صدامستان هي بلاد الفنون الجميلة. بلاد كلها صور ملونة من الشمال حتى الجنوب، من الغرب وحتى الشرق، في أحايين كثيرة تكون الصور فاقعة، لكنها دائماً كبيرة الحجم، تتوسم الإبهار، أو على الأقل إثارة الدهشة، ليس لأولئك الذين تعودوا رؤية المشهد وأصبح بالنسبة اليهم جزءاً من روتين يومي. صور تنبض بالقوة، كلها طاقة، تفيض بالخير، لكنها أيضاً مملوءة بالخنوع، بل بالذل، ذلّ شحاذ يريد إقناع الآخرين بالعطف عليه. صور لهذا الشحاذ "القوي" الملحاح في كل مكان من صدامستان، وبإمكانه أن يفخر بجعله إياها مملكة الشحاذين الرقم واحد في العالم: ففي النهاية هي بلاده. طبعاً لا تُسمى في الحقيقة "صدامستان". لكن، لم لا؟ في بلاد يحمل الناس فيها شعار "كلنا وراء القائد"، بلاد "أبو الشحاذين"، كل شيء ممكن!؟ ربما يبدو الأمر غريباً ويفوق كل ما هو معقول بالنسبة الى الذين لم يزوروا هذه البلاد أو لم يحصلوا على صدقة من صدقات شحاذها الكبير، كما فعل كبار فطاحل شعراء وفناني ومفكري هذه الأمة انهم كثر!، لكنه أمر مألوف وطبيعي بالنسبة الى الذين يحتكمون لعقلهم بعض الشيء: فبالفعل ممكن أن يختلف كل شيء في هذه البلاد، ممكن أن يتغير كل شيء أو كل شخص، باستثناء صاحب هذه البلاد، إذ يجب أن يحمل فيها كل شيء مهم وذي معنى اسمه بطريقة ما: مستشفى صدام هو أكبر مستشفيات بغداد وبرج صدام هو أكبر برج تلفزيوني في وادي الرافدين. أكبر من ذلك مطار صدام، جسور صدام، أسواق صدام، وليس أخيراً ليحمد الناس ربهم، ويسبحوا باسم "قائدهم حفظه الله" في جامع صدام الكبير. صحيح ان الرئيس حاول ويحاول كل يوم خلق البلاد على صورته، إلا أن تلك الصورة يجب أن تختلف في الكثير مقارنة به. لذلك ليس في امكان المرء أن يدّعي بأن صورة البلاد تتطابع مع صورة الرئيس، فالبلاد، "صدامستان"، فقيرة جداً بالمقارنة به هو الرئيس الغني. لكن ليحمد السكان مكارم رئيسهم المتعددة، فصورته على الأقل طبعت هذه البلاد مثل ختم. رحلة الصور عبر صدامستان لا تبدأ في مكان أو تنتهي الى مكان محدد. تبدأ عند أية نقطة يريد المرء الابتداء منها، تواجه كل زائر جديد أو قديم، من غير المهم النقطة الحدودية التي يدخل منها، بل من غير المهم الزمن الذي يدخل فيه البلاد، لأن صدامستان لا تملك زمناً معيناً، كما ان صوره، صور صاحب هذه البلاد، أبدية، لها بديلها، بالعشرات، مثل بدائله، كما ليس من المهم موقع النقطة، أكان شمالاً أم غرباً أم شرقاً أم جنوباً، ففي نقطة حدود "طريبيل"، مثلاً قبل الدخول الى الأردن، إذا أغمض المرء عينيه، سيجد نفسه في نقاط حدودية أخرى مطابقة لها، نقطة حدود "أم قصر" قبل الدخول للكويت مثلاً، أو عند نقطة "القامشلي" التي تؤدي الى البلد الشقيق سورية، ففي كل مناطق الحدود تلك، الرئة، وسط الصحراء، يُقدّم الشاي، حيث يجلس المرء أمام شاشة تلفزيون لا يرى فيها المشاهد غير صورته، مالك هذه البلاد، وصوت مذيع يعلن ربما للمرة الألف عن تمارين عسكرية لقوات بطل هذه الأمة، حينها، على الجالس هناك أن يُبدي تعبيراً بالرضا، يعلن ان كل شيء على ما يرام، على رغم ان المكان الصغير يبدو كافياً للصوفا الكبيرة والسجاد والخرائط، على رغم المبالغة بأحجام هذه الأشياء. نعم ان هذه الأشياء تبدو متواضعة بالمقارنة به، هو الذي يستحوذ ويسيطر على المكان. وتوخياً للدقة نقول، في هذه الأماكن، في النقاط الحدودية، يستحوذ رأسه فقط، نعم رأسه الفارغ، المصبوغ على الحائط، يبلغ علوه أكثر من مترين، وعرضه بالحجم نفسه تقريباً، مزود بإطار من الذهب. انه يبتسم بصورة رائعة، الضحكة مثل رسالة: أهلاً وسهلاً بكم في بيتي، يعني ذلك صدامياً. وتلك هي حال صوره وتماثيله، التي يراها