لا ريب في ان انتصار السيد محمد خاتمي في الانتخابات الرئاسية على منافسيه التسعة، وعلى المحافظين عموماً، كان "ساحقاً" ومباشراً. ولكن هذا الانتصار، على صفتيه هاتين، قد يدل على ان انتصار المحافظين، من انصار السيد علي خامنئي والعلماء "المجاهدين"، على خاتمي والإصلاحيين ملطَّف وموارب ومرجأ. ويستند هذا التقدير، على صفتيه النقيضين، الى نسبة المقترعين في الدورة الرئاسية الأخيرة، وإلى نسبة الممتنعين والمتخلفين عن الاقتراع. فالسيد خاتمي فاز بواحد وعشرين مليون صوت ونحو نصف المليون. ونسبة هذا العدد من المقترعين هي نحو 77 في المئة. وتزيد هذه النسبة 7 في المئة تقريباً عن النسبة التي أهَّلت الرئيس الإيراني الى الرئاسة قبل أربعة أعوام. ولكن الرئيس المجدد، وفي اعقاب أربعة أعوام على "معركة الإصلاحات"، على ما يقول، لم يفلح في زيادة عدد المقترعين له إلا مليوناً ونصف المليون. وفي الأثناء، أي في الأعوام الأربعة المنصرمة على ولايته الأولى، انضم الى الجسم الانتخابي الإيراني الفتيان الذين بلغوا الخامسة عشرة الى التاسعة عشرة وبعضهم بلغ الخامسة عشرة غداة انتخابات ايار/ مايو 1997 لمَّا انتخب خاتمي الى ولاية أولى. وعدد هؤلاء يترجح بين ستة ملايين الى ثمانية ملايين. وهذا رَفَع الجسم الانتخابي الإيراني الى 42 مليون ناخب يحق لهم الاقتراع، وكانوا نحو 35 مليوناً في 1997. ولم يقترع من الملايين الاثنين وأربعين هؤلاء إلا ثلثاهم. وتخلف عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة 14 مليوناً، تبلغ نسبتهم من الجسم كله نحو 33 في المئة. ولم يتخلف عن الاقتراع قبل أربعة أعوام غير 17 في المئة. وهذا يجعل عدد المتخلفين والممتنعين في الدورة الأخيرة ضعفي عددهم قبل أربعة أعوام. فالرئيس الإصلاحي على هذا، لم يقنع نحو خمسة ملايين ناخب ايراني الى ستة ملايين، من المقترعين السابقين ومن المقترعين الجدد جميعاً، إما بتجديد اقتراعهم أو بمنحه اقتراعهم الأول. وهؤلاء، من الفئتين والجماعتين، لم ييمموا صوب المحافظين أو شطرهم. فمرشح المحافظين الأول، السيد احمد توكلي، احتفظ بالملايين الأربعة من الأصوات التي حازها سلفه في منافسة خاتمي ورئيس مجلس الشورى السابق، ولم يزد السيد شمخاني عليها غير سبعمئة ألف صوت. والتعليل الأرجح والأقوى لما قد يكون الظاهرة الأبرز في انتخابات ربيع 2001 هو أن المحافظين، المستولين على قمم اجهزة الدولة الإيرانية والنافذين في رسم السياسات العامة وفي توزيع النفوذ والعائدات والريوع، "أقنعوا" شطراً غير قليل من الإيرانيين بالانصراف عن تعاطي "السياسة". ولا ريب في ان هذا الإقناع توسل بذريعة أو حجة لا ترضي المحافظين، وكانوا يؤثرون ألا يتوسلوا بها، وهي متانة حال خاتمي الانتخابية. ولكن ما لا جدال فيه هو ان شطراً ممن أقبلوا على الاقتراع لخاتمي، وأملوا في افضاء الاقتراع الى طي صفحة من الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية الإيرانية، هؤلاء أحجموا عن تجديد اقتراعهم ومساندتهم للرئيس السابق والمستأنِف ولايته. والسبب في إحجامهم، على الأرجح، هو يأسهم من قدرة خاتمي على تلبية احتياجاتهم وربما من إرادته تلبيتها. وهذا، أي ضعف القدرة أو الإرادة، هو ما "أقرهم" عليه الرئيس المجدد نفسه، وما أقرَّ به. وإقرار الرئيس الإيراني بالأمر، على وجهي الإقرار، ما كان ليكون على هذا النحو من الوضوح لولا قوة المحافظين، واستظهارهم بدستور ايران. فلا انتصار الإصلاحيين من جبهة المشاركة الخاتمية في الانتخابات البلدية قبل سنتين، ولا فوزهم بمعظم مجلس الشورى النيابي قبل سنة، ولا تعبئة الحركة الطالبية وراءهم، ولا استمالتهم معظم الصحافة الإيرانية، ولا دور خاتمي الشخصي في انتهاج سياسة خارجية نفطية وتسليحية، استمالت المترددين والمحجمين وآخر تظاهرات هذه السياسة قول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ان بلاده تلتزم عقود التسليح مع إيران على شرط بقاء خاتمي على رأس السلطة المفترض - أفلحت في حمل السيد خامنئي، أو السيد رفسنجاني، على مراعاة احتياجات الإيرانيين ورغباتهم. فعمد المحافظون، وآخرهم السيد مهدوي كني "الحياة" في 15 حزيران/ يونيو، الى الطعن في "احتكار" الإصلاحيين الولايات الانتخابية. ولوحوا بما يترتب على الاستئثار الإصلاحي من نتائج وخيمة على الجمهورية "الإسلامية"، وعلى حياتها السياسية ومصالح مواطنيها. ولا تعدم الحجة، على رغم غرابتها، بعض الوجاهة. فهي قرينة على ان الاعتدال الخاتمي، وهو جنَّب ايران حقيقةً مصير الحركة الإصلاحية والديموقراطية الصينية في تيان ان مين، لم يبعث المحافظين الخمينيين على بلورة تيار قادر على محاورة الإيرانيين "الخاتميين" واستمالة شطر منهم. فالمحافظون، على اختلاف ألوانهم، مقيمون على تخيير الشعب الإيراني بين الرضوخ للجمود الذي يفرضونه على السياسة الإيرانية وعلى المجتمع الإيراني، وبين الحرب الأهلية وصورها المتدرجة من "لواء الموت" والتصفيات الى حال الطوارئ والانفجار الكبير. وهذا التخيير قرينة معروفة ومشهورة على التحصن من الإصلاح ورفضه. فانتصار المحافظين، اليوم، يؤذن بقوة هذه الحجة. ولكنها حجة ذات حدين. وحدّها الآخر، أي الحمل على الحرب الأهلية، هو الحد الأقوى والأقطع والأفظع. * كاتب لبناني.