قبل سنوات من الآن، أقامت رسوم كاريكاتورية كانت حقاً مسيئة للإسلام بريشة رسام دنماركي، الدنيا ولم تقعدها: تظاهرات وتهديدات بالقتل ومقاطعة جبنة دنماركية وحرق مبانٍ ومنع صحف. بدا الأمر يومها وكأن معركة كتاب «آيات شيطانية» اندلعت من جديد. لكن النتيجة كانت على غير ما يتوقع اصحاب الحراك من الذين كانوا يريدون التعبير عن سخطهم إزاء تلك الإساءة وقد نشرت رسوماً في صحيفة لا يقرأها احد خارج اصحاب اللغة التي تنشر فيها، فإذا بهم يُفاجأون بعشرات الصحف العالمية تعيد نشر الرسوم في عشرات البلدان، كما فوجئوا بعشرات رسامي الكاريكاتور في العالم يحاكون تلك الرسوم، ما ضاعف الإساءة الى الإسلام مئات المرات ولكن من دون رد فعل مماثل لرد الفعل الأول. صاحب حنظلة طبعاً لا نذكّر بهذه الحكاية كي نستعيد درساً من التاريخ القريب في ما يمكن ان نسميه «تكتيكات التحرك الاحتجاجي واستراتيجياته»، بل للتركيز على الأهمية الفائقة التي صارت للرسم الكاريكاتوري، السياسي منه وغير السياسي، في العالم، حيث لا تخلو منه اية صحيفة في هذا العالم، وينحو اكثر من اي تعبير آخر عن الرأي، الى اجتذاب تماهي الجمهور العريض معه. ولئن كانت السينما قد وسعت منذ عقود آفاق اهتماماتها بحيث راحت مواضيعها تُستقى من كل مكان ومن أي مكان، فإن ما يلفت حقاً هو ان عالم الفن الكاريكاتوري ظلّ في منأى عن اهتمام أهل السينما سواء أكانت روائية أو تسجيلية. ولعل في مقدورنا ان نقول هنا ان الفيلم الذي حققه الراحل عاطف الطيب عن الفنان الشهيد ناجي العلي وكان عنوانه بالتحديد «ناجي العلي»، يمكن ان يعتبر فيلماً نادراً في هذا المجال، فإن في وسعنا ايضا التأكيد على ان همّ ذلك الفيلم لم يكن تقديم صورة حقيقية لصاحب «حنظلة» بوصفه فناناً - فبصراحة اتت صورة الرسام الفلسطيني يومها في الفيلم مشوهة، كما اتى الفيلم كله غير ذي علاقة بناجي العلي كما عرفناه في الكويت وبيروت ولندن، اي في منافيه المتعددة وفي فنه الذي اعاد الاعتبار الى رسم الكاريكاتور السياسي في طول العالم العربي وعرضه، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع -، بل كان همّ الفيلم الخوض في سجال سياسي يخدم النظام الليبي في معركة كان يخوضها ضد منظمة التحرير الفلسطينية - فالسلطات الليبية كانت هي التي موّلت الفيلم يومها وحددت خطوطه السياسية - ضد ياسر عرفات. ولكن يبقى من هذا ان ناجي العلي كان موضوعاً لفيلم سينمائي لمرة نادرة في تاريخ السينما... لكن الأهم من هذا ان هذا المبدع الفلسطيني قد اغتيل في لندن بالتحديد لأنه رسام كاريكاتوري. تماماً كما ان الرسام السوري الكبير علي فرزات كان واحداً من أول الفنانين الذين وقعوا ضحايا الثورة السورية قبل ثلاث سنوات حين هُشّمت أصابعه من جانب شبيحة النظام رداً على رسومه المؤيدة للثورة حين كانت الثورة لا تزال سلمية وحقيقية. والحقيقة ان هاتين الحالتين العربيتين تأتيان للكشف الإضافي عن خطورة هذا الفن وخوف الديكتاتوريين من تجاوب الناس معه. ولئن كنا هنا قد تحدثنا عن حالات قصوى في هذا المجال، فإن ثمة حالات أقل عنفاً في التعامل مع الرسامين، لكنها لا تقل دلالة عن خطورة فنهم وأهميته. فثمة من الفنانين من سُجن وهناك من أُسكت بالقوة ومن نُفي ومن قُطع رزقه. وما الفيلم الذي عرض خارج المسابقة الرسمية في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي بعنوان «رسامو الكاريكاتور: جنود