"على كل الديموقراطيين في العالم ان يشاهدوا هذا الفيلم"، قائل هذا الكلام كان الرئيس الأميركي روزفلت. وعلى رغم ان السينما الأميركية الأكثر ديموقراطية وارتباطاً بشؤون المجتمع -على نمط سينما فرانك كابرا - كانت عرفت ازدهاراً كبيراً أيام رزوفلت، لا سيما بعد استعادة الشعب الأميركي الأمل بفضل إجراءات روزفلت الاقتصادية، فإن الفيلم المعني بكلام الرئيس الأميركي الديموقراطي، لم يكن فيلماً أميركياً، بل كان فرنسياً. وعلى رغم وضوح رؤية روزفلت وربطه للفيلم بالديموقراطية، يجدر بنا ان نقول منذ الآن إن الفيلم المعني كان أبعد الأفلام عن الوضوح. بل لربما كان التباسه الفكري أهم ما يميزه، وأكثر ما أعطاه ذلك السحر الذي لا يزال يطبعه حتى اليوم، أي بعد اكثر من ستين عاماً مضت على إنتاجه. هذا الفيلم هو "الوهم الكبير" للمخرج جان رينوار. والذي صوّر وعرض في زمن انتصار الجبهة الشعبية ائتلاف اليسار في فرنسا، ولكن تحديداً في زمن كانت النازية والفاشية يستشريان في أوروبا ولا سيما في ألمانيا وإيطاليا، وفي أوساط فئات طويلة عريضة من أبناء الشعب الفرنسي. ولئن كان جان رينوار قد اعتبر في تلك السنوات تحديداً، المعبّر الأساسي، سينمائياً، عن صعود اليسار، فإن "الوهم الكبير" لم يأت ليترجم فعل إيمان اليسار في تلك السنوات الانعطافية، بل أتى ليطرح أسئلة غامضة، أي عميقة في حيرتها الإنسانية. وهذا ما جعل الفيلم يعتبر على الدوام حديثاً ومعاصراً، وجعله يصنف دائماً بين أفضل الأفلام التي أنتجها الفن السابع على مدى تاريخه. على رغم الالتباس الذي نشير إليه هنا، نذكر ان جان رينوار، مخرج "الوهم الكبير" حين قدم فيلمه أمام الجمهور الأميركي للمرة الأولى في العام 1938، اعتلى خشبة المسرح ليقول: "ها أنذا أصغي لهتلر يهدر صارخاً عبر الراديو مطالباً بضم تشيكوسلوفاكيا. وأجدني أشعر انني من جديد أعيش الوهم الكبير، انا حققت هذا الفيلم لأنني مناصر للسلام. وبالنسبة إلي المناصر الحقيقي للسلام هو انسان فرنسي حقيقي وأميركي حقيقي وألماني حقيقي. لا شك سوف يأتي يوم يجد فيه الناس ذوو النيات الطيبة أرضية للتفاهم في ما بينهم". وهو عاد في العام 1946، بعد انقضاء الحرب ليتحدث عن فيلمه هذا قائلاً: "إن الفرنسيين في هذا الفيلم فرنسيون طيبون. والألمان ألمان طيبون. ألمان من أولئك الذين ينتمون الى ما قبل العام 1939. وأنا من المستحيل علي أن أناصر أياً من شخصيات فيلمي، على حساب الأخرى". ومن المؤكد ان هذا الكلام كان غريباً على الأسماع في ذلك الحين. لكن رينوار كان سابقاً لعصره، ويؤمن بالإنسان. وفيلمه "الوهم الكبير" كان ايماناً بالإنسان، وصرخة ضد التعصب والتقوقع القومي والفئوي والديني. صرخة كانت ترى أن كل ما يفرق بين البشر، إنما فرض عليهم من خارجهم. وهذا هو الدرس الأساسي الذي شاء رينوار لفيلمه هذا ان يكونه، في وقت كانت فرقعة السلاح مستشرية، والجنود في كل مكان يكشرون عن أنيابهم. تدور أحداث "الوهم الكبير" في العام 1916، خلال الحرب العالمية الأولى، عند الجبهة الألمانية - الفرنسية. وثمة ضابطان فرنسيان أسيران في يد القوات الألمانية. ومعهما في الأسر مدرّس ومهندس وممثل وشخص يهودي يدعي روزنتال. داخل هذا الأسر، سرعان ما يتم تجاهل الفوارق الطبقية وتنتظم الحياة اليومية، وتحديداً بفضل تسامح السجّانين الألمان. وعلى رغم ذلك الانتظام واضح أن كل الأسرى يحلمون بالحرية... ذات يوم ينقل الضابط الفرنسي مارشال ومعه روزنتال الى قلعة تقع تحت إشراف ضابط ألماني كبير. وهذا الضابط