-
قوات ... لحفظ السلام
تقدم الجندي نحو الضابط المسؤول وقدم إليه مشروب "كافا"، في ختام طقس احتفالي للوحدة الفيدجية العاملة في قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان.
ولم يكن ما قدمه الجندي، بعدما نهض من حلقة رفاقه المفترشين حصيرة وسط ساحة قيادة الوحدة، في بلدة قانا الجنوبية، مشروباً عادياً، بل هو عصارة نبتة يشربها الفيدجيون فلا يعودون يقوون على الوقوف. فيرتاحون قليلاً، ويصفو ذهنهم ويحسون بحاجة الى محاورة الآخر. وهذا الطقس عادة متبعة بين القبائل الفيدجية لحل مشكلات قائمة بينها، بدلاً من اللجوء الى السلاح.
وقد يختصر هذا الإحتفال، برسالته السلمية، فحوى دور قوات الطوارئ الدولية هذه الذي يحدده الناطق الرسمي باسمها تيمور غوكسيل بأنه ل"حفظ السلام".
هذه القوات أرسلت الى الجنوب في 19 آذار 1978، على أثر عملية عسكرية شنّها الجيش الإسرائيلي، وتوغل في جنوب لبنان نحو 45 كيلومتراً، رداً على تزايد العمليات الفلسطينية انطلاقاً من هذه المنطقة اللبنانية على شمال اسرائيل المتاخم للحدود اللبنانية. وهي تعمل هناك، مذذاك، بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي يحمل الرقم 425 ويدعو الى احترام صارم لسلامة الأراضي اللبنانية والى انسحاب اسرائيل الفوري منها. وينشئ قوة سلام دولية موقتة غايتها التأكد من انسحاب القوات الإسرائيلية وإعادة السلام والأمن الدوليين ومساعدة حكومة لبنان على ضمان استعادة سلطتها الفعلية في المنطقة.
وهذا ما يركز عليه غوكسيل الذي واكب قوات الطوارئ الدولية منذ تشكيلها، مؤكداً انها ليست قوات مقاتلة، بل هدفها حفظ السلام.
لكن مهمتها الموقتة امتدت واحداً وعشرين عاماً، من دون أن تحقق غايتها بعد. والأسباب كثيرة، أهمها استمرار الأعمال الحربية الفلسطينية والردود الإسرائيلية عليها، بعد العام 1978 حتى كان الإجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982، وقد بلغ العاصمة اللبنانية بيروت ومناطق كثيرة محيطة بها، ما أدى الى خروج منظمة التحرير الفلسطينية، قيادة ومقاتلين، من لبنان، ونشوء حركة مقاومة تولتها جهات وأحزاب لبنانية ضد الجيش الإسرائيلي، وبدأت تكثف عملياتها، حتى انسحبت اسرائيل جزئياً عام 1985 الى ما صار يعرف اليوم بالحزام الأمني أو الشريط الحدودي.
ويقول غوكسيل، الذي يعمل منذ ثلاث سنوات إضافة الى مهمته الأساسية، مستشاراً سياسياً لقائد قوات الطوارئ الدولية، أن هذا التطور دفع بهذه القوات الى إعادة انتشارها في الجنوب. ويلفت الى أن جنود الطوارئ، المشكلين من تسع دول أعضاء في الأمم المتحدة، ليسوا في الجنوب في إجازة، بل يعملون في منطقة خطرة. "صحيح أن ما من أحد يستهدفهم، لكنهم معرضون للخطر" كما يقول، في ضوء استمرار الأعمال الحربية حيث ينتشرون.
ويضيف أن عليهم إيجاد السبل الكفيلة بحماية أنفسهم وحماية المدنيين، حتى أنهم لا حق لهم في شهر سلاح في وجه من يهينهم مثلاً، ويتعاملون مع الناس في مواقعهم أو على حواجزهم بديبلوماسية فائقة.
وينوّه غوكسيل بدور قوات الطوارئ التي، وإن كان جنودها محرومين أموراً عدة في حياتهم، تشجع الناس على البقاء في أرضهم، وتعمل لتخفيف معاناة المدنيين بإقامتها مستشفيات ميدانية لهم وحماية المزارعين القريبة أراضيهم من خطوط التماس ليتمكنوا من جني محاصيلهم، والإسهام في إعادة التيار الكهربائي أو تصليح قساطل المياه أو خطوط الهاتف التي تتعطل بسبب الأعمال الحربية، فضلاً عن عملها على تحقيق وقف إطلاق نار وإخلاء جرحى وتأمين محروقات في حالات معينة.
وبفعل الخبرة التي اكتسبها غوكسيل، في عمله هذا، يرى أن الأولوية دائماً هي لوقف الحرب. وإذ يُسأل هل هي مبررة، يجيب "أن الأمر متعلق بشخصية الناس، فالبعض نفسهم قصير في الحوار، فيلجأون الى الحرب، وبعضهم يَدفع إليها"، لكنه في المقابل يعتبر أن الآلة العسكرية قد تكون لها أحياناً جوانب إنسانية، ويرفض التدخل العسكري من أجل قلب نظام في بلد ما إلا إذا كان القيم عليه مجرماً في حق شعبه ويرتكب مجازر.
أما مفهوم غوكسيل للسلام فهو "كيف أعيش حياتي، وأمارس مسؤولياتي"، مشيداً باتفاقات جنيف التي يتذرع البعض بأن مضمونها لا يمنع حدوث تجاوزات، وداعياً الى تطبيقها. ويحث غوكسيل جميع الأفرقاء على العمل دائماً لوقف الحرب، إذا اندلعت، والإسراع في صناعة السلام، وإلا تعقدت الأمور وأصبح العيش المشترك لاحقاً صعباً، خصوصاً إذا تسببت الحرب بمجازر ومآسٍ ومشكلات، لا يمكن محوها من الذاكرة الشعبية في سهولة. وإذ يلفت الى تشبث اللبنانيين بقوات الطوارئ الدولية واحترامهم لعملها وتأييدهم لدورها، يعبر عن سعادته بالمهمة التي يقوم بها "لأنني أمنح الناس فرصة لكي يحيوا...".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.