المرء في كل مكان، في الشوارع، في الساحات وحتى في عمق الصحراء، انها تحمل دائماً رسالة واحدة: أنا بينكم! لكن من الممكن أن يعني ذلك أيضاً: أنا أرى كل شيء، أسمع كل شيء، أعرف كل شيء. بالنسبة الى شعبه، شعب صدامستان، هناك صورة واحدة له: صدام الطيب. البورتريهات التي رسمها له أشهر وأتفه رسامي البلاد، لا تختلف في تجسيدها له، إلا بحماستها، إذ تتفق في النهاية جميعها بعرضه: بضحكة رقيقة، أحياناً ببدلة مميزة، وفي أحيان أخرى بملابس البدو. انه يريد أن يُري نفسه دائماً بصفته رجلاً يصلح لكل المناسبات، مسترخياً مع كوب الشاي أو حازماً يمسك بيده كلاشنيكوف. انه منفتح أيضاً لكل الصرعات والمودات، سواء تلك المتعلقة بلبس القبعة، أو بتلك التي لها علاقة بأزياء مختلفة، ولا بأس أن يلبس بدلة جيرمانية تُذكر بلباس سكان اقليم بايرن الألمان الذين يقضون اجازاتهم في جزيرة مايوركا الاسبانية في هامبورغ واسبانيا حيث تتوزع اقامتي يثير اللباس سخرية الناس!. انه قبل كل شيء، جاهز دائماً، في الخدمة. حتى عند الاتصال تلفونياً. ففي صدامستان وفي كل مراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية التي تقصفها قوات التحالف بشهية دائماً! يترك صاحب البلاد بورتريهاً له، على رغم ان المكان غير مناسب لشخصيته "المقتدرة"، أولاً بسبب اصرار قوات التحالف على قصفها المتكرر له، عند اثارة أية مشكلة، وثانياً فالمكان يثير الشجون، ففي صدامستان بالفعل مشكلة جدية مع الاتصالات السلكية على الأقل!، إذ من المستحيل للناس أن ينجحوا بالتهاتف فيما بينهم، أما الحصول على خط تلفون جديد فيكلف مليون دينار. إذاً لماذا يعلقون صورته هناك؟ رسالة صورته هناك إذاً، تحمل معنى واحداً فقط: هنا أتصل أنا فقط - من أجل راحة وعزة الشعب وشرف المبادئ من غير المهم أية مبادئ يعنيها؟ طبعاً! لأنه كما يشيع مرافقوه ورجال حزبه، يحب الشعب فوق كل شيء. الأعداء يجب عليهم أن يخافوا طبعاً، أن ترتعد فرائصهم. في النهاية انه هو، زوج "أم المعارك" الحذار من المعنى الآخ لكلمة "زوج" في العراقية الدارجة!، وبعد حرب الخليج الخاسرة يواظب على عرض نفسه بصورة خاصة في وضعية المنتصر. ويبدو ان الأمر أكثر نجاحاً في نصب برج تلفزيون بغداد، الذي مسحه الانكليز الأرض في اليوم الأول للحرب والذي بناه رجاله تقريباً في اليوم الثاني وهذه المرة بحجم أكبر، وأجمل، وقبل كل شيء أعلى من أعلى بناية في لندن بلد المعجزات، أليس كذلك!. هناك يقف بطل الأبطال، ماداً يده الحديد، وتحت قدميه لا يجثو حطام صواريخ قوات التحالف فقط، إنما أيضاً رؤوس قادة التحالف: بوش، ثاتشر وميتران. "ذهبوا كلهم"، وظل هو على عرشه. لقد عاشهم كلهم، مثلما عاش آخرين من قبلهم. منذ اثنين وعشرين عاماً يحكم صدام حسين في صدامستان. انه رئيس البلاد منذ 1979 بصورة رسمية لكنه، يجثو على صدور الناس ويسيطر على نومهم ككابوس قبلها بإحدى عشرة سنة، مذ كان نائباً لعسكري عجوز ليس في يده الحل والربط. انه أكثر بعض الشيء من رئيس للبلاد، لأنه يتمتع بالمناصب الآتية: رئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس قيادة الثورة، السكرتير الأول للقيادتين القومية والقطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، القائد العام للقوات المسلحة، أديب غير متفرغ لكتابة الرواية والقصيدة والأغنية اذا تطلب الأمر. اضافة الى ألقاب أخرى يصعب حصرها هنا مثل: سبّاح العراق الأول، روائي العرب الأول، عالم العرب الأول، وبعثيّ العرب الأكثر إخلاصاً، صحافي العربي الأول... وأكثر من هذا يحمل لقب بطل التحرر القومي، ورتبة المارشال أيضاً. وفي ما يتعلق باللقبين الأخيرين العسكريين فإنه