1 منذُ تسْع سنوات لم أزُر الجزائز. سنواتِ الألم الكبير. الدم. سنواتِ الدّمع والبَرْد، كُتّاب أصدقاء فارقوا الحياة. وأرضُ الجزائر. التي حفظتُها من الوجوه والأغاني. كما حفظتُها من الكتب والصداقات. هي التي لم أنسها أبداً. لتسْع سنوات. كلَّ مرة أعيد الرؤية الى كل ما كان يحْدُث. وأحاول أن أفهم. عذابَ وآلامَ شعب. قريبٍ الى النفس. مهْما بعُدَ وابتعَد. لكنه لم يكن البعيدَ ولا المُبتعِد. في ذاتي يُقيم. على نحو ما تقيم حياة مغربيَّة في ذاتي. بصعوبة كان لي قرارٌ أن أتوجه الى هناك. الجزائر العاصمة. بدعْوَة من اليونسكو. لأجل أيام عربية حول الأدب والشعر. أصدقاء عرب من الكتاب وافقوا بدورهم على الحضور. وفي الجزائر التقيْنَا. بعد تسع سنوات. أعودُ الى هذه الأرض. وهذه اللغة التي أحببتُها. والبقايا المبعثرة. من غِنَاء. ووجُوه. بين شارع وشارع. أو في أمكنة الحياة اليومية. المقاهي. الأسواق. المنظر البحري. القصبة. الأحياء التي كنا نقرأ عن قتلاها فنصابُ بكآبة لا تفارقنا. كل ذلك بعْدَ تسْع سنوات. كأن حياتنا منذورة لهذه الآلام. المتكررة. في الجزائر. وفي بلاد عربية أخرى. لا تحتاج لكي نعدّدَها. هي في جسدنا تبكي. كما بكت أبوابٌ. ونوافذُ على أهلها. في الأوقات التي لا أحدَ ينساها. كان عليَّ أن أزور الجزائر. أنا الآن متأكدٌ من أهمية القرار. مسافراً الى هذَا البلد الذي. هو قطعة من جسدي. هكذا تعلّم جسدي أن يتكلّم. عن بلاد عربية. لا بلغَةِ الإيديولوجيا. التي تنْسَى. كلما تعرضَتْ لمأزق. بل بلغة ما يتجاوب في الدواخل. تلك الحفر التي لا ندركُ متاهاتها إلا مكابدة. ونحن نستكشفُ سماتِ الذات. المتعددة. اللانهائية. متموجةً في الأغاني. وفي الكتب. وفي الوجوه. وفي الطيوب. وفي النباتات. وفي العمارة. ذات لا شيْءَ يقدر على إلغائها. بأمْرٍ. مَا. أمرِ سُلطة. سياسيّة. مباشرةً. فور امتطاء الطائرة. قلت كان عليَّ أن أبادر بالموافقة. لأرى. وأسمع. وأشمّ. وأتفرّسَ. الطائرةُ. هي العتبةُ الأولى لأيِّ بلد. بمجرد امتطائها. كونٌ مخْتَصَرٌ يهبُّ عليك. كما هو. من التحية الى المقاعد. الى الأمتعة. الى اللباس. والكلام المتبادل. بعد هنيهة من الصمت. ومن هذه العتبة الأولى. تَشْرعُ في الدخول. قليلاً. قليلاً. في الأرض التي اليها. بعد فترة. ستدخل. وأنت تقذف بالحواس الى ما بعد الجسد. تفتح طريقاً. للغواية يأتيك. نابضاً. بما تبحثُ عنه. مما لا تعرفه دائماً. أو مما عرفتَ وأنت مقبلٌ عليه. 2 كنت بحاجة لزيارة الجزائر. مدة تسع سنوات. تابعتُ الأخبار. بالوسائط المتعددة. الصحف. المراسلات النادرة. أو المفاجئة. اللقاءات. كل ذلك كان يترك الجزائر في كلماتي. مَحْمومةً. وكل ذلك انفجر. بعد وصولي الى المطار. حركة بطيئة بين الدار البيضاءوالجزائر. وفي النفوس قوة يمكن أن تشاهد علاماتها. لا أكترث بالعابر. رغم طول الزمن. يشدني الى الأرض ما يُعْلِنُ عنِ الأرض. وأنا أتقدم. بقدمين متعجلتين. دون طرح سؤال عن السبب. الذي يدعوني. للعجلة. أنظر الى مربعات الزليج. وأرفع بصري لأشاهد العلامات المعلقة. لوحات الإشهار. خريطة