عاد الحديث عن "إجراءات الثقة". والعرب فقدوا هذه الثقة في الولاياتالمتحدة أولاً، كونها فرّطت بأوراقهم التي وضعوها كلها عندها. اما اسرائيل فإن مسألة الثقة بها ومعها لم تكن يوماً من المعطيات المضمونة في "عملية السلام"، كونها تتنكر للاتفاقات والالتزامات وتتهرب من متطلبات أي سلام، إلا ذلك الذي يبقي احتلالها وسيطرتها على الشعب الفلسطيني وأرضه. في المقابل، هل لدى الولاياتالمتحدة واسرائيل أسباب لعدم الثقة بالجانب العربي؟ طبعاً، طبعاً، الأسباب كثيرة كثرة المطالب الاسرائيلية التي يتبناها الأميركيون بلا نقاش. المطلوب أولاً وقبل كل شيء ان يقبل العرب الاحتلال الاسرائيلي ويباركوه، وهذا يستتبع ان يعلنوا بوضوح التخلي عن القدس، وأن يقبلوا المستوطنات، وان يرفضوا حق العودة للفلسطينيين، وأن يقنع العرب الفلسطينيين بالرضوخ للسيادة الاسرائيلية، وأن تجرد السلطات في كل بلد عربي حملة أمنية على من تصنفهم اسرائيل والولاياتالمتحدة "ارهابيين"، وأن تضع اقتصادها وثقافاتها في خدمة السلام الذي تفرضه اسرائيل... يفترض ان يحقق العرب كل ذلك، وكثيراً غيره، لكي ينالوا شيئاً من الثقة الأميركية. وإذ تتغير الادارات في واشنطن فإن سياسة التأييد المطلق لاسرائيل لا تتغير، مثلما ان سياسة احتقار العرب لا تتغير. إذاً، مفتاح "الثقة" موجود أيضاً في واشنطن. ولن تستطيع ان تحصل من العرب أكثر مما حصّلت، فليس كل الدول العربية موريتانيا. وما دامت واشنطن تهتم بالشارع العربي وردود فعله عن الأحداث، فلعلها تعلم ان أكثر ما يثير هذا الشارع ويغضبه هو خضوع الحكومات للمشيئة الأميركية، وأكثر ما يرضيه ان يرى حكومته رافضة لتلك المشيئة أو متمردة عليها حتى لو كان هذا نادراً. الاثنين قال كولن باول بضرورة العودة الى المفاوضات "بعد وقف العنف"، وحرص على عدم القول بوقفه من الجانبين "فوراً ومن دون شروط". هذا يعني ان باول تقصد الجهل في مَن يقتل مَن، واعتقد أن تصريحاً مدروساً ومعقماً يمكن أن يجلب الاحترام والتقدير للسياسة الأميركية... الثلثاء بنى ارييل شارون على كلام باول حرفياً جملة أكاذيب صاغها بلهجة "ايجابية". أي انه خاطب العرب ليقول ان باول يقول ما أقول فافهموا، وخاطب باول ليشكره على تحديد الفرصة كي تكمل عصابات اسرائيل خطتها قتلاً وتدميراً. عملياً، تعامل باول مع تقرير "لجنة ميتشل" بميوعة مكشوفة، على رغم ان التقرير بصيغته النهائية ارتأى التركيز على مسؤولية الفلسطينيين ودورهم وخفض مستوى اهتمامه بالمعالجة الاستراتيجية المجدية التي حددها ب"وقف الاستيطان". وبرهن باول، مرة أخرى، انه لا يمكن أن يكون وزيراً مختلفاً في الرؤية والعمل، وها هو يعتمد أكثر فأكثر على ارضاء اللوبي الصهيوني ليضمن بقاءه في المنصب. ولذلك فهو ادرك، كما أدرك من سبقوه، ان اغضاب اسرائيل أمر ممنوع مهما بالغت في الغلط. كيف يمكن أن تكون لباول مصداقية عندما يتحدث عن العودة الى المفاوضات اذا كان تبنى خطة شارون لتدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية، وإذا كان يترك مجرم الحرب يقوده ويحدد له خطوط سياسته. حتى الآن لم تخرج ادارة بوش برمتها من الدائرة التي وضعها فيها شارون، وبالتالي يصعب التكهن بمدى قدرتها على اخراج شارون من خطته ليعود من مغامرته الدموية الى طاولة المفاوضات. لا تزال الأولوية عند باول لترتيب الملف العراقي، وهذا سيستغرق عنده مزيداً من الوقت ومزيداً من الابتزاز للعرب عبر اطلاق التجاذب بين الملفين العراقي والفلسطيني. مشكلة السياسة الأميركية انها اسرائيلية مئة في المئة، وفي الملفين معاً.