كان يفترض بعد انتهاء المؤتمر السنوي لدار "الحياة" في عمّان أن أسافر بالطائرة الى دمشق تلبية لدعوة الى عشاء عائلي خاص، ثم أعود الى لندن، غير أنني بُلِّغت قبل 48 ساعة من السفر ان الرحلة التي كان يفترض أن تقلع في حوالى الثامنة مساء الغيت، وأن ثمة رحلة جديدة في الخامسة من صباح اليوم التالي. هل بقي غير عالمنا العاشر عالم تقلع فيه طائرات الركاب في الخامسة صباحاً؟ متى ينام المسافر ومتى يستيقظ؟ ومتى يصل والرحلة 45 دقيقة فقط؟ شركات الطيران العربية ستظل تخسر، وستظل عبئاً على دولها، طالما أنها تحتقر ركابها، ثم تتوقع منهم أن يخلصوا لها ويفضلوها على الشركات الأجنبية. الغيت الرحلة كلها واخترت أن أسافر في "تاكسي" الى دمشق. وأخذني السائق في جولة في عمان وضواحيها مودعاً، فالمدن الجميلة اما ان تكون على البحر، أو يقطعها نهر، وعمان ليست منها مع انها على تلال مثل روما، غير أن هذه متحف كبير، وعمان ليست كذلك رغم المدرج الروماني المعروف فيها. مع ذلك تستطيع عمان ان تفخر ببعض أجمل "الفيلات" في الشرق والغرب، وهذه مبنية بالحجر، ومنه لون وردي اللون لا يوجد الا في الأردن، واعتبره أجمل مادة بناء في العالم. تركت عمان بالسيارة، في رحلة لم أقم بمثلها منذ سنة 1973، وفوجئت بأن الطريق بين العاصمتين "اوتوستراد" مريح يمر بمناطق زراعية جميلة لم تكن موجودة في السابق. ويبدو أن الأراضي استصلحت منذ السبعينات، وكنت أذكر الطريق البري عبر الصويلح والبقعة وجرش واربد والرمثا ودرعا، ووجدت انه أصبح عبر الزرقاء والهاشمية والمفرق ونصيب. غير أنني مررت بالكسوة والقدم، على الجانب السوري، ورأيت تلك الحجارة البركانية السوداء المجموعة على أطراف الحقول. الرحلة بالسيارة بين عمانودمشق أفضل من أي رحلة بالطائرة، خصوصاً مع شركات لا تهتم بركابها، وأنصح القارئ بالبقاء على الأرض إذا وجد نفسه مسافراً بين العاصمتين. على كل حال، اكتفي من حديث السياحة بما سبق، وهو استطراد لما نقلت أمس عن كتاب أجانب، وأكمل اليوم بمتفرقات بعد زيارتي مصر ولبنان والأردن وسورية. السفارة الأميركية في القاهرة قلعة من الترسانة المسلحة تحيط بها أسوار عالية، وشرطة مسلحة على كل ناصية طريق. والسفارة الأميركية في عمان قلعة معزولة أكلت جوانب الطريق، فنصف الطرق حولها مملوء بكتل ضخمة من الاسمنت، مع حراسة مشددة من كل جانب. وفوجئت في دمشق بأن السفارة الأميركية محاطة بطوق من الجنود المسلحين وقفوا كتفاً الى كتف على امتداد الطريق في عرض للقوة يهدف الى اقناع "المحبين" بعدم محاولة اقتحام السفارة مرة أخرى. اما في بيروت فلم أر السفارة الأميركية، وأتصور أنها تحت حراسة مشددة، أو انها في موقع سري، مثل دور البغاء، فلا يقصدها الا الراغب. مضى وقت كان الأميركيون فيه أكثر شعوب الأرض شعبية، وعندما كنا نتهم بريطانيا وفرنسا بالاستعمار، كنا ننظر الى أميركا كنموذج للديمقراطيات الجديدة. وساهمت الولاياتالمتحدة في تحرير أوروبا مرتين، وتعاظمت شعبيتها، والسفارات الأميركية في لندن وباريس وروما، مثلا، هدايا تعكس تقدير الشعوب الأوروبية للدور الأميركي في تحريرها. اليوم الولاياتالمتحدة في نظر الأوروبيين هي منافس تجاري شرس، وشر لا بد منه. اما عندنا فهي الاستعمار الجديد الذي يستخدم اسرائيل وسيلة لفرض هيمنة سياسية واقتصادية علينا. هل تعيد الولاياتالمتحدة يوماً النظر في سياسة جعلتها بفضل اسرائيل عدوة الشعوب العربية والاسلامية، وجعلت سفاراتها أهدافاً لأصحاب الظلامات الحقيقية والوهمية؟ أعرف ان هذه المراجعة غير موجودة، لذلك ستظل السفارات الأميركية في البلدان العربية وغيرها قلاعاً محصنة ترمز الى كره شعوب العالم الاستعمار الأميركي الصهيوني الجديد. تبرعت لانتفاضة الأقصى بألف مليون دولار أميركي من مالي الخاص. هذا المبلغ ليس عندي، ولكن اعتقد أنه سيصل الى الفلسطينيين قبل وصول المساعدات العربية الموعودة. يا دول... عيب. كنت كتبت قبل أيام انه لم يصل الى الفلسطينيين حتى الاسبوع الماضي غير 30 مليون دولار من المملكة العربية السعودية و28 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي. ولدي معلومات من مصادري الفلسطينية ان الرئيس صدام حسين أرسل خمسة ملايين دولار الى أسر الشهداء، عن طريق منظمة وثيقة الصلة ببغداد، وزعت على كل أسرة حتى الآن عشرة آلاف دولار. الأثرياء يختلفون عنا، كما قال كاتب انكليزي مرة، فهم معهم فلوس. والثراء ليس شعبياً لأن الشعب ليس ثرياً. مع ذلك أريد ان أسجل هنا شكراً نادراً للأثرياء الفلسطينيين، فقد دعاهم أبو عمار الى القاهرة الاسبوع الماضي للتبرع الفوري، وجمعوا أكثر من 18 مليون دولار كنت سجلت 8.5 مليون دولار في اليوم الأول. وفوجئت بأن بين المدعوين صديقاً عزيزاً من أيام المدرسة لم أكن أتصور أنه أصبح من "حيتان" القضية. وارحم "أبو خليل" فلا اسجل اسمه كاملاً حتى لا يزدحم طلاب الحاجات ببابه، وارجح أنه لا يزال "مشروع مليونير" أو "فرخ مليونير". لن أغادر دمشق حتى أكون رأيت كبار المسؤولين الأصدقاء، مثل نائب الرئيس السيد عبدالحليم خدام، ونائب رئيس الوزراء العماد الأول مصطفى طلاس، ووزير الخارجية السيد فاروق الشرع، ووزير الاعلام السيد عدنان عمران. ومع هؤلاء أركان الحماس والجهاد، الاخوة موسى أبو مرزوق وخالد مشعل ورمضان شلح. وسأنقل ما اسمع، اما منسوباً الى مصادره، أو مموهاً بكلمة "مصادر" في الأيام القادمة. وكما تقول عبارة اثيرة في الدعاية باللغة الانكليزية "راقب هذه المساحة"، أي هذه الزاوية. اليوم اكتفي من دمشق بالأصدقاء، وكان أحمد شوقي رأى ان "عزّ الشرق أوله دمشق"، وأراه أوله وآخره دمشق، مع الاعتذار من البطريرك صفير. هناك في دمشق "حرس قديم" باقٍ، غارق في المنظومة الاشتراكية، لو تنحى جانباً لأراح واستراح. الدكتور بهجت سليمان ليس من هؤلاء، فهو أقرب الى تفكير العصر، أو الى الدكتور بشّار الأسد الذي يحاول جاهداً أن يفتح سورية على العالم الخارجي، وان يفتح هذا العالم عليها. ووجدت الدكتور بهجت، رغم موقعه الأمني، يحلل بدقة الأوضاع الاقتصادية السورية، وما هو متوافر، وما ليس موجوداً، وامكانات المستقبل. ثمة تفاؤل عام في سورية بالعهد الجديد، أو العهد الثاني للرئيس حافظ الأسد. وقد شعرت بهذا التفاؤل حول مائدة غداء في مقر رئيس الأمن الداخلي، فقد جمع لي الدكتور بهجت من الأصدقاء المشتركين الدكتور محمد الأطرش، وزير الاقتصاد الأسبق، والدكتور فايز صايغ، المدير العام للاذاعة والتلفزيون الذي ازدادت أناقته بحكم التلفزيون، والاخوان محمود سلامة، رئيس تحرير "الثورة"، وخلف الجراد، رئيس تحرير "تشرين"، وتركي صقر، رئيس تحرير "البعث"، ونصري خوري، رئيس المجلس الأعلى السوري - اللبناني، ووليد عثمان، محافظ درعا السابق، وعلي عبدالكريم، المدير العام لوكالة الأنباء السورية. وكان معنا الزميل ابراهيم حميدي، مدير مكتب "الحياة" في دمشق، وأنا اخترت له لقباً "المتهم"، لأنني لا أصل الى دمشق، إلا وأجده متهماً بشيء ما. في المساء كان هناك عشاء آخر مع الصديق جبران كورية، الناطق الرئاسي، وأصدقاء آخرين. وكنت في القاهرة فضلت صحبة المخرج مصطفى العقاد على الراقصة دينا. ووجدت نفسي في دمشق، وفيها ألف حسناء، فضلت أن أتركهن، كما تركنني، وأجلس لحديث السياسة والاقتصاد مع الأصدقاء. وقد قلت في السابق انني "وش فقر"، وأكرر ذلك اليوم.