العاصمة. عبارات الإرشاد. والترحيب. كأنني قادم الى ألف مكان. وذاهب الى الأرضِ كُلِّها. الباحةُ الخارجية هادئة. برْكَةٌ ماؤها آسِن. وأعمدة كهرباء يعلوها الصدأ. سيارات مصفوفة في مستودع منفصل. والحركة بطيئة. بين الحين والآخر وجوه العودة. من أمكنة لعلها أروبية. الى الأرض. الجزائر. أجانب ومواطنون. نداءات متقطعة. عناق جسدين. أحباب. ربما. لم ير بعضُهم بعضاً. منذ عهد طويل. ولي خيال متوثّبٌ. لا يترك لي فرصة أن أتنفّس. عليَّ أن أرى الأمكنةَ الألْفَ. وهي تظهر لي. متوارية. متباعدة. متكوّمةً. أريدُ للتاريخ كلِّه أن ينطقَ. للعمارات. وللسّحَنَات. ولي رغبةُ أن أسمعَ الكُلّ في الجُزْء. عبر الطريق الى الفندق. فتحت النافذة لأستقبل الطّيُوب. أنا مجنونٌ بالطُّيُوب. هي البلاد طيوبٌ. ونباتاتٌ. وهذه المرة. أتيتُ الى الجزائر بعد أن اختزنت من مشاهدة الصور. من القراءات ومن الإحساسات. ما لا تستطيع لحظةٌ واحدةٌ. عبر الطريق أن تستوعبَه. مع ذلك. كنتُ صامتاً. حواسِّي الأخرى وحدها الخبيرة بكيفية الحوار مع الأشياء. مع الآثار التي توهمتُها معالمَ. وهي لم تكُنْ كذلك. خيالي أسبقُ من حواسِّي. أم حواسِّي أسبقُ من خيالي. كنتُ أتساءل. في صمتٍ. والسيارة تتقدم. في الطريق. نحو الفندق. لم أعُدْ أتذكّر كم استغرقت الرحلةُ من المطار الى الفندق. لكنني متيقّنٌ. من أن تاريخ الجزائر كله طافَ بي. أسماءٌ وكتبٌ وأغنياتٌ. هجمتْ عليّ. شلالاتٍ. شلالات. في الطريق. وقتَ الغروب. وأنا أكاد أحسّ أني راكبٌ بجوار زائرين غيري. لهم عالَمٌ لا يُشْبِهُ عالَمي. الداخلي. ولا كلماتي. المتقدة. في وقت. كهذا الوقت. حينما حاولتُ أن أتأمل. قاطعاً الطريقَ السيَّار. وعيْنَاي على بنَايات. تُبنَى. فأردّد في نفسي. جَمِيلٌ. حقّاً. أن يتمكّن الناسَ من التغلّب على اليأس. 3 لحظاتٌ جزائريّة. هذا ما أحسستُ أني أعيشُه. بدْءاً من الليلة الأولى. وجوهٌ جزائرية لا أعرفها. هي أول ما استقبلني. حتى الأسماء لا أعرفها. أصدقائي. الذين ارتبطتُ بهم غائبون. ولي ولَعٌ بالأصدقاء. لأنهم نادِرون. هلْ ما أعيشه بداخلي أقوى مما أراه أمامي. أصدقائي. من البلاد العربية القادمون وحدهم يكادون يملأون المكانَ. على قلّتهم. والحديثُ بيْننا يتجدّد. كالعادة. عن تمزّقات ثقافية تتوالى. في الحياة اليومية. حتى لكأننا نعيش زمن القيامة. وقد نسيْنا الأزمنة كلّها. ليبقى زمنٌ واحدٌ. قيامتُنا. في الصّمْتِ الكُلّي. لتبدأ الجزائر. في اللقاءات. قلتُ. وفي الصباح أدهشني حضور الشُبّان. الأيدي مشغولةٌ بالكتب والمجلات. وعلى الألسنة نوعٌ من الحنين. والسؤال. عن الأسماء. سؤال بسؤال. لا يتوقف الحديثُ. عن الذين نعرفهم. وهم غائبون. للشبّان الجزائريين جمالُ البوْح. في الكلمة الأولى تلتقي بعذاب طويل. يمكن أن يشكّل مادة جيّدة لأعمال ملحميّة. أو غنائيّة. حيث الحديث عن الأيام يختلط بالحديث عمّا كان من خوْفٍ ومغامرة. في الإتجاهات التي لا تحتضنُها سوى الأعمال الأدبية الكبرى. لا تختزل كلمات الشبّان شيئاً. إنها العذاب. والغناءُ في آنٍ. وأنا أنصتُ متأملاً. في هذه الطبيعة الجبارة التي تختزنُها الجزائر. كما تختزنها الشعوب العربية. قاعة اللقاء.