قالت لي الراهبة: "برافوا أنتِ شاطرة باللغة العربية.. نحن نشجّع ذلك، لكن... انتِ، كيف تفعلين! هل عندك استاذ خصوصي؟". لم يكن هذا صحيحاً. لم اكن من اتقان العربية في شيء. كنت فقط اقل ضعفاً من رفيقاتي، ربما لأن اهلي عكس اهل زميلاتي كانوا يتكلمون العربية في البيت باستمرار !! والسبب واضح طبعاً. فأنا لست من عائلة ثرية كرفيقاتي اللواتي لا يتكملن العربية سوى مضطرات ومع الخادمات فقط. لم يكن باستطاعتي ان فخر كثيراً بشطارتي في اللغة العربية فاستعملها شفوياً او كتابة بالقدر الذي اريد. ولم يكن حتى باستطاعة زميلاتي ان يستفدن من "طلاقتي" سوى عبر فروض الاعراب التي ينسخنها في دفاترهن على عجل، سراً عن الاساتذة، طمعاً بالعلامات ومن دون ان يفقهن شيئاً مما ينسخن. ذلك انه كان ممنوعاً علينا ان نتكلم بالعربية في الملعب او النزهات لوجود "السينيال". والسينيال هو كناية عن غرض صغير، في الغالب مكعب خشبي ناعم كجلد الافعى حُفرت عليه بالاجنبية كلمة signal. ووظيفة السينيال هي الوشاية بالتلميذات اللواتي يتلفظن بالعربية. فحال سماع الواحدة رفيقتها ترتكب الممنوع، عليها ان تسلّمها المكعّب دليلاً بائناً... وتصبح الاخيرة محكومة بالبحث عن اخرى ترتكب الجرم نفسه لتسلّمها السينيال قبل ان يدقّ الجرس. فالقصاص لن يطال من عَبَرَ السينيال في جيوبهن بل من حطّ عندها محطّه الاخير. والقصاص يعني انها تهاونت في التلصص والوشاية ولم ترتعب ما فيه الكفاية كي تنشط في البحث وفي توريط غيرها... تماماً بهذا المنطق الكريه والعبثي. وحين كبرت قليلاً وبدأت اتعجب كثيراً من عجب الراهبة حيال شطارتي باللغة العربية، اضعه في جيبي، افتح كتاب "الايام" لطه حسين وأقرأ بالصوت المسموع. يرتاح جوّ الملعب الذي سيستمر في التحدث بالفرنسية من دون خوف من ان يشوبها تعبير عربي فالت. وحين يدقّ الجرس اذهب الى الراهبة، أسلمها السينيال. فتسلّمني القصاص. اضع القصاص في كتاب "الايام"، انفّذه بسرعة في البيت كفروضي العادية قبل ان اعود الى طه حسين راضيةً مرضيّة... الراهبة التي كان موكلة بأمر السينيال كانت عنيدة وهي رأت مني في مواضع اخرى ايضاً ما يماثل عنادها فاستمرت على تلقيني حسّ الطاعة الذي لا املكه ربما لسوء تربيتي في البيت. ولم تكفّ يوماً عن معاقبتي رغم علاماتي العالية التي لا غبار عليها او على سلوكي... وفي السنة المدرسية الاخيرة قلت لها جملةً لم اكن احلم يوماً بلفظها وما زالت صفاقتي تدهشني قلت لها: انتِ لا تعين انك مجرد "عزقة" صغيرة في ماكينة الاستعمار الآفل الكريه.. وخرجت من المدرسة الثانوية الى الجامعة اللبنانية فضحك حمزة كثيراً منّي في عزّ النقاش لأني اقول السورة" لا "الثورة" وقال: انكم لا تتعلمون العربية فكيف تصنعون ثورة. وكان مستوى اتقاني للعربية لا يؤهلني لدخول قسم الأدب العربي، وكنت طالبة في قسم الادب الفرنسي فأقفلت فمي ولم أنبس ببنت شفة... وبشغفٍ يشبه الحقد، رحت أقرأ الكلاسيكيين العرب وأتعلّم اللغة على نفسي... وأموت بها حبّاً حتى قررت... ان اكتب أدباً بالعربية.
ثم ذكّرتين بالسينيال صديقتي امتياز. هي فلسطينية في الثماني واربعين. كانت تروي لي كيف كانت في اسرائيل تخفي اوراقها العربية داخل صحيفة يديعوت احرونوت، وتتكلم العبرية في المقاهي والاماكن العامة. وقالت لي انها في المرة الاولى التي وطأت فيها مطاراً عربياً بقيت داخل المطار لساعات طويلة لمجرد متعة الاستماع الى كلام يخرج بالعربية عالياً وعبر الميكروفونات... قلت لامتياز: لقد رفعوا عنك السينيال.. تعالي نغنّي ملء الفم لعبدالحليم حافظ على بولفار بلفيل...
وشيئاً فشيئاً رحت اكتشف ان السينيال ينتقل من مكانه الاصل. سمع ورأيت في ما يشبه منامات اليقظة جنرالاً يخطب بالعربية في شعبه، ويصرخه في وجه التاريخ لكي تسمع الشعوب كافة، تلك التي انقرضت وتلك التي لم تلد بعد.. الآن والى الابد... كان يُخرج الحروف من بين اسنانه مقعّرة مفخّمة.. وكان صوت يشرئب على نحو خاص حين يرعد بشرف الأمة وناموسها، وبالانتصار الساحق الماحق، الصافي والنهائي على الاعداء جميعهم، وبخاصة اعداء الداخل. كان جنرالاً يشبه جنرالات كثيرين يخطبون بالعربية.. الا اني كنت رأيت في ما يشبه منامات اليقظة هذا الجنرال بالذات يوقف مهرجاناً حاشداً ثقافياً عالمياً استضافته بلاده لان صديقته، الممثلة الكهلة ممثلة من الدرجة العاشرة صاحبة المؤسسات "التجارية" الناشطة على الصعيد القومي، لم تجد كرسيّها في وسط الصف الاول من كراسي الشرف. حسناً... قررتُ ان هذا الجنرال لا يتكلم العربية. وهو يحمل السينيال في اعماق روحه، لو كانت له روح. لغته هذه هي ضد لغتي العربية ولا تكفّ عن محاولة قتلها، وقصاصه ان تكون لغتي العربية ضد لغته باستمرار. وقررتُ أني، انا ومن مثلي، اصحاب اللغة الاصليين.. والجنرالات من امثاله هم اعداؤها وليس الجنرالات البعيدين الذين مهما اجرموا لا يستطيعون مسّها. فالالمانية هي ملك غوته ولم يستطع هتلر ان يخدش طهارتها. ابداً.