بدوره يعامل نظيره الفرنسي بكل احترام. بعد ذلك يحدث ان يهرب الأسرى، وإذ يقتل الضابط الفرنسي الآخر في الأسر، يتمكن الباقيان من الوصول الى كوخ لمزارع ألماني... وهذا المزارع لا يتردد عن إيوائهما، ومساعدتهما حتى يصلا الى الحدود السويسرية ويعبرانها الى الحرية. كان من الواضح ان جان رينوار يسير في هذا الفيلم عكس التيار. فبالنسبة إليه ليس العدو عدواً بالمطلق. وليس الجندي الألماني مجرد وحش، والجندي الفرنسي ملاك منزل من السماء، كما اعتادت الأفلام الحربية ان تكون، فالكل هنا بشر، إذا نحينا الحرب جانباً، سنجدهم متشابهين في أفكارهم وأحلامهم. وكان مجرد قول هذا يعتبر هرطقة. لكن جان رينوار قاله، بالتفاهم مع كاتب السيناريو شارل سباك. وكان من الواضح ان هذين الفنانين، أمام الشر المستشري في أوروبا في ذلك الحين، نابعاً من عصبيات ولا تسامح خطيرين، كانا يريدان تذكير العالم كله بأهوال الحرب العالمية الأولى وبعدم جدوى الحرب. "كانا معاً يسعيان الى التعبير عن إيمانهما العميق بالمساواة والأخوة بين البشر وكانا يريدان ان يقولا إنه خلف الفوارق الاجتماعية والصراعات بين الأشقاء، حتى في أزمان الحرب، يمكن المقاتلين ان يظلوا في أعماقهم بشراً". بالنسبة الى سباك ورينوار من المؤكد ان "الحدود بين الأمم عبثية، والتعصب القومي وهم كبير" ولكن من المؤسف ان "أمل السلام الدائم" هو بدوره وهم كبير، "إنها قواعد اللعبة" كما قال مؤرخ السينما كلود بيلي في تشريحه للفيلم، "قواعد اللعبة اجتماعياً وإفرادياً" بمعنى أن رينوار كان يريد ان يصرخ، من دون ان يكون لديه أدنى وهم بأن في إمكان صرخته ان توقف الهبوط الى الجحيم. بالنسبة الى رينوار كان دور الفنان ان يقول ما عنده، حتى وإن كان يعرف ان التاريخ لا يرحم. ومن هنا التباس الفيلم، وأكثر من هذا التباس عنوانه. ولا بد من الإشارة هنا الى أن رينوار كان يقول دائماً إن الحكاية التي يرويها في فيلمه انما هي حكاية حقيقية رواها له بعض رفاقه خلال الحرب العالمية الأولى. لكن ما رواه له الرفاق كان حكايات هرب وحسب. وهي حكايات كثرت خلال تلك الحرب، والمهم بالنسبة الى رينوار، كان أن يري الجانب الآخر من الحكاية: "العدو" وقد نسي، في لحظة، كل العداء، ليتحول الى متواطئ مع الهارب. لأن هذا فقط، لا الهرب في حد ذاته، يكشف عن إنسانية الإنسان. واللافت في هذا أيضاً أن رينوار الذي وضع الكثير من ذكرياته كطيار خلال الحرب الأولى، في الفيلم، فتح المجال لجوزف فون شتروهايم، الذي قام بدور الضابط الألماني، لكي يضفي هو الآخر على الفيلم خصائص جذوره الجرمانية وإنسانيته الأصيلة. ينتمي جان رينوار الى عائلة فنانين. وهو ابن الرسام الانطباعي الكبير بيار - اوغست رينوار. ولد العام 1894 في باريس، ومات العام 1979 في بيفرلي هيلز كاليفورنيا. بدأ حياته خزافاً، ثم تحول الى السينما في العام 1924 حيث كتب السيناريو وبدأ يمارس الإنتاج. وفي العام 1926 حقق فيلمه الأول كمخرج وكان عنوانه "فتاة الماء" وهو منذ ذلك العام لم يتوقف عن العمل السينمائي، فحقق بعض أهم الأفلام الفرنسية، ثم عمل خلال الحرب العالمية الثانية في السينما الأميركية. وحقق في العام 1951 فيلم "النهر" في الهند، كما حقق العام 1952 فيلم "العربة الذهبية" في ايطاليا، قبل ان يعود الى فرنسا ويعمل فيها من جديد. من أهم أفلام جان رينوار الذي عرف بلقب "شاعر السينما": "قواعد اللعبة"، و"الحياة لنا" و"نانا" و"فرانش كانكان" و"الكلبة" و"وصية الدكتور كورديلييه" إضافة الى "الوهم الكبير".