ُ في قصر الثقافة. نصفُ ممتلئة. وجوهٌ لا أكاد أتبيّن من بينها غيرَ القليل. هل أنا قادمٌ من عصر آخر؟ كنتُ أسأل نفسي. وفي داخلي ريبةٌ. تتعاظمُ. في صمت. يكاد يطوّحُ بي. في الدواخل عوالمُ تتحرك. متمازجةً. ومتدافعةً. لكنني. بصمتي. أحاول أن أقترب. ما أمكنَ. من فضاء ثقافي. هو أمامي. وليس أمامي. في آنٍ. أعلمُ. أن أسماء عديدةًٌ. كالعادة. تُقاطِعُ اللقاءات الثقافية. ولي أن أبحث عنها. أرقام الهواتف. لا شك أنها تعرضت للتبديل. والعناوين ليست هي العناوين دائماً. المقيمونَ والمهاجرون. خريطةٌ في حالة من الفوَران. لمدة تسْع سنوات. من الألم الكبير. الدم. سنواتِ الدمْع والبَرْد. 4 وماذا كنتُ أنتظر؟ لربما لم أكن أنتظر شيئاً. أكثر. منَ. الأمنِ في الشوارع. والسّلْم. في الكلمات. بعد عهدٍ قاسٍ. على الجزائري. بقدر ما هو قاسٍ على كل من ارتبط بحرية وكرامة الإنسان. تلك الأصواتُ التي كنتُ أسمعها تتناول الثقافة. من جانب اليونسكو. أو المضيفين أو الكتّاب. كلها كانت تقتربُ من الحرص على لغة المحبّة. ولغةِ المستقبل. ولغةِ الإبداع الحرّ. عَبَادَة. عزّالدين ميْهوبي. جيلالي خلاّصي. الطيّب صالح. جمال الغيطاني. مارغريت أوبَنْغ. سيف الرحبي. كل ذلك إشارة إلى البحث عن لغة جديدة في الجزائر أولاً. ثم في البلاد العربية بكاملها. هذه الأصوات القوية. بطاقة الحرية. في كتابتها وبرامجها. مُهدّدةٌ أيضاً. أصوات أخرى عادَتْ إلينا من الخراب. لتحاول تجديد الخراب. باسم الدفاع الأعمى عن العربية. أو التقليد. أو الإنغلاق. هي أصوات تستمدّ حضورها من الماضي. لا من المستقبل. وهي عاجزة عن فَهْم الزمن الذي تعيش فيه. ولا اللغة التي عليها أن تتعلم النطقَ بها. في الدفاع عن العربية. وعن الثقافة العربية. مقترنةً بغيْرِهَا. في الجزائر. أو بقية البلاد العربية. يصعب الفصلُ بين الواقعيْن معاً. في الجزائر. التي عاشت تسعَ سنواتٍ من الألم الكبير. الدمع والبرد. وما عاشَتْ ما قبْلَ التسع سنوات من أوضاع يستحيل الغاؤُها من التأمل. لأن البحثَ عن لغة جديدة متعذرٌ دونما معرفة بما هو منطقُ اللغة الجامدة. التي لا يقبل فيها الواحدُ بالآخر. من هذا الجانب أو من الجانب المختلِف. بالفرنسيّة. كواقِع حقيقيٍّ. للثقافة الجزائرية. وهذان الواقعان المتداخِلاَن. يوجد كلٌّ منهما في خنْدَق منفصل. وهو ما يبعث على الخَوْف. في قاعَة مُغْلقَة. أو في فضاء خارجيٍّ. علَى السّواء. 5 يكفي أن نُنْصِتَ للأصوات. على المنصّة. أو في الهوامش. لكي تدركَ جمال أعمال الشبان. الذين هُمْ بالإحساسات المكثفة ينتجون. ويسهرون من أجل أن لا يظلوا وحيدين. أو معزولين. في الزمن الذي يتشبثُون به. أعْني زمنَ الحرية والإبداع. لك أن تتأملَ الثقافة الجزائرية. في عصْرِهَا الحديث. لكي تحسَّ المكانَ الذي يأتي منه صوتُ الشبَّان. شعراء. وقصاصين. وباحثين جامعيين. معهم كنتُ أدركُ أن الجزائر هي لغةُ هؤلاءِ الشبان. وهيَ التي لا تتوقفُ عن ابتكَار طريقها الحُرّ ليلاً بعْدَ ليْل.