عدت أمس من عمان بعد تمضية أيام في العاصمة الأردنية رأيت خلالها الأصدقاء من المسؤولين، وأصدقاء غير مسؤولين، بعضهم غير مسؤول بالمرة. نحن، المقيمين في الخارج، سنوات وعقوداً، لا نجد شيئاً أجمل من زيارة بلد عربي، زيارة قصيرة قبل ان تمحو الحقائق على الأرض خيالات الأمل بأن كل شيء في الوطن حسن، فنسعد برؤية الأهل والأصدقاء، وبالشمس والطعام، خصوصاً الطعام، فقد تنوع ما أكلت في عمان بين المنسف والكنافة، والتوت الأبيض، وأيضاً الحمص الأخضر الذي يسمونه في لبنان "أم قليبانة"، وينادون عليه "خضرا ومليانة"، وهذا أكلته في عمان مشوياً، ولم أكن ذقت طعمه منذ 30 سنة. زرت عمان والمواجهة بين الفلسطينيين واسرائيل على اشدها، وتكاد تنفجر حرباً، وتابعت جهد المسؤولين كلهم، الملك عبدالله الثاني ورئيس الوزراء السيد علي ابو الراغب، ووزير الخارجية السيد عبدالاله الخطيب وغيرهم، واتصلت بالقاهرة لمتابعة الجهد الموازي، غير انني أترك حديث السياسة الى غد لأكتفي اليوم بصور من عمان. أترك السياسة فلا تتركني. وقد نزلت مع زوجتي في فندق عمان انتركونتيننتال، ووجدت فيه وفداً مصرياً كبيراً، برئاسة رئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد، للمشاركة في اجتماعات الدورة السابعة عشرة للجنة العليا الأردنية المصرية، ورأيت السيد ابو الراغب في الفندق من دون موعد، ثم رأيته في يوم آخر، وهو مع صديقين الى مائدة عشاء في فندق مجاور. ورئيس وزراء الأردن يتمتع بشعبية كبيرة واحترام، لذلك يستطيع أن يأتي الى العشاء بمفرده، من دون دراجات نارية ومسلّحين على جانبي الشارع. وفكرت في بعض الوزراء اللبنانيين بعضهم لا كلهم، فنصفهم اصدقاء ومن أعلى مستوى وكيف يأتي الواحد منهم الى عشاء في مطعم فتوقظ الضجة المرافقة الموتى في القبور. ووجدت نفسي مرة اخرى أترك السياسة ولا تتركني. فقد تأخرت في الوصول الى فندق "حياة" المجاور لأنني وجدت زحاماً كبيراً، وحراسة مشددة، ولم يكن السبب رئيس وزراء الأردن، وانما جورج تنيت رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، الذي وصل الى عمان وانتقل منها الى فلسطين لا تؤاخذوني، أنا من جيل ناخِب لا يزال يعتبرها كلها فلسطين. هذه المرة سعدنا بعدم رؤية تنيت، وان طاوَلتنا آثار وجوده بيننا، زحاماً وأمناً. أجمل من تنيت بكثير الأعراس في فندق الأردن، فقد كان هناك عرس الأربعاء، وعرسان الخميس، وربما اكثر الجمعة، وكان باب المصعد لا يفتح لنخرج مساء، حتى نجد أنفسنا وسط زفة في بهو الفندق، ومن حضر السوق باع واشترى، ورقص بعض الأصدقاء مع الراقصين. وبما انني اقيم في لندن منذ 26 عاماً متواصلة، فانني ألاحظ احياناً ما لا يجد المواطن العربي في بلده سبباً لملاحظته، وقد لاحظت كثرة الحوامل في عمان، بمعدل واحدة من كل ثلاث نساء، وهو أمر نادر في لندن، فقد يمر العام من دون ان أرى حاملاً واحدة. المنطقة كلها حبلى بأمور عظام، غير انني أترك هذه لأهلها. وأكتفي من عمان بالأصدقاء، فهم في النهاية سبب الزيارة قبل السياسة والطقس والطعام. وكنت في اليوم الأول ضيف الصديق طاهر المصري، رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب الأسبق، في عشاء ضم بعض أركان الحكومة والفكر، وكنت في اليوم الأخير في دارة أخيه الصديق زاهي المصري، المطلة على عمان، في مناسبة خاصة، جمعت أكثر من مئة صديق بعضهم لم أره منذ ترك الجامعة الأميركية في بيروت. وسعدت معهم بلقاء والدي الملكة رانيا. وزرت في يوم آخر الصديق القديم صلاح أبو زيد، السفير والوزير الأسبق، وكان عنده السيد طاهر المصري، ووجدت انه بقدر ما يزين أبو نشأت كلماته ويحسبها، يبدي أبو عماد رأياً جريئاً مباشراً في كل أمر. بين هذا وذاك استضافني الصديق عبدالإله الخطيب على غداء، حضره معنا وزير الاعلام الدكتور طالب الرفاعي، وبعض أبرز الصحافيين الأردنيين. وفي حين ان المواجهة مع اسرائيل كانت الموضوع الأهم، فقد وجدت ان الأردنيين يتحدثون عن الانتخابات. كنت قابلت الملك عبدالله الثاني في منزله الخاص فور وصولي الى عمان، ولم أعرف ان الانتخابات قضية مطروحة، فسألته عن كل شيء غيرها، ولم أستطع بالتالي ان أزعم للأصدقاء في ما بعد انني أعرف عن الانتخابات شيئاً لا يعرفونه. الملك عبدالله والملكة رانيا أفضل دعاية لبلدهما في الداخل والخارج، وربما نافست شعبيتهما في العواصم العالمية شعبيتهما في عمان. ودخلت المنزل والملكة رانيا خارجة لحضور نشاط اجتماعي آخر، فسلمت عليها وذكرتها بأنني حدثتها أيضاً في لندن قبل اسبوعين عندما شاركت مشكورة في عشاء العون الطبي لأطفال العراق. كان الحديث مع الملك عبدالله خاصاً، وليس للنشر، ومع ذلك فلا بد من أن ترى بعض أفكاره طريقاً الى هذه الزاوية في الأيام المقبلة. وعندي عليها شاهد عدل هو رئيس الديوان الملكي الأخ عبدالرؤوف الروابدة. والتقطت لنا صور جالسين، وطلبت صورة مع الملك ونحن واقفان، وشرحت له ان عندي صورة مثلها مع الملك حسين التقطت سنة 1973، وهو في شرخ الشباب، ووقع لي عليها بإهداء كريم بعد 25 سنة. وقلت للملك عبدالله انني ارجو ان أعود اليه بصورتنا معاً بعد 25 سنة. تركت عمان بعد أربعة أيام مع الأصدقاء. وشعرت بأسف لأنني لم أرَ الصديق عبدالكريم الكباريتي والدكتور كمال الشاعر، فقد فهمت انهما مسافران. ووجدت الدكتور كمال في الطائرة المسافرة الى لندن، فقد عاد قبل يومين. وكان رفيق الرحلة معه الصديق تيمور الداغستاني، السفير الأردني في لندن. اذ شاءت الصدفة ان نترافق في الذهاب الى عمان والعودة منها. الطائرة الأردنية حلقت فوق البحر الميت، ثم القدس، وهي تنطلق في اتجاه البحر الأبيض المتوسط. ونظرت الى القدس تحتي مباشرة... كم كانت قريبة بعيدة.