زيّن بهما أولاً كل بوابات الثكنات، وهذه كثيرة في بلد عدد سكانه 22 مليوناً، وفيه ما لا يقل عن نصف المليون جندي، غير هارب، سينضم اليهم متطوعو فرق تحرير القدس بعددهم الذي يقترب من 3 ملايين شحاذ. وثانياً يعرض نفسه دائماً بملابسه العسكرية بصورة مفضلة بالقرب من الجوامع، لكي يرى كل واحد، ان هناك سلطة قوية بين الناس والله. الإيمان بصدام يُحقن بصورة اضافية عبر "علم صدام Sadamstik"، "أرقى العلوم في صدامستان، العلم المتخصص بدراسة فروع شجرة قبيلة القائد" صاحب البلاد. أما فخر ال"بابا" وفي النتيجة فخر البلاد المُصدَّمة جميعها، فخر صدامستان، فهما: عدي، المحارب القديم الذي يملك مئات السيارات الفاخرة، يُقال انه ورث الكثير من حرارة ال"بابا". الكثير من جرائمه مشهودة له، من بينها واحدة شهدتها له سوزان مبارك، زوجة الرئيس المصري، عندما كانت ضيفة الحفلة، حيث قطع عدي بسكين كهربائية رقبة ذواق طعام ال"بابا". وهو، قبل كل شيء، يكرس جلّ وقته لكسب المال، يدير امبراطورية اعلامية كبيرة، ويضع تحت سيطرته - سوية مع أخيه - عمليات التهريب، خصوصاً تهريب البضائع، النادرة والغالية. هكذا يصبح الحصار المُعلق ضد ال"بابا" بركة لصدام وأتباعه. لكن عدي ومنذ محاولة اغتياله، التي حولته الى معوق، انزاح الى المرتبة الثانية، ليفسح المجال أمام أخيه الأصغر، الغامض الى الآخرين الذين يتعمدون تجاهل جرائمه، الواضح لمن يريدون معرفته: قصي، ولي العرش الذي يقود منذ وقت طويل قوات الحرس الجمهوري وأجهزة الأمن والاستخبارات. البلاط مهيأ إذاً، ورسامو البلاط عليهم بين الحين والآخر البحث عن ورثة. لكن رسامي البلاط يعرفون أيضاً ان الشهرة الحقيقية تجلبها فقط صور صدام، وهي بالنسبة الى أي رسام في صدامستان يجب أن تكون فصلاً من فصول تحقيق النفس. "ان ذلك ينبع من الداخل"، يقول الجراح علاء بشير، رسام صدامسات المُحتفى به في الداخل والخارج، رسام البلاط المفضل "انه تعبير عن حب الشعب للقائد حفظه الله، انه رسامنا الأول الملهم". وكما يشرح الجراح الرسام ذاته، وفي المقابلة ذاتها، "ان الخيال اذا وُجِّه ذات مرة في الاتجاه الصحيح، لا يعرف حينها حدوداً - لا ذوقياً ولا تاريخياً، ففي النهاية السيد القائد حفظه الله، صدام حسين هو الرجل، الذي يوحد الماضي والحاضر"، ولماذا لا؟ فالسيد علاء بشير الذي طافت معارضه عواصم بلدان عدة، والذي يُعد من أشهر رسامي بورتريه صاحب صدامستان، لا يجافي الحقيقة، فهي صوره الى جانب صور رسامين آخرين التي تجسد صاحب المكارم، بكل الحركات الممكنة التي تدل الى كرم عطاياه لشحاذي صدامستان الأقل منه منزلة في الشحاذة، وذراعه يمكن أن تطول حتى شمال البلاد، ولتنظروا الى مملكته في نينوى. هناك يقف في أبهة رامي السهام على عربة خيول آشورية قديمة، تحلق أمامه حمامات السلام، تدله الى الطريق. "صدام، أنت زهرة ربيعنا المورد الدائم"، تقول اللوحة الرخيصة التي رسمها صديق ورفيق للجراح الرسام، والتي وُضعت تحت الرسم. هكذا، من الممكن رؤيته في كل مكان، بل انه يتعمد ذلك، لأنه في الحقيقة - بشخصه الحقيقي، بلحمه ودمه - غير مرئي. لا يُري نفسه في المناسبات الرسمية إلا في النادر، خوفاً من محاولات الاغتيال، يعيش أغلب الأوقات في سراديبه، على رغم ولعه الجنوني في السنوات الأخيرة ببناء القصور، التي يسميها قصوره. ربما يحميه ذلك من رؤية الواقع بأم عينيه، كيف ان الاقتصاد والمجتمع والبلاد التي يجلس على صدرها وصلت الى الحضيض. لكن، في المقابل، ربما هو الرئيس الوحيد الذي يفتخر في زماننا الحاضر، بأنه جعل ثقافة الصور تزدهر في العراق، عفواً، في بلاد الشحاذين، صدامستان. * كاتب عراقي مقيم في ألمانيا.