الديموقراطية المشاة» وهو من تحقيق الفرنسية ستيفاني فالواتو، سوى وقفة نزيهة عند هذا الفن وفنانيه الكبار. فقد أتى هذا الفيلم في عرضه «الكاني» ثم في عروضه في الصالات بعد ذلك بأيام، أشبه بتحية سينمائية لفن يطالعه الناس كل يوم ولكنهم نادراً ما توقفوا عند معاناته وتاريخه او حتى عند نجومه، هو الذي له ككل فن حقيقي نجومه الكبار... غير ان الفيلم لم يكن مجرد استعراض لتاريخ هذا الفن ومعاناته عبر تاريخه وعلاقاته بالسياسة والمجتمع وجمهوره وتعرضه الدائم إما للقمع وإما للتقليل من شأنه، بل كان غير هذا وأكثر من هذا كما كان هذا ايضاً في الوقت نفسه. وذلك بالتحديد لأن الفيلم اختار ان يقدم موضوعه من خلال أصحاب العلاقة انفسهم: 12 من ابرز رسامي الكاريكاتور «السياسي» في بلدانهم ومناطقهم وقفوا هنا امام كاميرات الفيلم أو جلسوا على طاولات عملهم، ليحكوا حكايتهم وحكاية فنهم. أعطت المخرجة الكلام لهم، فإذا بهم في الكلام هم أنفسهم كما في الرسم، حيث يغلب عليهم المرح واللؤم والسخرية والطيبة ولكن أيضاً الثقة بصواب المعركة أو المعارك التي يخوضونها. ولعل أغرب استنتاج يخلص اليه متفرج الفيلم هو ذاك الذي يرد في حديث الرسام الإسرائيلي الشهير كيشكا، الذي يعرّفه الفيلم بأنه الوحيد الذي يمكنه ان يرسم في لوحاته الأنف اليهودي الطويل من دون أن يتهمه أحد بمعاداة السامية، إذ يقول: «في الواقع ان أعدى اعداء فنان الكاريكاتور ليس الرقابة، بل الانسجام مع الصوابية السياسية». لكن الرقابة حاضرة ايضاً كعدو رئيس، وليس فقط في البلدان المتخلفة او تلك ذات الأنظمة الديكتاتورية، ففي فرنسا كذلك كما يروي الرسام الشهير بلانتو - من صحيفة «لوموند» ومجلة «الإكسبرس» -، لم يكن الرئيس السابق ساركوزي ليتوانى عن الاتصال بإدارة الصحيفة محتجاً حين يشاهد في عددها الجديد رسماً لا يعجبه. غير ان الرئيس الفرنسي كان يكتفي بالاحتجاج ولا يهشّم أصابع الرسام... أليس كذلك؟ اختارت مخرجة الفيلم الرسامين من بلدان وآفاق سياسية متنوعة، فعدا عن الفرنسي بلانتو والإسرائيلي كيشكا، ولعلهما الأشهر عالمياً بين المجموعة، هناك الروسي ميخائيل زلاتكوفسكي الذي يخبرنا بكل هدوء ان اي رسم يسخر من الرئيس فلاديمير بوتين ممنوع، ولكن كذلك من المحظور نشر اي رسم للجيش او قوات الأمن أو العدالة وذلك منذ عهد بريجنيف وحتى الآن. فماذا سيبقى لريشة الرسام؟ أعداء الأمة طبعاً وحثالات المجتمع والإجرام، شرط ألا يكونوا من الأثرياء المرتبطين بالسلطة او المافيا او الإثنين معاً! وفي المقابل، يُجمع الرسامان الإفريقيان، داميان غليز (من بوركينا فاسو) والحسن زوهوري (من ساحل العاج) على انهما نادراً ما تكون لهما مشاكل مع الرقابة في بلديهما... لماذا؟ «بكل بساطة لأننا أتقنا مبدأ الرقابة الذاتية»، فماذا يرسمان إذاً؟ كل شيء عدا السياسة! رئيس ضعيف! ولكن هل هناك حقاً مواضيع للرسم الكاريكاتوري خارج السياسة؟ الرسام الجزائري «سليم» - واسمه الحقيقي منوّر مرابطين -، لا يعتقد هذا، لكنه في المقابل يفخر بأنه في العام 1984، كان اول رسام في الجزائر يقدم رسماً كاريكاتورياً يسخر فيه من رئيس للجمهورية في بلاده. فماذا كانت النتيجة يومها؟ صادرت السلطات نسخ الصحيفة وعددها ثمانون ألف نسخة وأتلفتها مذكّرة الرسام بأن هناك «مقدسات في هذا العالم يعتبر رئيس الجمهورية في طليعتها». ونعرف ان هذا القول ينطبق على الغالبية العظمى من بلدان العالم... ولعل من حسن حظ «سليم» ان الأمر تعلق يومها برئيس ضعيف فاكتفى بمصادرة العدد. غيره كان سيصل الى إعدام الرسام او سجنه. والحقيقة ان الأممالمتحدة من أجل الحيلولة دون وصول الأمر الى هذا الحد، وفي شخص أمينها العام آنذاك كوفي آنان، وكان حاز لتوّه جائزة نوبل للسلام، تشاركت مع الرسام الفرنسي بلانتو لتأسيس جمعية «الرسم الكاريكاتوري من أجل السلام» التي يحدثنا عنها الفيلم. وهذه الجمعية اقامت عام تأسيسها 2006 في مقر منظمة الأممالمتحدة ندوة عنوانها «كي لا نتعلم التعصب» جمعت الرسامين الكبار في العالم، لتكون لاحقاً في أساس هذا الفيلم وذلك تحت شعار اطلقه بلانتو وردده في الفيلم، «هناك حيث ثمة جدران فصل بين الناس، وجدران لا تفاهم بينهم، سيكون ثمة دائماً رسامون يشرخون تلك الجدران، يلتفون حولها وفي نهاية الأمر يجعلونها شفافة كأنها لا توجد». ويفخر بلانتو اليوم بأن عدد الرسامين الكاريكاتوريين المنضمين الى الجمعية من انحاء العالم كافة بلغ 108 رسامين. وطبعاً من بين هؤلاء هناك ثلاثة رسامين عرب يقدمهم لنا الفيلم ويتحدثون بدورهم عن معاناتهم وعن فنهم: الفنانة التونسية ناديا خياري المعروفة باسمها المستعار «وليس من تونس» الذي استعارته كما تقول من إسم هرتها، ليصبح إبان الثورة رمزاً لها بفضل الرسوم التي راحت ناديا تضخها في الصحف مبدعة نقداً واحتجاجاً وتحيات للثائرين. وهي تقول اليوم، في الفيلم وخارج الفيلم، ان أعدى أعدائها هم اصحاب اللحى من المتطرفين، ورجال السلطة الذين صادروا الثورة، وكل الذين يهضمون حقوق المرأة ويسيلون الدماء في الشوارع. اما العربي الثالث في المجموعة - بعد «سليم» الجزائري، و «ويلس» التونسية - فهو الفلسطيني «بخاري» واسمه الكامل بهاء بخاري. ويخبرنا بخاري، أمام الكاميرا انه يرسم ويعارك منذ العام 1964 ودائماً انطلاقاً من إيمانه بأن لا مستقبل في المنطقة إلا بالسلام. وهو يعتبر بالتالي ان من مهمة الفن ان يساند هذا السلام على رغم اعدائه الكثر «وعلى رأسهم السلطات الإسرائيلية وحماس». لائحة شرف ما! يبقى ان نذكر اخيراً ان ما يلفت حقاً في هذا الفيلم الجديد من نوعه والطموح، هو ان اختيار الفنانين المتكلمين فيه لم يأت عشوائياً، حيث اننا إذا وضعنا الفرنسي بلانتو جانباً، باعتباره محرك المشروع الأول كما كان صاحب مشروع الجمعية التي تقف وراءه، سنجد ان الرسامين الذين يقدمهم الفيلم ويقدم فن الكاريكاتور السياسي العالمي من خلالهم، إنما هم آتون من بلدان تعاني حرية الرأي ما تعاني فيها، فإذا كنا قد أشرنا أعلاه الى الروسي زلاتكوفسكي والرسامين العرب، التونسيةوالجزائري والفلسطيني وزميلهم الإسرائيلي، إضافة الى الرسامين الإفريقيين، سنلاحظ ان الباقين من بين الذين يقدمهم الفيلم، آتون تباعاً من الصين (بي سان)، والمكسيك (آنجيل بوليغان) والولايات المتحدة (جف دانزيغر) وفنزويلا (رايما سوبراني)... وهي مجموعة كان ينقصها بالتأكيد رسامون من العراق وإيران وسورية وكوريا الشمالية...الخ كي تكتمل «لائحة الشرف» للبلدان التي لا تربطها بحرية التعبير اية صلة وتشكل ممارسة هذا الفن خطراً دائماً على الفنانين فيها... الخطر الذي يحاول هذا الفيلم البسيط والذكي ان ينبه البشرية من استشرائه عبر توجيه التحية الى رهط من الذين يعيشون يومهم وروحهم على كفهم اليسرى فيما اليمنى تمسك بالريشة لترسم... وترسم... وترسم، لعل شيئاً يتغير في نهاية المطاف.